في الرابع والعشرين من مايو/أيار 1958 هبط جنود مظليون في جزيرة كورسيكا الفرنسية، وسيطروا عليها كخطوة تمهيدية في طريقهم إلى باريس. الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت ولم تتعرض فرنسا لإنزال مماثل منذ إنزال النورماندي في 1944، إلا أن قوات «الغزو» هذه المرة كانت قوات فرنسية، وبغرض تنفيذ انقلاب عسكري!

وصلت فرنسا لانغلاق في الأفق السياسي إثر تصاعد النزاع بين أحزاب اليمين واليسار على خلفية الثورة الجزائرية الملتهبة. اتهم جنرالات الجيش القادة السياسيين بعدم تقديم الدعم الكافي لهم لقمع الثورة، وخشية من إقدام الحكومة اليسارية على «إهانة جديدة للشرف الفرنسي» بالانسحاب من الجزائر، كما حدث سابقًا في فيتنام وكمبوديا، قرر قادة عسكريون الإطاحة بالحكومة المدنية، وإعادة الجنرال ديجول، بطل حرب التحرير، إلى السلطة من عزلته الاختيارية التي فرضها على نفسه رفضًا للنظام السياسي القائم في الجمهورية الرابعة.

سيطر جنرالات الجيش، الذين كانوا على صلة وثيقة بديجول ومؤيديه، على حكومة الاحتلال في الجزائر، وقاموا بإنزال جوي في كورسيكا، مهددين بالتقدم نحو باريس إن لم ينصب البرلمان ديجول رئيسًا للحكومة.

بادر رئيس الجمهورية تحت هذه الضغوط لاستدعاء ديجول ودعاه لتولي رئاسة الوزراء. وافق ديجول على العرض لكن بشرطين اثنين؛ الأول: أن يُمنح سلطات استثنائية لمدة 6 أشهر، والثاني: أن يُمنح الحق في إنهاء الجمهورية الرابعة، ذات النظام البرلماني، الفاشل من وجهة نظر ديجول، وكتابة دستور جديد ينقل فرنسا إلى النظام الرئاسي والجمهورية الخامسة.


أحيانًا.. تجري الرياح بما تشتهي السفن

في يونيو/حزيران 2015، وبعد خسارة العدالة والتنمية لأغلبيته البرلمانية، بدا هدف النظام الرئاسي، الذي يسعى لإقراره، بعيدًا بعيدًا، إلا أن رياحًا عاتية واجهها أردوغان أوصلته لمبتغاه.

رغم التهديد الخطير الذي مثلته محاولة الانقلاب، إلا أن أردوغان استطاع الاستفادة من فشلها في تمرير التعديل الدستوري.

استعاد العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، لكن هذا الانتصار لم يكن كافيًا لتمرير التعديلات الدستورية والوصول إلى مشهد الـ 16 من أبريل/نيسان 2017، لولا «بهجلي»، و«جولن».

دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية، الذي لطالما هاجم العدالة والتنمية وشخص أردوغان، واتهمهما بالخيانة بسبب سعي العدالة والتنمية للوصول إلى اتفاق سلام وتسوية مع تنظيم حزب العمال الكردستاني ينهي به عقودًا من الاقتتال، عاد ليقترب مرة أخرى من حكومة العدالة والتنمية نتيجة لأمرين:

الأول: وقوف العدالة والتنمية في مايو/أيار 2016 في صف بهجلي ضد التيار الذي تبلور داخل حزب الحركة القومية بهدف الإطاحة ببهجلي من قيادة الحزب، والذي أشيع أن زعيمته «ميرال أكشنر» على صلة بجماعة جولن.

الثاني: تقارب خط العدالة والتنمية مع الخط القومي إثر توقف عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني جراء عودة الحزب للتفجيرات والعمليات الإرهابية في 2015، مما حدا حزب العدالة والتنمية للعودة للخيار العسكري في مواجهة التمرد، ما واكبه أيضًا خطاب أكثر توافقا مع الخطاب القومي، لاجتذاب الناخب القومي، إلى حد تلويح رئيس الحكومة بنعلي يلدريم بشعار ـ«الذئب الأشهب»، الذي يعد أحد شعارات القوميين الأتراك، أثناء أحد خطاباته في البرلمان.

إلا أن تحويل هذا التقارب إلى توافق حول تعديل دستوري كان الفضل الأكبر فيه لمحاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016. من الممكن تعداد عشرات الأسباب لفشل هذه المحاولة، بخلاف سابقاتها، إلا أنه ليس من الممكن تجاهل الدور الحاسم لأردوغان في فشل الانقلاب، ابتداء من رفضه الهروب إلى الجزر اليونانية القريبة وإصراره على الطيران إلى إسطنبول وسط سماء تحكمها مقاتلات الانقلابيين، وانتهاءً بدعوته الملايين من الشعب للنزول إلى الميادين ومقاومة الانقلاب.

بدا أردوغان في تلك اللحظة زعيمًا حقيقيًا قادرًا على استنفار قوى الشعب للوقوف أمام الدولة العميقة والوصائية العسكرية التي حكمت تركيا أجيالًا متعاقبة منذ تأسيس الجمهورية. وبينما هو في ذروة شعبيته استغل أردوغان هذه اللحظة، وطرق على الحديد الساخن.


طموح تركيا .. أم طموح أردوغان؟

لا يمكن أن توجد لدينا أحزاب تناوئنا، الاتحاد جوهري لنا، ويهمني، من وجهة الكرامة والشرف، أن أظل رئيسًا وحيدًا، لهذا الحزب الوحيد، ورئيسًا للدولة، في نفس الوقت.
مصطفى كمال أتاتورك، ردًا على من طالبوه بتعدد الأحزاب

http://gty.im/607676686

يقدم أردوغان نفسه للشعب التركي بصفته «أتاتورك جديد»، لفظًا ومعنى، فهو باني «تركيا الجديدة» التي يُراد لها أن ترث الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال عقب حرب الاستقلال. وحتى هذه الأخيرة يقارنها أردوغان بـ «حرب الاستقلال الثانية» التي يقودها هو في البلاد؛ فإن كان أتاتورك خلص تركيا من احتلال الدول الأجنبية لأراضيها، فقد خلص أردوغان الشعب التركي من الاحتلال الداخلي المتجسد في الوصائية التي فرضتها النخب الكمالية، واستئثارها بالمال والسلطة عن الشعب، ليتجلى هذا كله في صورة سلسة طويلة من الانقلابات العسكرية ضد الحكومات المنتخبة، التي لم توافق هوى هذه النخب الوصائية.

في هذا السياق يصبح مفهومًا تصريح أردوغان الدعائي بأن هدف التعديلات الدستورية هو إنهاء حكم «بؤر الوصاية والأوليجاركية» القائم في تركيا، وتضحي زيارة أردوغان لأضرحة «مندريس»، و«أوزال»، و«أربكان» صبيحة اليوم التالي للتصويت واضحة المعنى والرمزية.

اقرأ أيضًا :ديموقراطية «التركي الأسود»

لا يمكن لذي عينين ألا يرى الجانب الشخصي في تمرير هكذا تعديل في نظام الحكم. أردوغان الطَموح المجسِّد في ذاته صفات الزعيم بكل مميزاتها ومثالبها، يريد أن يحصل على أوسع سلطة تنفيذية ممكنة في البلاد، وبصورة مباشرة. إن كان لا يستطيع أن يحظى بالسلطة التي تمتع بها أتاتورك إبان تأسيسه للجمهورية الأولى، ليحظى على الأقل بأوسع سلطة ممكنة يتيحها الإطار الديموقراطي ليأسس «الجمهورية الثانية».

إلا أنه، مع ذلك، فمن التعامي القول بأن الدافع الشخصي وحده كان هو المحرك الوحيد والحقيقي لمسألة التحول للنظام الرئاسي، أو أنه فقط هو ما أقنع الشعب والنخب السياسية بتمرير هكذا تعديل.

فالمعضلة السياسية التركية المتمثلة في نظام هجين، برلماني لكن للرئيس فيه من الحصانة والصلاحيات ما يمكنه من صفع وجه رئيس الوزراء بكتيب الدستور، كما فعل «نجدت سيزار» مع «بولنت أجاويد»، قد صُمم خصيصًا لصالح الجنرال «كنعان إيفرين» إثر انقلابه في عام 1980 وأثبت فشله ووصوله لطريق مسدود لجملة أسباب:

أولاً: الفشل التاريخي؛ فعلى مدار عقود طويلة أنتج النظام البرلماني في تركيا عشرات الحكومات الضعيفة والعاجزة عن إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية، أو قيادتها نحو تنمية حقيقية واسعة، الأمر الذي مثل مبررًا تقليديًا للانقلابات المتكررة، التي ادعت إنقاذ البلاد من الحكومات الائتلافية الضعيفة غير القادرة على الحكم.

ثانيًا: غياب نموذج الحزبين الكبيرين التقليدي؛ ففي الديمقراطيات البرلمانية المستقرة، عادة ما يوجد حزبان وسطيان يتفقان في الرؤية الكلية للدولة، ويختلفان في السياسات الإجرائية، ويقومان بتداول السلطة فيما بينهما عبر نظام انتخابي مستقر. هذه الصورة تختلف تمامًا عن الواقع في تركيا، التي تنهار فيها الأحزاب وتأسس أحزابًا أخرى جديدة كل بضع سنين.

ثالثًا: الاستقطاب الهوياتي؛ فحتى الأحزاب الكبيرة الموجودة معظمها قائم بالأصل على أسس هوياتية، كالقومية التركية والكردية والعلمانية والمحافظة الإسلامية، مما يجعل الشقاق بينها حادًا ويحول دون التقائها على أرضية مشتركة. الأمر الذي تجلى عقب انتخابات يونيو/حزيران 2015 عندما خسر العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية وتعذر على أي حزب تشكيل الحكومة بمفرده، إذ رفضت بقية أحزاب المعارضة المشاركة في ائتلاف حكومي مع العدالة والتنمية، أو حتى مع بعضها البعض، مما عطل تشكيل الحكومة شهورًا وقاد البلاد إلى انتخابات مبكرة، اختار الشعب فيها «الاستقرار» وأعاد العدالة والتنمية مرة أخرى إلى الأغلبية البرلمانية.


نهاية الديموقراطية!

لا يمكن لذي عينين ألا يرى الدافع الشخصي وراء التحول للنظام الرئاسي، لكن من التعامي القول بأنه وحده هو ما أقنع الشعب والنخب السياسية بتمريره.

http://gty.im/106754406

في 1964 كتب السياسي الفرنسي اليساري فرانسوا ميتران كتابًا بعنوان «الانقلاب الدائم»، اتهم فيه ديجول بتدمير الديمقراطية الفرنسية عن طريق إقراره للنظام الرئاسي، الذي عزز من خلاله سلطاته الشخصية، وتهميشه البرلمان إثر لجوئه المتكرر للاستفتاءات الشعبية. اتهم ميتران النظام الرئاسي بأنه خليط من الاستبداد والفساد والشعبوية.

في 1981 أصبح ميتران رئيسًا للجمهورية الفرنسية، وطوال 14 عامًا قضاها في سدة الرئاسة، لم يغير في النظام السياسي القائم، الذي اتهمه سابقًا بالاستبداد والفساد، قيد أنملة.

دشن ديجول «سياسات العظمة» التي هدفت إلى تعزيز مكانة فرنسا الاقتصادية والسياسية. نأى ديجول بفرنسا بعيدًا عن التبعية للولايات المتحدة، واتبع سياسة خارجية أكثر استقلالًا وتقاربًا مع دول العالم الثالث، في ذات الوقت الذي عمد فيه إلى تعزيز التكامل الأوروبي وتأسيس تحالف وطيد مع ألمانيا، شكل النواة التي تكون منها لاحقًا الاتحاد الأوروبي. أفشل ديجول محاولة انقلاب عسكري في 1961، وامتلكت فرنسا في عهده سلاحها النووي، وتحسنت أوضاع الطبقة العاملة، وطوال عقد من حكمه حققت فرنسا أكبر معدل نمو اقتصادي في تاريخها الحديث.

في 1968، وبالتزامن مع انتفاضة الستينات اليسارية حول العالم، اجتاحت فرنسا التظاهرات، اقتحم الطلبة الجامعات والمباني العامة، وشل الإضراب العام الحركة في البلاد. حل ديجول البرلمان وعقدت انتخابات برلمانية جديدة أتت بأغلبية كاسحة لليمين الموالي لديجول. إلا أن العجوز المتعب، الذي تراجعت شعبيته بعد كل هذه الأحداث، أعلن استقالته عقب استفتاء شعبي على تعديلات دستورية، طرحها ديجول، وصوت الشعب الفرنسي ضدها لأول مرة.

توفي ديجول في التاسعة والسبعين من العمر عقب استقالته بعام واحد. أطلقت فرنسا اسمه على كل مطار أو سفينة أو شارع بالإمكان إطلاق اسمه عليه؛ وكل رئيس أتى لاحقًا لفرنسا، باستثناء ميتران وأولاند، خرج من عباءة «الأحزاب الديجولية» التي واصلت حمل أفكار ديجول.

مادام صندوق الاقتراع موجودًا فلا يمكن أن يظهر نظام الرجل الأوحد، الصندوق يسقط كل ديكتاتور.

أردوغان، في حديث تليفزيوني قبيل استفتاء التحول للنظام الرئاسي

على مدار تاريخها أثبتت «ديموقراطية التصويت» أنها ليست مثالية، لكنها أثبتت أيضًا أنها أفضل ما توصلت إليه البشرية في إجابة سؤال التمثيل السياسي إلى يومنا هذا، كما أثبتت، عبر التجارب المختلفة، أن الالتزام بها، على علاتها، أسلم وأفضل كثيرًا من محاولة القفز عليها ومخالفتها.

قد تحتاج الأمم إلى زعماء يتمتعون بكاريزما وسلطات كبيرتين في اللحظات الحرجة من تاريخها، لكن علينا ألا ننسى أن مبدأي تداول السلطة، والعودة إلى صندوق الاقتراع محمدة بذاتهما.

طوال فترة حكمه لاحقت ديجول الاتهامات، سواء من المعارضة الداخلية أو من الدعاية الإعلامية الأمريكية والسوفييتية، بالسلطوية، والاستبداد، وتضخم الذات، والشعبوية، واتباع سياسات محافظة ورجعية؛ الاتهامات ذاتها التي يواجهها أردوغان اليوم إلى حد وصف استفتاء التعديل الدستوري بأنه «نهاية الديموقراطية التركية».

وبعيدًا عن الحكم عن إجمالي سياسات أي من الرجلين إلا أن وصف أي منهما بأنه قد «أنهى الديمقراطية» أو خلق «انقلابًا دائما» هو وصف تجانبه الموضوعية إلى حد كبير.

لم تُحكم فرنسا ديجول أو تركيا أردوغان بنظام الحزب الواحد والزعيم الواحد، الذي تطير رأس كل من يقاومه، كما كان عليه الحال في تركيا أتاتورك أو مصر عبد الناصر.

طوال فترة حكم ديجول تمتعت فرنسا بالتعددية الحزبية والانتخابات النزيهة، في ظل نظام ديمقراطي كفل للمعارضة حرية العمل السياسي وتكوين الأحزاب والدعاية الفكرية والانتخابية، والحق في انتقاد الحكومة ومهاجمة سياساتها علنًا وعبر وسائل الإعلام؛ وبعيدًا عن كون لأردوغان فضل في ذلك أم لا، لكن تركيا اليوم تتمتع بذات درجة الحرية في العمل السياسي التي تمتعت بها فرنسا إبان عهد ديجول، إلى الحد الذي سمح لأحد زعماء حزب الشعب الجمهوري المعارض بالتهديد بإلقاء الذين صوتوا لصالح الاستفتاء في البحر.

هكذا مماحكات سياسية، وإن كانت تعكس استقطابًا غير صحي في المجال السياسي التركي، إلا أنها أيضًا تعكس الحرية السياسية التي يكفلها نظام ديمقراطي يحتكم فيه السياسيون المدنيون إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع ليختار الشعب من يحكمه وكيف يحكمه.

هذه الديمقراطية والحرية السياسية، بصورتها الأساسية التي يحتكم فيها السياسيون إلى أصوات الشعب ويسعون لاسترضائه، وبعيدًا عن جدل اتهام النظام البرلماني بالنخبوية أو الرئاسي بالشعبوية، هي الضمانة الوحيدة للشعوب حول العالم ضد تغول المستبدين، وأي عيب في هذه الديمقراطية هو أهون وأسلم عاقبة من محاولة إلغائها أو التهوين منها تحت أي مبرر.