هي وحدها تعرف سر العنوان، معناه ومغزاه، وعندها وحدها أيضًا يتضاءل المجاز الذي أشبعوه تفسيرًا ولم يحيطوا بعلمه، أمام حقيقة لا تكشف لثامها إلا بين يديها.

«أنا قادم أيها الضوء»..ومن هنا تضع التجربة فاصلًا بين من استمتع بالعنوان البلاغي الفريد ومن سبكته على يديها، غزْلًا وثيقًا محكمًا، تشابكت خيوطه دون عُقد مؤذية للناظرين.

وكما عودتنا الكتابة: للقارئ تأمل المعنى دون انشغال بمشقة صناعة المبنى.

(1)

وقفت أمام مشهد القبر المحاط بالخَضَار، لا بناء أسمنتيًا ينزع عنه فطرته الأولى، كأن الفتى قد خلع جسده وعاد بسلام إلى مكونه، ورأيت كأنما يأبى «تكلفًا» في المستقر، تمامًا كما عاش سنواته على سجية الودعاء.

وحين وضعت الشريكة وردة بيضاء، وكتابًا أعلاه، خيل لي أنها سقاية للجسد المسجى منهكًا من وخز الإبر، والمحاليل، وتصورت كما لو أن «أبو الغيط» بعد هذا الرواء سيزهر مرة أخرى، قائمًا من منبته إلى الحياة كشجرة تنبث ثمرًا شهيًا يوزع تحت الضوء ثمار الرحلة قطافًا ذا مذاق فريد، يشبه كتابته.

حتى يحدث هذا، وفي واحدة من تخييلات الصورة البعيدة، ستشكل شجرة القادم إلى الضوء غصنًا غض الأوراق له لون قرمزي، يقف على حافة النضج ويتكور مكونًا اسمها بقرنفلة بيضاء يقرأها المارة والعابرون «إسراء».

(2)

– بقراءة المتأملين يمكن أن نصل إلى معنى بعيد: «آن لهذه السيدة أن تبقى في دائرة الضوء، تصل ما انقطع من السرد على مهل، وتفصل ما أجملته الرحلة».

عندما كتب «محمد أبو الغيط» مقاله الممتع «سنة أولى زواج.. كيف صرنا ثلاثة في واحد»، لم يكن ثمة ألم يكشف له ما أخفته ستائر التجربة، ومع هذا أدخلنا بكرم وافر إلى قصته، فاتحًا نوافذه على تفاصيل البدايات، وفي كل سطر يعرفنا إلى «الشريكة»، كأنها مدار لنجم يراوح بين البريق والخفوت، وفي كل أحواله لا يفوت فرصة للتغني بأنها المدار.. «كأن بزوغه منها، وإليها».

وفي مصر تحديدًا، تتشابه حكايات التحقق، ويستحيل فيها الزوج إلى كوكب يستمد ضوءه من نجم لا يرى، كأن وظيفته الوحيدة أن ينير عتمة صاحبه، وفقط.

سياق لا يمكن أن يمر هكذا في موجة رثاء عابرة، بحكم قواعد الفضاء الافتراضي، إجماله في صورة بهية للكاتب الملهم، رحلته، وغربته، ومنجزه يصعب قراءة ثلاثتهم بمعزل عنها، وهي التي سماها «وردة بيضاء»، في أحلك ظروفها لم تستدر عطف حيزها بتدوينات «استجداء مقولبة»، وبين محاولات أخريات تصدير القوة، والممانعة ذات محنة، اكتفت «إسراء» بدورها الداعم، وتركت للمغرد العذب فضاءها يصدح فيه كيف يشاء، يرتب المعاني معها، ويصوغ المحنة في قالب استثنائي لا يقوى عليها تعاقب السنوات.

(3)

-لا وحشة في قبر «محمد أبو الغيط»، ولا حوله، لا نثائر من صبار معتق، ولا أبواب غليظة بأسوار تراكمت أتربتها تحيطه من اتجاهاته، قدر يستكمل رحلة تأمل المصائر : من حبب إلينا قراءة أسئلة الألم لا يريد اصطحابنا إلى روتينية المكان.

شيء ما سيعلقنا بـ«وردة بيضاء» صاحبته أينما كان رائحتها، مجازًا تحولت إلى صديقة لا تتأفف من صعود طوابق ثمانية في عقار حديث البناء، ولما تغشاها حمل خفيف مرت به، لم تطلب البقاء في منزل أبيها اتقاء شر الصعود الطويل، بل إنها رأت في ما تراه الورود أن الشوك ضرورة لاكتمال بهاء المنظر، وعبق الروائح، وحين أراد السفر إلى مجهول لا يعرف تفاصيله، لم تنفلت منه خشية قطاف مبكر لذكرياتها، أو نزعًا من محيط عائلي جريح، به أم مريضة تأنس لابنتها، وكان أن صاحبت خطوتها خطوته نحو مصير مشترك، وهناك، وحين قاربت التجربة على اكتمال ملامحها ونسًا، وتحققًا، واستقرارًا، زارتها محنة «الألم المقيم»، فغاصت الوردة في أرض المحنة، تمدد جذرها، واستحالت إلى جذع صلب مقاوم، يحتفظ بأوراق خضراء، وظل ممدود على السارد الملهم ليكتب، ويتأمل، بعيدًا عن أشعة المرض الحارقة.

-وتذوب صلابتها في رهافة مشاعره كلما مسه أنين الوجع وأبلغها بقرب النهاية، غير أنها ملتزمة بمجازيتها البديعة: فكر في بلد تزورها، أكلة تشتهيها، أريدك أن تصنع للولد ذكريات جميلة ما استطعت!!

(4)

-لا يولد الحب، يقتحم، وينمو لأبدية غير محدودة، لأن كل ما يولد لا بد أن يموت يومًا ما.

كل الحكايات التي تتجاوز خصوصيتها إلى فضاء الله لم يتوقع أطرافها هذا العبور من ضيق المحنة إلى سعة الخلود.

ودرس «إسراء» الذي كتبه «القادم إلى الضوء» تحت سفح الألم، يكشف أسرارًا تجلت في أسئلة الألم، أعظم هذه الأسرار أن تراص الكلمات جنبًا إلى جنب بشكل يومي، مستحوذة على مساحات واسعة من الصفحات لا يصنع «كاتبًا».

ينعطف هذا على أن الكتابة هي حالة «اللاوعي» التي يرتقي فيها المرء إلى مد سماوي علوي لا يرى معه أحد، وكذلك «التاريخ» لا يسمح بمرور الباحثين عن أبوابه بـ«تزلف، وتكلف» إنما هو مساحة لها مدارج، ومدارك، الأولى: للصادقين، والأخرى في مزابلها تأوي المقامرين.

أما إسراء التي تكورت على أمنياتها لعام أو يزيد، فامتصت ألمًا مضاعفًا خزنته في ذاكرة خاصة، دار بها دورته وأعيد إنتاجه في صورة أبهى للتضحية، والاحتواء والوفاء لدرجة أن الغربة والرهبة والنكبة صارت مصطلحات لها أنس متفرد في الحكاية والتفاصيل.

(5)

كل الحكايات بليدة ما لم تروِ ظمأ الحيارى وتسعف الهائمين.. (أعيدها مرة أخرى في سياق لم يختلف).

هل كان في المنفى «فعلًا»؟

في طوق الحمامة- للإمام ابن حزم- وبعد سرد مفصل لألوان الحب، وتفاصيله الدقيقة- يقول: إن المرء يمكن أن يستغني بمحبوبه عن الدنيا.

– والوطن في مفهومي البعيد: هناك حيث يذوب المرء في قلب محب، حتى إذا خرج فجأة ليبصر عالمًا جديدًا، أسرع في الإياب، خشية الاغتراب.

لهذا السبب، كانت «إسراء» نجمة ينعكس ضوءها إلى حيث أراد القادم، وطنًا هام فيه السارد عشقًا وسكنًا يحمل الأمان إلى المغترب أينما حطت رحاله.

(6)

الكتاب وصلك يا حبيبي..(قالت إسراء).

والوردة باقية.. لا ذبول لها لأن في ثنايا الكتاب ريًا وحرفًا نديًا…

والقصة لم تنته بعد.. هناك عند هذا القبر لا عواصف مفاجئة ولا رمال ولا ابتذال لمعاني السكون.. كل تفصيلة تأخذ موقعها في بناء محمد أبو الغيط من السرد ثم الصبر إلى القبر.

بمحاذاة «يحيى» ثمرة الحكاية المشتهاة، ستنبت شجرة هناك على أثر صاحب «الضوء»، يحط عليها حمام حدائق الفردوس، وتحدث أخبارها العابرين: محمد أبو الغيط مر من هناك، واستقر هنا.. ومن يدري، قد يكتب جذعها سردًا آخر على أوراق لها وعد الخلود.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.