على السفن الحربية الأمريكية والبريطانية أن تعبر المحيط الأطلسي، تُبحر مطمئنة لوجود غطاء جوي كثيف يحميها من هجمات الذئاب الرمادية. لكن ذئاب هتلر تكمن لهم في الثقب الأسود، منطقة في المحيط الأطلسي لا تقدر الطائرات على التحليق فوقها. كثيرًا ما افترست الذئاب الرمادية، الاسم المطلق على الغواصات الألمانية، السفن التجارية والحربية للحلفاء. لكن عام 1942 كان الكلب السلوقي، جِريهاوند، يسير قائدًا لمدمرتين أمام القطيع الحربي لحمايته لمدة 50 ساعة يختفي فيها الغطاء الجوي.

استطاعت المدمرة جرايهاوند أن تحمي أسطولها بعد معركة شرسة استمرت لـ 50 ساعة متواصلة. لم يكن هذا هو الحال دائمًا، لهذا خلّدت هوليود تلك الملحمة بفيلم «جرايهاوند» من كتابة وإنتاج وبطولة الممثل الأمريكي توم هانكس.

في نهاية عام 1941، قررت الغواصات الألمانية أن تتجه إلى نيويورك، وأن تقصف السفن الراسية على الشواطئ بالطوربيدات الحربية. يصف الألمان الأمر بأنه كان أشبه باصطياد البط في بركة ماء راكدة. قلة الخبرة الأمريكية في مجال الغواصات أدى لخسائر ضخمة على طول الساحل الشرقي. وخسرت قرابة 500 سفينة أمريكية مع طواقمها. ومنذ تلك اللحظة والعالم يعتبر الغواصات السلاح الأهم في ترسانته العسكرية.

الغواصات تتيح للجيش أن يتربص بصمت في أعماق المحيط، تنتظر الأمر لمهاجمة أي هدف في أي مكان وفي أي وقت. فالغواصات بالرغم من ضخامتها فإنها غير مرئية للعدو حين تتسلل بخفة في أعماق المحيط. ومع التطور المتزايد في الغواصات تصبح أكثر سرعة، وأكثر قابلية للمرونة وللنجاة من الاستهداف وإصابة الهدف والفرار بأقصى سرعة ممكنة.

الغواصة الأسطوانية

لم يكن الأمر كذلك في البداية فقد مرت الغواصات بمراحل عديدة حتى انتهى بها الأمر إلى الحال الذي نعرفه اليوم. بدأ الأمر قرابة عام 300 قبل الميلاد، حين قرر الإسكندر الأكبر أنه بحاجة لرؤية ما يوجد تحت سطح البحر. اهتدى الإسكندر إلى فكرة أنه لو وضع مجموعة من الرجال في صندوق زجاجي، وألقوا به في البحر فسوف يحفظ لهم حياتهم، وفي نفس الوقت يعودون ليخبرونه ماذا رأوا.

ظلت تلك الحادثة موجودة في كتب الأساطير لا يعبأ بها أحد. حتى أثارت سؤالًا في ذهن ويليام بورن عام 1578. تساءل الرجل: هل بالإمكان صناعة سفينة يمكنها الطفو مرة أخرى إذا غرقت؟ تطور السؤال مع ويليام إلى هل يمكنه تصميم سفينة تطفو وتغرق باختيارها الكامل؟ ويليام كتب الأمر كنظرية، إذا أرادت السفينة أن تطفو فعليها أن تزيد من مساحة سطحها وحجمها، أما إذا أرادت الغرق، فعليها أن تُقلص مساحة سطحها وحجمها. لم يُقدّم ويليام حلًا، نظريًا أو علميًا، لمعضلة تقليص الحجم وزيادته.

عام 1620 التقط كورنيلوس دريبل، الهولندي، تلك الفكرة. واستطاع بناء أول سفينة تشبه نوعًا ما الغواصة التي نعرفها. سفينة كورنيلوس كانت سفينةً مغلقة، مقدمتها مدببة، ويخرج منها 12 مجدافًا. يمكن للمجاديف أن تتجمع تحت المقدمة المدببة، ما يضطر السفينة المغلقة للغوص في الماء. وإذا أرادت الطفو مرة أخرى، يقوم الطاقم بتوزيع المجاديف على مسافات متساوية ما يؤدي إلى رفع السفينة للأعلى مرة أخرى.

عام 1636 أضاف مارين ميرسين رأيًا سيقلب الموازين تمامًا. القس الفرنسي اقترح أن يتم بناء الغواصات من النحاس. وتكون عبارة عن أسطوانة كبيرة جدراها من النحاس، لكنها طبقة رفيعة. ورغم قلة سُمك الجدار، فإن القس قال إن كونها أسطوانية بالكامل سيجعل القارب يتحمل الضغط، لأنه سيكون متساويًا وموزعًا على كافة النقاط.

الغواصات الانتحارية

إضافة مهمة لكنها لم تلقَ اهتمامًا حقيقيًا، لأن الغواصات في تلك العصور كانت مجرد رفاهية يريد بها المترفون استكشاف ما تحت البحار. لم تكن ذات فائدة في الصيد، ولا في الحرب. حتى جاء عام 1645 وقامت معه الحرب الأنجلو هولندية. قام لويس دي سون ببناء قارب ضخم طوله يزيد عن 20 مترًا.

كان هدف ذلك القارب أن يقترب من سفينة العدو دون أن تراه، ثم يقوم بثقبها لتغرق. أطلق لويس القارب في البحر، وانتظر من طاقمه التحرك نحو الهدف، لكن القارب العملاق لم يطاوعهم، فغرق وانتهت المحاولة الأولى لتسليح الغواصات بالفشل.

مرت عقود طويلة دون أن يعاود الإنسان الكرة. حتى جاءت حرب الاستقلال الأمريكية. عام 1776 بنى ديفيد بوشنيل غواصة على شكل سلحفاة ضخمة. ديفيد كاد أن ينجح في بناء الغواصة المثالية، فقد توصل إلى الأساس النظري الذي نعتمد عليه حاليًا في بناء الغواصات. خزانات مياه تُملأ بالمياه فتهبط الغواصة للأسفل، وحين تُفرغ منها المياه ويحل الهواء محلها ترتفع الغواصة مرة أخرى.

لكن العائق الوحيد أن غواصة ديفيد كانت تتسع لفرد واحد كي يمكنها الحركة بسرعة أكبر. هذا الفرد يحرك عددًا من المراوح الموجودة خارج الغواصة كي يوجهها إلى الجهة التي يريد. نجحت الغواصة في الحركة، نجحت في الوصول للهدف، لكن الفرد الموجود فيها لم يعرف كيف يمكنه أن ينقل شحنة المتفجرات الموجودة بجواره في قلب الغواصة إلى الخارج، سواء أسفل السفينة أو على سطحها.

اقتنص نابليون بونابرت الفكرة، خصوصًا وهو يجابه الإمبراطورية البريطانية صاحبة الأسطول الضخم. عام 1800 تمكن فريق نابليون من ابتكار غواصة تصل إلى 4 أمتار في عمق المياه، وتسير بسرعة مقبولة. لكن ما يعيبها أنها اعتمدت على شراع طويل يحركها أثناء وجودها على سطح المياه. وحين تغوص يظل الشراع ظاهرًا، لهذا كانت كل سفن الأسطول البريطاني تراها حين تقترب، فإما تبتعد السفينة، أو تصبح الغواصة هي الفريسة لا الصياد.

أول طوربيد في التاريخ

باتت فكرة الغواصات مثيرة للسخرية بعد غواصة نابليون. 6 عقود مرت دون أن يعيد الأمريكيون إحياء الفكرة مرة أخرى. ففي الحرب الأهلية الأمريكية بدأ الطرفان في تطوير غواصات مختلفة. وُلدت من رحم تلك المحاولات الغواصة هانلي. كانت فكرة هانلي هي تدمير سفينة العدو عبر شحنة متفجرة مربوطة على مقدمة الغواصة الطويلة. بالفعل وصلت هانلي لهدفها، كما فجرّته أيضًا، لكن بالطبع لم تنجُ هانلي، فالشحنة المتفجرة أحدثت ضررًا بالغًا بها أدى لغرقها.

غاصت هانلي، لكن طفت فكرة حرب الغواصات للأبد. لكن ظلت العقبة الوحيدة كيف يمكن للغواصة تدمير الهدف والنجاة في آن. عام 1887 دخل العثمانيون على الخط واشتروا غواصة تعمل بالبخار من بريطانيا. أُطلق على الغواصة اسم السلطان عبد الحميد الثاني. كان مطلب العثمانيين واضحًا في تلك الغواصة، أن تطلق قطعة ذخيرة أثناء وجودها تحت سطح المياه بالكامل.

بُنيت الغواصات، ثم فُككت وشحنت في صناديق، وأعيد تجميعها في إسطنبول مرة أخرى. كانت الغواصة تُكلف 9 آلاف جنيه إسترليني، لكن دفع العثمانيون 11 ألف مقابل استلام الغواصة في شهرين فقط. حين جرّب العثمانيون الغواصات لم تعجبهم سرعتها، لكنهم تغافلوا عن تلك النقطة حين رأوا أن عبد الحميد الثاني ستكون أول غواصة في التاريخ تطلق طوربيدًا متفجرًا من بطنها وهي تحت سطح المياه بالكامل.

لم يكن البريطانيون مقتنعين بالغواصات، رغم أنهم يبيعونها، لكنها بالنسبة لهم كانت مصدر دخل فحسب. جون فيليب هولاند أراد أن ينقل الأمر لمرحلة أخرى، فقرر وضع المحرك الكهربائي بجانب البخاري. لم توافق إدارة البحرية البريطانية على دعم تلك الفكرة لعدم اقتناعهم بالغواصات ككل. لكن سُمح لهولاند بالعمل عامةً ربما توافق أبحاثه هوى بعض المشترين.

الغواصات تسحق السفن

عام 1910، رأى الأدميرال جاكي فيشر، قائد البحرية البريطانية، 4 سفن تغرق في مناورة تدريبية بعد مداهمة الغواصات الكهربائية لهم. فقرر فيشر دعم هولاند بـ 5% من ميزانية البحرية البريطانية للعمل على تطوير الغواصات البحرية. وتُعتبر الغواصات التي طورها هولاند هي الشكل النهائي الذي نراه اليوم في الغواصات.

دخلت ألمانيا على الخط بسبب التسارع البريطاني في تصنيع الغواصات. صنّعت ألمانيا قوارب حرف يُو، سريعة وقاتلة. كانت تميل إلى كونها غواصات انتحارية أقرب من كونها غواصة تريد أداء مهمتها والفرار. استطاع الألمان بتلك الغواصات المدمرة أن يُغرقوا 3 آلاف سفينة للحلفاء. اشتاط الحلفاء غضبًا ولم يجدو حلًا بحريًا لتلك القوارب، لذا تطوعت القوات الأمريكية الجوية بتغطية المحيطات من الجو كي تقتنص القوارب الألمانية قبل أن تقترب من السفن.

نجحت الطريقة الأمريكية، فعاد العالم للاقتناع بأن الغواصات يجب أن تستمر في الاختفاء عميقًا، وألا تظهر على السطح أبدًا. موسوليني أراد أن يشارك في هذا السباق فابتكر الإيطاليون غواصة انتحارية، بنفس تصميم الطوربيد. تنطلق بقوة هائلة، يوجد على سطحها رجلان يرتديان ملابس غطس كاملة. يتحكم الرجلان من الأعلى بسرعة ووجهة الغواصة. تقف الغواصة أسفل السفينة المستهدفة، يضبط الرجلان المُفجر، يقفزان من الغواصة، يحاولان الابتعاد قدر الإمكان قبل الانفجار.

هزيمة الألمان جعلت المشروع الألماني لتطوير الغواصات يضمحل. انحصر الأمر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في إطار الحرب الباردة. وانصرفت الغواصات عن مهاجمة السفن إلى مهاجمة الغواصات الأخرى. وأصبحت الدول تتعامل مع الغواصات باعتبارها مخازن مخفية للأسلحة المهمة والنووية. وأطلقت الولايات المتحدة أول غواصة تعمل بالطاقة النووية، شديدة السرعة ويمكنها البقاء تحت سطح المياه لعقود متتابعة دون أن تضطر للطفو أبدًا.

النهم للغواصات لا يتوقف

الغواصات باتت عنصرًا حيويًا في الترسانة العسكرية لدول العالم الحديث. فحسب إحصاء عام 2021 تحتل الصين المركز الأول عالميًا في عدد الغواصات بامتلاك 79 غواصة، ثم الولايات المتحدة بامتلاك 68 واحدة، وثالثًا روسيا بـ 64 غواصة، أما إيران فتمتلك 29 غواصة.

ودخول الطاقة النووية في الخطة جعل الدول تتساءل حول إمكانية استخدام الغواصات كمنصات إطلاق للأسلحة النووية. وبالفعل تمكنت بعض الدول مثل الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين من امتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية، وقادرة على إطلاق رؤوس نووية أيضًا.

التصريحات الرسمية لتلك الدول تقول إن امتلاكها لغواصات نووية هدفه الردع لا الهجوم. لأن تلك الغواصات المخفية بدقة في قاع المحيطات، يمكنها الانتقام لدولتها إذا ما تعرضت الدولة لهجوم من أي نوع من أي دولة معادية. وإذا مات رئيس الدولة في ذلك الهجوم النووي، فإن قراره يكون موجودًا في خطاب يوجد في منطقة محددة من الغواصة النووية. يكتب الرئيس خطابه في أول أيام توليه، ويضع لقائد الغواصة خارطة طريق حال اختفت الدولة.

الغواصات النووية تمتلك قدرة مذهلة على التخفي في المحيطات، فإذا وُجدت غواصتان الفاصل بينهما متر واحد فقط في قاع المحيط، فلا يمكنهما رؤية بعضهما. كما برهن على ذلك حادث عام 2009 حين اصطدمت الغواصتان الفرنسية والبريطانية في نقطة ما في قاع المحيط لم يسمّها أحد. الغواصتان النوويتان لم يتمكنا من رؤية بعضهما حتى بعد الاصطدام، ولولا أثر الاهتزاز ما شعرا به.

جوتلاند تهين البحرية الأمريكية

في عام 2005 تقاتل الأسطول الأمريكي البحري محميًا بحاملة الطائرات رونالد ريجان مع غواصة واحدة. غواصة سويدية تعمل بالطاقة التقليدية، الديزل. الغواصة السويدية استطاعت أن تتملص من السونار الدقيق لحاملة الطائرات والأسطول الموجود معها، وسددت لهم عددًا من الضربات الموجعة.

الولايات المتحدة شعرت بالإحباط والإهانة. فهي التي أصرت على إجراء مناورة تدريبية مع الجانب السويدي. وهي أيضًا التي أصرت سابقًا على أن الديزل لم يعد صالحًا للعمل في الغواصات. لكن الغواصة جوتلاند، صاحبة المحرك الهادئ، والمزودة على سطحها بـ 27 مغناطيسًا قويًا يجعل من الصعب كشفها باستخدام أجهزة البحث عن الشذوذ المغناطيسي. حرص الأمريكيون على استئجار الغواصة التي أحرجتهم، مع طاقمها، لمدة عامين لمعرفة كيف نجحت في ذلك.

هذا الإصرار الأمريكي لتفادي الأخطاء فيما يتعلق بالغواصات، ينبع من كون الغواصات حاليًا باتت بمثابة الصفائح التكتونية التي توجد عليها القارات، أو الأعمدة التي تحمل سقف العالم وتحميه من الانهيار. فوجودها في منطقة غير معلومة يجعلها خارج الاستهداف، ويمنحها في الوقت ذاته أفضلية الانتقام.

إداركًا من الدول لأهمية سلاح الغواصات فإن من المعلوم داخل الجيوش أن أفضل الطعام هو ما يحصل عليه أفراد الغواصات. كما تتوافر لهم وسائل الترفيه بكثرة، وعكس المتوقع فإن الجانب الروسي يبالي كثيرًا بذلك الجانب لذلك يبني غواصات أعرض تتسع أسرة منفصلة لأفراد الطاقم، بينما تهتم الولايات المتحدة بسرعة ونحافة الغواصة على حساب راحة طاقمها.