ﻻ يخفى على كثيرين أنه من أهم المحظورات في فن السينما أن ينظر الممثل إلى الكاميرا بشكل مباشر، وكأنما ينظر في عيون المشاهدين، والأصل في ذلك أﻻ يخرق خصوصية الحالة الخيالية التي يحياها المشاهد حيث يتفاعل مع الصور المعروضة أمامه على أنها واقع حقيقي يراه، أو بتعبير أدق كأنه حلم طويل تتحول فيه الكاميرا إلى عيون خياله. ولذلك فإن نظر الممثل إلى الكاميرا بشكل مباشر يقطع هذا الخيط الرفيع بين الواقع والخيال، ويتسبب في إفاقة المشاهد من هذا الحلم الطويل ليجد نفسه في قاعة كبيرة مظلمة.

الكثير من الكتابات والنظريات وضعت في الحديث عن السينما بين الواقع والخيال كلها تدور في فلك نفس الفكرة، وربما يحدث في بعض الحالات الاستثنائية أن يتم توظيف هذا الخرق بما ﻻ يمنع من استمرار حلم المشاهد، كذلك التكنيك المتبع في المسلسل الأمريكي «Modern Family» حيث يظهر الأبطال في بعض المشاهد وكأنهم في حوار ثنائي مع القابع خلف الكاميرا، أو في تلك المشاهد الختامية في بعض أفلام «إسماعيل يس» التي يخرج فيها عن تقمصه ويخاطب المشاهدين بشكل مباشر.

وعليه، فإن جودة الفليم السينمائي تقاس بمدى قدرته على إقناع المشاهد بهذا الحلم الطويل،وهو ما يتوقف على جودة الصنع في عدد من العناصر الأساسية في فن السينما كالإخراج والتصوير والمونتاج والأداء وغيرها.

بعد الاحتفاء الدولي الواسع بفيلم «اشتباك»في مهرجان كان في مايو/أيار الماضي، جاء العرض الأول للفيلم في مصر أمس الأربعاء السابع والعشرين من يوليو/تموز، ليشهد إقبالا كبيرا من الجمهور وصل لحد اكتمال جميع دور العرض بالحفلات المسائية. في هذا التقرير نرصد مجموعة من العناصر الفنية بفيلم «اشتباك» والتي تضافرت لتصنع من هذا العمل تحفة فنية.


التصوير السينمائي

الفيلم الأمريكي «Room» من إنتاج عام 2015، والذي تدور أحداثه حول حادثة اختطاف شابة وحبسها بغرفة صغيرة لسبع سنوات متواصلة،تم تصوير جزء كبير من الفيلم في غرفة ضيقة ﻻ تتجاوز مساحتها 10 أمتار، وقد استخدم المخرج عددا من الطرق المبتكرة للتصوير داخل الغرفة المغلقة دون الحاجة إلى إزالة الحوائط، فحظي الفيلم باستحسان نقدي واسع وحصل على أربعة ترشيحات لجائزة الأوسكار من بينها جائزتا أفضل فيلم، وأفضل إخراج.

أما في فيلم «اشتباك» فقد تم التصوير بالكامل من داخل عربة للترحيلات ﻻ تتجاوز مساحتها 8 أمتار فقط، حيث يرى المشاهد أحداث الفيلم بعيون أبطاله المحبوسين داخل هذه العربة. ربما كان التصوير في فيلم اشتباك هو أكثر العناصر الفنية إبداعا وابتكارا، فبالإضافة لصعوبات التصوير داخل هذه المساحة الضيقة والتي تضم عددا كبيرا من الممثلين، كان هناك العديد من مشاهد الحركة التي شهدت اشتباكات داخل العربة نفسها والتي نفذها مدير التصوير «أحمد جبر» بمنتهى الدقة والحرفية، كما أن حركة الكاميرا جاءت شديدة الانسيابية دون أن يعرقلها كثرة العدد والحركة داخل هذه المساحة الصغيرة.

تجاوز هذا الإبداع مداه في استخدام تكنيك اللقطات الطويلة «Long Shots» التي اعتمد عليها المصور أكثر من مرة طوال الفيلم،وهو التكنيك نفسه الذي اعتمد عليه مدير التصوير المكسيكي «إيمانويل لوبزكي»، والذي استطاع من خلاله أن يقتنص ثلاث جوائز أوسكار في السنوات الثلاثة الأخيرة في أفلام «Gravity 2013»، و«Birdman 2014»، و«The Revenant 2015»، وتكنيك «اللقطات الطويلة» هو أسلوب في التصوير تستمر فيه الكاميرا في الحركة لفترة طويلة دون أن يمتد مقص المونتير إلى المشهد، وهو أسلوب شديد الصعوبة في الأماكن المفتوحة، فما بالنا بهذه المساحة الضيقة؟


الأداء التمثيلي

فيلم اشتباك هو فيلم درامي واقعي، وفي فيلم من هذا النوع ترتفع أهمية عنصر التمثيل إلى حدها الأقصى، ويعول عليه بشكل كبير في نجاح العمل ككل، فكلما زاد إتقان الممثلين في تقمص الشخصيات التي يؤدونها، كلما اقترب حلم المشاهد من الواقعية.

في فيلم اشتباك جاء الأداء التمثيلي مميزا من كافة طاقم العمل، وبشكل خاص من الأبطال الشباب والوجوه الجديدة أمثال «خالد كمال» و«حسني شتا» و«مي الغيطي»، و«محمد السباعي». أما أكثر الأبطال الشباب لفتا للانتباه فكان الممثل «أحمد مالك» الذي أدى دور «مانص»، فعلى الرغم من قلة الجمل الحوارية التي يلقيها «مالك» بطول الفيلم إﻻ أن حضوره كان مميزا خاصة في اللقطات الجماعية التي ظهرت فيها موهبته الحقيقية في التعبير الجسدي.

وتجدر الإشارة هنا إلى إحدى مراحل صناع العمل السينمائي والتي ترتبط بشكل كبير بالأداء التمثيلي وهي مرحلة «الكاستنج». والكاستنج هو عملية اختيار الممثلين الملائمين للشخصيات وتسكين كل ممثل في شخصيته كما رسمها السيناريو، والأمر ﻻ يتوقف على اختيار المواصفات الشكلية المناسبة للشخصية وحسب، ولكنه يتجاوز ذلك لاختيار أفضل ممثل بمقدوره استحضار روح هذه الشخصية وتجسيدها. وقد جاءت اختيارات الممثلين في محلها، ونجح كل ممثل في تأدية دوره بإتقان شديد، دون زيادة أو نقصان.


المونتاج

في فيلم «وصول القطار إلى المحطة»للأخوين «لوميير»، والذي يؤرخ لبداية السينما في العالم، كان هناك ثمة قطار يقترب من الشاشة بإحدى المشاهد، ففزع المشاهدون لدى رؤيته وحسبوا أن قطارا ما سيخرج من خلف هذا الستار ليدهسهم في الحال. العديد من المدارس السينمائية العالمية تشير إلى هذا المشهد تحديدا لتعريف فن المونتاج. والمونتاج السينمائي هو عملية تقطيع اللقطات بمشاهد الفيلم، وهو الأمر الذي قد يبدو بسيطا ولكنه ينطوي على مساحة رحبة للإبداع تتوقف بالأساس على تقدير التوقيت المناسب للقطع، كما يساهم هذا العنصر بشكل كبير في نقل الانفعال الحقيقي إلى المشاهد، خاصة في مشاهد الحركة.

في فيلم اشتباك لم تكن مهمة المونتير «أحمد حافظ» يسيرة، حيث أن مشاهد الحركة هي قوام عدد كبير من مشاهد الفيلم. مشاهد الاشتباكات الكثيرة التي تدور داخل وخارج عربة الترحيلات تعامل معها «حافظ» بقدر كبير من الإتقان واستطاع أن ينقل الانفعال إلى المشاهد بحيث يصدق وصف البعض للفيلم بأنه «يحبس الأنفاس»، فالمشاهد طوال الفيلم يشعر وكأنه أحد المحبوسين داخل العربة، ويتفاعل وينفعل مع حركتها المنتظمة والمفاجئة، ومع تأثرها بالاشتباكات الدامية التي تجري بالخارج، والمشاجرات المتواترة التي تدور بين المحبوسين بالداخل.


الإخراج

مهمة المخرج الأساسية هي إدارة كل هذه العناصر وغيرها، والإشراف على كافة مراحل الصناعة حتى يخرج الفيلم إلى دور العرض، وقد قام المخرج محمد دياب بمهمته على أكمل وجه.

فيلم «اشتباك» هو بحق مغامرة فنية، فبعيدا عن الأبعاد السياسية للفيلم سواء في موضوعه، أو ما أثاره من جدل كبير منذ ظهوره الأول في مهرجان «كان»، فإن ظروف إنتاجه وصناعته غاية في الصعوبة، ومليئة بالمعوقات التي استطاع الفيلم -من حسن حظنا- أن يتجاوزها.

تمثلت أكبر هذه العوائق في مشاهد الاشتباكات العديدة التي يمتلئ بها الفيلم، فالتحكم في هذا العدد الكبير من الممثلين الثانويين أو «الكومبارس» هي مسألة مرهقة، وفكرة تنفيذ اشتباكات حية في الشارع في وضح النهار هي أقرب إلى المستحيلة، خاصة في مثل هذه الظروف السياسية المتوترة والمرتبكة التي يمر بها الشارع المصري، غير أن «محمد دياب» قد نجح في تجاوز هذه العقبة الكبيرة.

التوظيف الأمثل لكافة العناصر، والتحكم في هذا العدد الضخم من الممثلين، والحفاظ على انسيابية وطبيعية حركتهم في مشاهد الحركة، والتصوير في هذا المكان الضيق، كل هذه النجاحات تحسب للمخرج الذي استطاع أن يجيد إدارتها والتغلب على معوقات تنفيذها.


الاشتباك الذي أثاره «اشتباك»

بظهور الفيلم إلى النور تجددت الجدالات القديمة بشأنه، وثارت مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض، وبلغ الاستقطاب مداه، البعض يتحدث عن تجربة محمد دياب في فيلم «الجزيرة 2»، والبعض يتحفظ على الدعايا غير اللائقة للفيلم، والبعض الآخر يطالب الفيلم بالتعبير عن توجهه ورأيه السياسي.

ربما يبدو هذا التقرير مغاليا في نظرته الإيجابية إلى الفيلم، ولكن هذه النظرة المبالغة لم تأت من فراغ، وكذلك كان الاحتفاء الدولي من أهم نقاد وصناع السينما في العالم، في مهرجان «كان»، أكبر المحافل السينمائية في العالم. فالفيلم بحق تحفة فنية، أجاد صناعه نحتها، وأتقنوا نقش جميع عناصرها.

فإذا ما استطاع المشاهد أن يتجاوز كافة السجالات السياسية بشأن الفيلم وصناعه، سيجد فيه متعة فنية حقيقية، جزء كبير من هذه المتعة ﻻ يتحقق في غير دار للعرض، حيث القاعة المظلمة، والشاشة العظيمة، والحلم الكبير.