الحياة لا تتوقف هنا. فبالرغم من صعوبة ما حدث فإننا يجب أن ننهض ونحاول مرة أُخرى. نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نستسلم للغضب وما سيتبعه من أعمال عنف، وإما أن نتغلب على ما حدث ونبذل أقصى ما بوسعنا لتعويضه. رجاءً حافظوا على الاحترام المتبادل والمشاعر الدافئة بينكم وبين اللاعبين. نراكم في بطولات أخرى لأن الحياة لا تقف هنا بالتأكيد.

خطاب اللاعب «أندريس إسكوبار» للشعب الكولومبي بصحيفة بوغوتا بعد الخروج من كأس العالم 1994.


ميلاد الحلم

المكان: ملعب «متروبوليتانو روبيرتو ميلينديز» في مدينة برانكويلا الواقعة على شاطئ الكاريبي في كولومبيا.

الزمان: 13 أغسطس/آب من عام 1993.

الحدث: لقاء المنتخب الكولومبي والمنتخب الأرجنتيني في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1994.

كانت تصفيات أمريكا الجنوبية حينذاك تسير بنظام المجموعات، وليس بنظام المجموعة الواحدة المتعارف عليه الآن. ضمت المجموعة الأولى الأرجنتين، وكولومبيا، وباراجواي، وبيرو. بعد جولتين فقط من التصفيات وقبل مواجهتهما تصدرت الأرجنتين المجموعة بأربع نقاط، ومن خلفها كولومبيا بثلاث نقاط.

الأرجنتين هي بطلة العالم عام 1986 ووصيف ألمانيا الغريبة عام 1990. أي أن التوقعات أغلبها تصب في صالح راقصي التانجو قبل المباراة، ولكن ما حدث كان عكس ذلك. المنتخب الكولومبي ينجح في الفوز بهدفين مقابل هدف واحد لتنفجر الاحتفالات في ملعب المباراة، بل في كل أنحاء كولومبيا.

ظن العديد من المتابعين أن ما حدث من كولومبيا في مباراة الذهاب كان مجرد طفرة، نتيجة عاملي الأرض والجمهور اللذين يعطيان دفعة معنوية هائلة اللاعبين، لاسيما في أمريكا الجنوبية. مارادونا نفسه كان مؤمنًا بذلك ورأى أن مباراة الذهاب كانت مجرد كبوة سيستفيق منها لاعبو الأرجنتين بعد أقل من شهر في مباراة الإياب.

لا أعتقد أننا سنخسر تلك المباراة. الأرجنتين أكبر من كولومبيا في كل شيء، سنفوز في المباراة بكل تأكيد.
تصريح مارادونا قبل لقاء العودة أمام كولومبيا.

يبدو أن مارادونا لم يقدّر الأمر جيدًا. في الخامس من سبتمبر/أيلول من عام 1993 تتلقى الأرجنتين واحدة من أسوأ خساراتها في تاريخ التصفيات. خماسية نظيفة أحرزها المنتخب الكولومبي وسط ذهول وصمت تام من حوالي 50 ألف مشجع أرجنتيني في مدرجات ملعب «مونيمنتانو» في العاصمة «بيونس آيرس»، ليدخل هذا الجيل الكولومبي التاريخ من أوسع أبوابه ويصعد لكأس العالم نظريًا بفارق خمس نقاط عن الأرجنتين. وتتأهل الأرجنتين من الباب الضيق في مباراة الملحق أمام المنتخب الأسترالي.


الإيمان بالحلم

ارتفع سقف طموحات لاعبي كولومبيا بالطبع بعد تلك المباراة، لكنه لم يكن بنفس ارتفاع سقف طموحات الجماهير في العاصمة الكولومبية بوغوتا أو حتى محللي كرة القدم.الأسطورة البرازيلية بيليه يرشح كولومبيا للظفر بلقب كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها أو الوصول إلى نصف نهائي البطولة كحد أدنى في هذه النسخة.

مكاتب المراهنات والحانات وبارونات المخدرات تعج بالجماهير الكولومبية التي تراهن بمبالغ ضخمة على فوز منتخب بلادها بكأس العالم في الولايات المتحدة الأمريكية، ولِمَ لا وأحد عظماء اللعبة يؤمن بذلك؟ لِمَ لا والفريق يظهر تناغمًا ومستوى رائعًا طوال مشوار التصفيات ولم يستقبل سوى هدفين فقط. لِمَ لا ومنتخبنا يضم صاحب الإطلالة الشهيرة بشعره الذهبي المجعد كارلوس فالديراما، والقناص أسبيريا، وأليكسس جارسيا، وفريدي رينكون. الرهان رابح لا محالة!

مجموعتهم في المونديال أيضًا تبدو أسهل من نظيراتها نسبيًا، ففي مجموعة تضم كلًا من رومانيا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية تظل حظوظ كولومبيا للصعود كبيرة للغاية.


موت الحلم

صدمة كبيرة تلقاها الشعب الكولومبي في مباراة منتخب بلاده الأولى في المونديال. كولومبيا تخسر من رومانيا بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد. الضغط يزداد على لاعبي كولومبيا والتهديدات تصل لهم من بوغوتا بضرورة الفوز في المباراتين المتبقيتين. «فرانشكو ماتورانا» يحاول تهدئة اللاعبين قدر الإمكان وطمأنتهم، ولكنهم يعلمون بالطبع حجم المراهنات في بلادهم وعواقب خروجهم من الدور الأول من المونديال. التعويض ضروري في مباراة الولايات المتحدة الأمريكية.

وجوه يكسوها الرعب والخوف، لا أحد ينطق بكلمة أثناء دخول أرض الملعب، هكذا كانت حالة اللاعبين.

«فرانشسكو ماتورانا» يصف حالة لاعبيه قبل مباراة الولايات المتحدة.

بدأ لاعبو كولومبيا المباراة بحماس لا مثيل له. هم الآن لا يدافعون عن علم بلادهم فحسب، هم يبحثون عن الأمان لهم ولعائلاتهم. يقول «أدولفو فالنسيا» لاعب المنتخب آنذاك إنهم هاجموا المنتخب الأمريكي من كل الزوايا وبكل الطرق في بداية تلك المباراة، استمروا في الضغط، ولكنهم لم يستطعوا التسجيل. حتى جاءت الدقيقة 22 من عمر المباراة، اللاعب الأمريكي «جون هاركس» يرسل كرة عرضية من ناحية اليسار. يحاول المدافع الكولومبي «أندريس إسكوبار» إخراجها، ولكنه يخطئ ويضعها داخل شباك فريقه!

هدف عكسي جعل إسكوبار يستلقي على ظهره لبضع ثوانٍ. زملاؤه يساعدونه على النهوض واستكمال المباراة وكأن شيئًا لم يحدث، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن شيئًا كبيرًا قد حدث.

في تلك اللحظة اجتاح عقلي فيضان من الأفكار السيئة التي لم تفارقني طوال المباراة.
«أدولفو فالنسيا» عن هدف إسكوبار العكسي في مرماه.

انتهت المباراة بفوز المنتخب الأمريكي بهدفين مقابل هدف، لتتلاشى حظوظ المنتخب الكولومبي في الصعود لدور الـ 16 بالرغم من فوزه على سويسرا في المباراة الأخيرة بهدفين دون مقابل. مات الحلم الكولومبي!


إلى أي مدى سيصل رد الفعل؟

-أمي، سيقتلون أندريس في الشوارع.
لا يا عزيزي، الناس لا يُقتلون بسبب أخطائهم. الناس في كولومبيا يحبون أندريس.

حديث شقيقة أندريس إسكوبار مع طفلها بعد هدف خاله العكسي في مرماه.

جاءت ردود أفعال الجماهير الكولومبية عنيفة بالطبع، ولكن الأمر مع الوقت بدأت تزداد حدته. ماتورانا يعلن لوسائل الإعلام أنه لن يكمل هو وعدد من اللاعبين مشوارهم الدولي، وسيكتفون بما قدموه للمنتخب. اللاعبون يلتزمون بيوتهم ولا يفكرون في الخروج ومواجهة الناس في الشوارع.

لكن أندريس إسكوبار كان يريد مواجهة الجمهور وتوضيح الحقيقة لهم. الأمر لم يكن مقصودًا، وتلك ليست نهاية المطاف. لم يكتفِ إسكوبار بما كتبه في صحيفة بوغوتا الكولومبية بعنوان «الحياة لن تتوقف هنا!»، وأراد أن ينزل للناس في الشارع. ذات ليلة دعا صديقه في المنتخب شونتو هيريرا للخروج في الشارع والذهاب إلى إحدى الحانات، لكن هيريرا حذره من خطورة تلك الخطوة. كذلك مدربه ماتورانا الذي قال له إن الشوارع لم تعد كما كانت، وما بها من صراعات لم يُحل بعد، لكن إسكوبار أصرّ على رأيه وعلى ضرورة مواجهة الجمهور في الشارع.


ليلة الوداع

لم يُقتل إسكوبار بسبب كرة القدم. إسكوبار قُتل بسبب عنف المجتمع.
المدرب الكولومبي «فرانشيسكو ماتورانا» بعد مقتل إسكوبار.

خرج إسكوبار في تلك الليلة إلى إحدى الحانات في مدينة ميدلين في شمال غرب كولومبيا. هناك واجه بعض الجماهير التي ألقت عليه بعض اللوم، فبدأ أندريس في النقاش معهم وتوضيح أن تلك هي كرة القدم، وأنه لم يكن متعمدًا الخسارة هو أو أي من زملائه. لم تكن النقاشات تتسم بالعنف أو الخشونة، حتى ظهر أربعة أشخاص بدءوا في توجيه الشتائم والسخرية لإسكوبار بسبب هدفه العكسي في كأس العالم. احتد الأمر حتى اضطر إسكوبار إلى مغادرة المكان والتوجه إلى سيارته.

تتبعه الرباعي إلى ساحة انتظار السيارات واستمروا في توجيه السباب والشتائم له، حتى استعد إسكوبار لينطلق بسيارته فقام أحدهم بتصويب مسدسه نحو المدافع الكولومبي وإطلاق النار. 6 رصاصات استقرت في جسد إسكوبار أودت بحياته في أقل من نصف ساعة، لترسم واحدة من أكثر لوحات المونديال حزنًا وقسوة على لاعبي كرة القدم.

كشفت التحقيقات بعد ذلك أن الرباعي المتهم بقتل المدافع أندريس إسكوبار هم رجال سابقون لتاجر المخدرات الأشهر في القرن السابق «بابلو إسكوبار». كان أندريس في حياته لا يحب أن يُقرن اسمه ببابلو إسكوبار الذي كان معروفًا عنه ولعه الشديد بكرة القدم، فأنشأ ملاعب عديدة في كولومبيا وأنفق على العديد من بطولات كرة القدم في بلاده، وكوّن علاقات قوية مع العديد من اللاعبين في بلده، مثل الحارس «رينيه هيجيتا» الذي لم يخجل أن يعلن عن علاقته القوية وحبه لتاجر المخدرات الشهير.

وبالرغم من عدم حب أندريس اقتران اسمه ببابلو، فإن الفيلم الوثائقي الأبرز الذي تناول قصة حياة أندريس إسكوبار وأجواء كرة القدم في كولومبيا، والذي أنتجته شبكة ESPN، حمل اسم «The two escobars».