أشعل سد النهضة غضب جيران إثيوبيا، مصر والسودان. إذ ملأت التكهنات الأجواء عن أن إثيوبيا قد تكون منطلق أول حرب دولية، عالمية، حديثة على المياه. لكن إذا قرّبنا الخريطة شيئًا بسيطًا، وحذفنا جيران إثيوبيا من الصورة، ونظرنا عن كثب للداخل الإثيوبي سنرى أن الدولة ليست في حال يسمح لها بخوض حرب خارجية ضد أي جهة. فالقوميات في الداخل الإثيوبي زاد غضبها، واشتعلت ثوراتها بالتزامن مع بعضها. فبعض القوميات باتت تطالب بمزايا أكثر مما تملك، والأخرى أضحت تطالب بالاستقلال التام عن الدولة المركزية.

أبرز تلك القوميات هي قومية التيجراي، ليس لكثرة عددها ولا لتطرف مطالبها، لكن لأنها استطاعت أن تحرز تقدمًا عسكريًا ملحوظًا. واستطاعت أن تهزم الجيش الفيدرالي التابع لآبي أحمد أكثر من مرة. لكن بجانب أزمة التيجراي توجد أزمات أخرى أعمق، وتبدو هيكلية في جسد الدولة من الأساس.

إثيوبيا تتبع نظام الحكم الفيدرالي الإثني، حيث يوجد تمثيل نسبي لكل القوميات الموجودة في إثيوبيا. لكن أسفر النظام عن سيطرة جبهة تحرير التيجراي على أكبر عدد من المقاعد هي والقوميات المتحالفة معها، فظلت مسيطرة على الحكم منذ التسعينيّات وحتى مطلع عام 2018.

حين وصل آبي أحمد إلى السلطة لم تنزعج التيجراي كثيرًا، فتحالفاتها الثورية تضمن لها أغلبية معقولة. لكن حين بدأ آبي أحمد في حال تحالف الجبهة الثورية، واستبدله عقب صعوده بحزب الازدهار، أخذت التيجراي تدرك أن زمانها قد ولى. خصوصًا أن المجلس الفيدرالي، العمود الثاني من أعمدة السلطة التشريعية، يعطي مقعدًا لكل مليون فرد من الإثنية أو العرق. ما يعني أن التمثيل فيه يكون لصالح القوميات ذات العدد السكاني الأكبر، مثل الأورموا والأمهرا، وبالتأكيد ليس التيجراي.

جبهات متعددة

رفضت التيجراي سحب البساط من تحت قدمها. خصوصًا أن آبي أحمد يريد تحول البلاد من فيدرالية إثنية إلى دولة مركزية بحكومة موحدة. ورأت في ذلك وضعًا للبلاد في قبضة الأمهرا. خصوصًا أن الدستور القديم، الذي يريد آبي أحمد تغييره، يمنح الشعوب والقوميات الإثيوبية الحق في تقرير مصيرها. بدأ الصراع بين الطرفين يتحول لصراع عسكري، لكنه كان حتى بدايات عام 2021 صراع بينهما فحسب.

في الشهور الأولى من العام الماضي دخلت أديس أبابا في مواجهة مع التيجراي وأورميا وبني شنقول. وحدثت اشتباكات عنيفة بين إقليمي العفر والصوماليين. كما حدث اشتباكات داخل إقليم الجماعات الجنوبية. بني شنقول كان له النصيب الأهم من الهجمات فهو أرض سودانية في الأساس، مُنحت لإثيوبيا عقب اتفاق 1902. وتدور عليه انشاءات سد النهضة. لكن مواطني الإقليم لا يرغبون في البقاء ضمن التبعية الإثيوبية، رغم أن ممثلي الإقليم الرسميين لهم علاقات طيبة مع آبي أحمد. فإن مواطني الإقليم دشنّوا جبهة تحرير بني شنقول، وشنّوا هجمات عنيفة ضد المسئولين المتعاونين مع أديس أبابا. ووسعوا هجماتهم لتشمل مواطني الأمهرا الموجودين داخل الإقليم.

في البداية وافق آبي أحمد على إحالة عدد من مسئولي الإقليم للمساءلة القانونية بتهم الفساد. لكن استمر العنف ضد الأمهرا الموجودين في الإقليم، فشنت القوات الإثيوبية حملة ضد المحتجين في الإقليم. في ديسمبر/ كانون الأول 2020. أسفرت تلك الحملات عن مقتل المئات. لكن لم تخرج القوات الرسمية من الإقليم، فمع اقتراب قوات التيجراي منه، وتهديدهم بالسيطرة على الإقليم وسد النهضة، آثرت القوات الرسمية تحمل المقاومة العنيفة والخسائر اليومية وقررت البقاء في الإقليم.

الجبهة الأخرى المفتوحة على آبي أحمد هي جبهة أمهرا ذاتها. القومية تنتشر في جميع أنحاء إثيوبيا جغرافيًا، وتحصل على العديد من المميزات. فتحصل على حقائب وزارية مهمة، وتتولى مناصب عليا. لكن لها ميليشيات تستوطن في الفشقة في شرق السودان، وتعارض آبي أحمد كذلك. ويطالبون بإعادة ترسيم الحدود مع إقليم التيجراي في المناطق المتنازع عليها بينهم، ما قد يفتح صراعات حدودية في مختلف أجزاء إثيوبيا. وقد تؤجج أيضًا صراعات مع السودان حيث يقيمون، ما يفتح بابًا للحرب بين إثيوبيا والسودان.

المواطنون لا يصدقون الحكومة

الجبهة الإضافية المفتوحة على آبي أحمد هي جبهة تحرير أوغادين، الإقليم الصومالي. الجبهة عادت للعمل بعد صعود آبي أحمد للسلطة. خصوصًا مع وجود نسبة كبيرة من السكان داخل الإقليم مؤيدين للانفصال عن إثيوبيا، كخطوة أولى ضمن طموحهم الأكبر بإعادة توحيد الصومال. الجبهة أعلنت رغبتها في التفاوض للحصول على الاستقلال، لكن أمام تعنت أديس أبابا أعلنت الحركة أنها قد لا تجد بدًا من اللجوء للعمل المسلح.

كذلك أقلية العفر، تتنازع مع أوغادين على مناطق حدودية، تتطالب بالاستقلال التام عن إثوبيا. تلك الأقلية الموزعة بين جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا دائمًا ما تُحدث إزعاجًا سياسيًا للدول الثلاث. بسبب أنها تطالب بإقامة دولة عفرية على ساحل البحرالأحمر. وإذا حصلت الأقلية في أي دولة من الدول الثلاث على استقلالها فسيحدث قلاقل للدول الأخرى، ما يسبب أزمة كبرى في دول القرن الأفريقي.

تلك الصراعات الداخلية التي تصب غضبها على الحكومة المركزية، وعلى بعضهم البعض، يمكن أن تجر إثيوبيا إلى حرب أهلية شديدة الدموية. خصوصًا مع انهيار الهدنة الإنسانية التي أقامتها أديس أبابا مع إقليم التيجراي. ومع وضع التمرد في الأنحاء الجونبية والغربية في المعادلة. نكتشف أن إثيوبيا أمام خطر حرب شاملة تهدد بتقسيم البلاد بأكملها. فكل جبهة تقاتلها الحكومة تَضعف قبضة الحكومة الفيدرالية أكثر فأكثر.

كما يزداد حنق السكان على الحكومة بسبب انتهاكات أفراد الأمن. ففي حربها مع التيجراي تعرض العديد من رعاة الماشية للاعتقال والضرب وتخريب منازلهم من قبل قوات الأمن. وقتلت قوات الأمن أطفالًا وشبابًا عُزلًا. وخصوصًا حين تُعلن الحكومة أنها قتلتهم باعتبارهم أفرادًا من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي. ما يُفقد الحكومة مصداقيتها أمام المواطنين الذي كانوا في صفها في بداية الأزمة. فقد حدثت أكثر من 3 آلاف حالة عنف من قبل الدولة، و8 آلاف حالة وفاة جراء إطلاق نار من قبل قوات الأمن، منذ وصول آبي أحمد للسلطة.

ما بعد انتصار التيجراي؟

كما يُعتقد أن أكثر من نصف مليون إثيوبي ماتوا جوعًا جراء ويلات الحرب بين الدولة والتيجراي. كما نزح أكثر من 5 ملايين إثيوبي من منازلهم. هذا الرقم هو أعلى رقم نزوح في العالم من دولة واحدة، ما يعطي مؤشرًا أن المواجهات المسلحة ليست مع التيجراي فحسب، بل يبدو أكبر من التيجراي، ويمتد على معظم الحدود والمناطق الإثيوبية. وحتى في المناطق التي تقاتل فيها جبهة تحرير التيجراي فقط، فإنها قد توسعت ونقلت المعارك لمناطق مختلفة.

يقف المقاتلون على بعد 100 كيلومتر من أديس أبابا. يمنعهم من دخولها قوات آبي أحمد والسكان المناصرون للعاصمة. لكن الشهادات التي ترد عن قوات الأمن الرسمية تُنقص عدد مناصري الدولة تباعًا. فقوات الأمن لا تسأل من تراه عن هويته، بل تقتل كل من اقترب منها. كما اضطرت الحكومة الفرقاء مثل التيجراي والأورموا للتحالف معًا ضدها، وصنّفت الاثنين إرهابيين. كما دخلت حركة الشباب الجهادية الصومالية على خط المواجهات داخل إثيوبيا، واستطاعت التوغل للداخل الإثيوبي، والقيام بعمليات ضد القوات الرسمية.

هجوم حركة الشباب الصومالية يشير إلى تشتت القوات الفيدرالية، وضعف سيطرتها على الحدود. وتقول التقارير الرسمية الإثيوبية أنه لا يوجد أفراد أمن في الجنوب أو الجنوب الغربي للبلاد. وحين تتدخل القوات الرسمية فإنها تعتقل كل من تراه. ففي الشهور الماضية اعتقلت القوات الإثيوبية أكثر من 4 آلاف شخص تزعم الحكومة أنهم مرتبطون بجماعات متمردة أوجهاديين.

تلك الجبهات المتعددة تمنحنا القدرة على وضع عدة سيناريوهات محتملة لما ستؤول له الأوضاع. السيناريو الأول هو انتصار التيجراي والأروموا على الحكومة الفيدرالية. حينها سيكون علي الاثنين التوصل لطريقة لحكم البلاد سويًا، لكن بالتأكيد غياب العدو المشترك سيدفع الخلافات القديمة بينهما للسطح مرة أخرى وسيجعلها تصل إلى ذروتها. ما ينذر باضطرات سياسي جديد ستدخل فيه البلاد.

الآن أو لاحقًا: لكنه سيحدث

السيناريو الثاني هو الوصول لحل سلمي عبر التفاوض. يبدو حلًا غير متوقع بنسبة كبيرة، لكنه على الأقل قائم نظريًا. فيمكن للتيجراي اللجوء للتفاوض بدلًا من اقتحام أديس أبابا الذي سيفجر الأوضاع في وجوههم، خصوصًا أن باقي القوميات ستقف ضدهم. وأول من سيقف ضدهم هو الأورموا، فأديس أبابا بالنسبة لهم قلب أوروميا، ولا بد من امتلاكها.

أما السيناريو الثالث فإزاحة آبي أحمد من السلطة على يد انقلاب عسكري. فالرجل بعد نوبل للسلام صار عبئًا ثقيلًا على قادته، وبات دمويًا كما لم يكن من قبل. لكن على الجهة الأخرى، حتى لو أزيح آبي أحمد فقد لا يؤدي ذلك إلى حل للنزاع بشكل نهائي مع القبائل المتناحرة. لأن الجيش الإثيوبي نفسه يبدو منقسمًا، وإزاحة آبي أحمد على يد طائفة ستعمق الشقاق بين فصائل الجيش المختلفة.

والواقع الإثيوبي يقول إن الحل ليس السلاح، فالدم سيجذب مزيدًا من الدم. والحل لإنهاء الصراع هو بحل الأسباب الجذرية خلف تلك الصراعات. فلم يتحدث آبي أحمد عن تمثيل الأقليات، أو محاولة حلحلة النزاعات القديمة والوصول لاتفاقات على أرض الواقع. وما يثير القلق أكثر هو تصريحات آبي أحمد التي تُهون من الأوضاع القائمة، وتقليله للمخاوف من تفكك إثيوبيا أو الانزلاق في آتون حرب أهلية جديدة.

يقول آبي أحمد، إن الحكومة المركزية دائمًا ما كانت سيطرتها ضعيفة على أطراف البلاد. وقال إن الجديد هذه المرة هو وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تضخم الأمور وتنتقد الحكومة بصورة مستمرة. ويؤكد أن التنبؤات بتفكك إثيوبيا قائمة منذ عقود، لكنها كانت خاطئة دائمًا. رهان مرعب يراهن عليه آبي أحمد، خصوصًا مع الهجمات في الجنوب والشمال والغرب. والأخطر أن خداع الذات دائمًا ما تكون عواقبه وخيمة، وكلما طال أمد الخداع كانت الكارثة أكبر.

حتى لو كان من الممكن وقف الحروب والقتال، فإن غياب هوية موحدة للبلاد، والخلافات الجوهرية حول من يجب أن يحكم وكيف يحكم، تجعل من العسير نجاة إثيوبيا من شبح التشرذم والتفكك. فمن دون تلك الرؤية الموحدة والمشتركة والمدعومة من نطاق واسع من الإثيوبيين، فلن يتمكن رئيس وزراء، سواء الحالي أو أي خليفة له، من منع أصوات التفكك والانفصال من الارتفاع، ومع كل ارتفاع له للأصوات المطالبة بالحكم الذاتي تنخفض أصوات المطالبين بالوحدة، وتصبح حججهم أضعف، ما يعني وقوع إثيوبيا في فخ التفكك في مرحلة ما، كل ما في الأمر أنها قد تتأخر قليلًا فحسب.