تنتشر على «فيسبوك» حالياً فيديوهات تعليم الإيتيكيت التي تثير جدلاً بين من يرون في الإيتيكيت فنا وآداب ومعارف يحتاج الإنسان إلى أن يتعلمها، ومن يرون في مبالغتها في ادعاء الأناقة وضبط ما لا ينضبط من السلوكيات العفوية نوعاً من الاصطناع أو ما نسميه بالعامية: «الحسوكة»، التي تحاول ادعاء مكانة اجتماعية زائفة.

يستحق مفهوم الإيتيكيت التأمل ليس فقط للإجابة عن ذلك الجدل، ولكن أيضاً بالنظر لأن المفهوم الغامض للإيتيكيت يطرح سؤالاً حول أصل تلك القواعد التي لا تخلو أحياناً من الغرابة كما تبدو أحياناً مجرد خيارات مزاجية لمن يمكن أن يسموا «خبراء الإيتيكيت».

ظهر مفهوم «الإيتيكيت» كما يبدو واضحاً من الكلمة في فرنسا خلال القرن السابع عشر مع التحول الذي شهدته أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، بعد معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي أنهت الحروب الدينية وأعلنت مولد الدولة الحديثة. ارتبط هذا التحول بانفصال الدولة عن المجتمع في شكل انفصال الملك عن سائر النبلاء الإقطاعيين، فالملك لم يعد مجرد إقطاعي كبير كما كان من قبل، بل صار ممثلاً للدولة المفارقة للإقطاعيين والتي تراهم مجرد فئة اجتماعية بين فئات أخرى، وفي هذا السياق قال لويس الرابع عشر مقولته الشهيرة: «الدولة، إنها أنا!» (L’etat, c’est moi!) أو كما نرددها ببساطة: «أنا الدولة».

في هذا الإطار، حرص ملوك فرنسا الموناركية على تمييز أنفسهم ليس فقط عن العامة، بل عن النبلاء ورجال الدين وأعضاء الطبقات العليا، حتى إن خبيرة الإيتيكيت الأمريكية في مطلع القرن العشرين ليليان إيشلر واتسون أوردت في كتابها المرجعي عن الإيتيكيت أن لويس الثالث عشر زار ذات مرة وزيره الشهير ريشيليو، وريشيليو كان مهندس نظام ويستفاليا وإن كان قد رحل قبل توقيع المعاهدة وكان نموذجاً لمولد السياسي المهني الذي يعمل في مؤسسة الدولة كما وصفه ماكس فيبر في «السياسة كحرفة». وجد لويس الثالث عشر ريشيليو طريح الفراش، فقرر أن يتمدد إلى جانب وزيره على الفراش عوضاً عن أن يجلس بجانبه. ففي نظر الملك، لا يليق أن يجلس بينما يتمدد وزيره أمامه مستلقياً على الفراش حتى وإن كان ذلك بسبب المرض.

كانت آداب البلاطات الملكية مادة للكتابة منذ عصر النهضة، عندما بدأت أوروبا تدون معارفها وتؤسسها في علوم، وظهر آنذاك كتاب الكونت الإيطالي كاستجليوني «كتاب الحاشية» (The Book of the Courtier) عام 1528، وصارت آداب الحاشية موضوعاً لكثير من الكتابات اللاحقة، لكن تلك الكتابات كانت تلاحظ وتسجل وتنصح أكثر مما كانت تحاول وضع قواعد صارمة لا يجوز مخالفتها.

أما عندما اعتلى لويس الرابع عشر العرش عقب رحيل والده، ومن قبله وزير والده الكبير ريشيليو، فقد قرر الملك الشمس (كما سيلقب لاحقاً) أن يحول آداب الحاشية إلى كود سلوكي صارم يطبعه على كروت ويوزعه على زوار فرساي ليلتزموا بقواعده التي تحدد لهم ماذا يلبسون، وأين يجلسون، وكيف يخاطبون الملك، وكيف حتى يمكنهم أن يطرقوا على الأبواب. القواعد الجديدة ستسمى «الإيتيكيت».

لعب الإيتيكيت في فرنسا الموناركية دوراً مزدوجاً، فهو من جهة سمح للملك بتمييز نفسه عن النبلاء الإقطاعيين، وفرض عليهم الشعور بهذا التمييز عبر تلك السلوكيات المفروضة عليهم، ومن جهة أخرى جعل الإيتيكيت من فرساي نموذجاً مبكراً للدولة الحديثة وبيروقراطيتها المنظمة أمام الضيوف الأجانب الذين أبهرهم نظام القصر الدقيق.

كعادة أدوات الضبط السلطوي من هذا النوع، سرعان ما انتقل الإيتيكيت من فرساي إلى سائر أنحاء فرنسا عندما أخذ الكونتات يحذون حذو ملكهم تجاه من هم أدنى منهم في السلم الاجتماعي، سواء كان هؤلاء من البرجوازية الصاعدة حديثاً، أو الطبع تجاه الفلاحين. هكذا تشكلت في فرنسا تقاليد جديدة ومميزة للنبالة تضمنت إجادة الرقص، ووضع قواعد دقيقة للطعام، والاحتفاء المبالغ فيه بالفن، وتحديد الفنون التشكيلية (الرسم والنحت) التي كانت قد هاجرت من إيطاليا النهضة التي أصابها الانحطاط إلى فرنسا الجديدة.

رغم سقوط الأرستقراطية الفرنسية على يد الثورة الفرنسية، فإن إيتيكيت تلك الأرستقراطية واصل حياته لدى الطبقة الجديدة الصاعدة، «الطبقة الثالثة» كما أطلق عليها إيمانويل سايس باعتبار الطبقتين السابقتين النبلاء ورجال الكنيسة، أو البرجوازية، أي أولئك الحرفيين والمهنيين والتجار الذين غادروا الزراعة واستفادوا من التطور التقني والتجاري والفتوح الاستعمارية في مراكمة ثورات جديدة.

حاولت البرجوازية أن تدعم صعودها الاقتصادي باعتناق ثقافة الطبقة العليا السابقة، وهكذا ظهر مصطلح الإيتيكيت لأول مرة في الإنجليزية في منتصف القرن التاسع عشر بعد قرن أو قرنين من اختراعه في فرنسا الأرستقراطية (أو فرنسا النظام القديم كما سيطلق عليها بعد الثورة الفرنسية)، أي في منتصف العصر الفيكتوري الذي شهد بناء الإمبراطورية الإنجليزية، قادماً من فرنسا، حتى أن فريدريك إنجلز ظل يعاير البرجوازية الإنجليزية التي عاشرها وكان صديقاً لرجالها بخضوعها للأرستقراطية التي تلقنها آداب السلوك والموضة، ومن احتياج الجزيرة الإنجليزية للثقافة القارية رغم تفوقها الصناعي والعسكري، حتى إن البرجوازيين الإنجليز كان عليهم أن يتعلموا الفرنسية من أجل الحصول على التأهيل اللازم للعمل الحكومي والدبلوماسي، ما كان يترك تلك المهام حكراً للأرستقراطية الإنجليزية (ما زال كثير من الدبلوماسيين الإنجليزي إلى اليوم من اللوردات).

عندما انتقل الإيتيكيت من الأرستقراطية إلى البرجوازية كان من الطبيعي أن يكتسب طابعاً أكثر اصطناعاً، فالأرستقراطي رغم أغراضه التمييزية الواضحة من وراء الإيتيكيت كان صانعاً له، وكان يدرك أنه هو من يصنعه ويحاول من خلاله أن يصل إلى المجد والعظمة التي يحلم بها لنفسه، لا أن يرضي طبقة أخرى أو يثبت جدارته بالانتماء إليها. أما البرجوازي فهو متلق، وهو يتعامل مع الإيتيكيت كما تتعامل معه بعض تلك الفيديوهات التعليمية على «فيسبوك»: قواعد وتقاليد ورثناها ويجب الحفاظ عليها كما هي من دون تلاعب، حيث تمثل محاولة خرقها أو الخروج عليها علامة على الدونية التي يجب استبعادها للحفاظ على النقاء الطبقي.

وهكذا بدأت الفنون تتخذ طابعاً تقديسياً على يد البرجوازية الصاعدة خلافاً للطابع الترفيهي والتذوقي البسيط الذي كانت تتعامل به الأرستقراطية معها. فالأرستقراطي لم يكن يحاول أن يقنع نفسه بأن تلك اللوحة أو ذلك التمثال الإيروتيكي يحمل أي معان عميقة وراء المتعة الجنسية التي يثيرها تصوير جسد بديع عارٍ على هذا النحو، كما لم يحاول أن يضفي على لوحة عائلية رسمها له رسام ما مقابل عطاء وفير أي تحليلات معقدة. كذلك كانت الموسيقي القادمة أصلاً من الكنيسة مجرد خلفية ترفيهية للحفل الأرستقراطي لا يحفل بها المدعوون كثيراً، بينما تحولت فجأة مع البرجوازية الفيكتورية في إنجلترا وحتى برجوازية فرنسا على مدى القرن التاسع عشر بحقبه الفرنسية المختلفة، إلى ما يشبه القداس الديني الذي يجب الخشوع والصمت أمامه تماماً كما نستمع إلى تلاوة القرآن أو الترانيم المسيحية.

لم يفقد الإيتيكيت مع البرجوازية دوره التمييزي، بل تضاعف هذا الدور، فقد تحول الإيتيكيت إلى «هابيتوس» بتعبير بيير بورديو، والهابيتوس هو عادات وميول وأذواق يرثها الإنسان من تربيته الاجتماعية، وتترسخ تلك العادات في الإنسان إلى درجة أن تؤثر على خصائصه البيولوجية، نبرة الصوت، هيئة الجسد في المشي والجلوس والحديث، اللهجة أو الأكسنت. تماماً كما ترى دنيا وإيمي سمير غانم يمثلان اختلاف الهابيتوس الطبقي في «نيللي وشريهان» أو أداء دنيا العبقري لفتيات من طبقات مختلفة بنبرات صوت ولكنات وهيئة مختلفة في المشي والانفعال في «طير إنت».

الإيتيكيت هو أداة تستخدم أحياناً بوعي وأحياناً بغير وعي لضمان النقاء الطبقي واستبعاد الدخلاء على الطبقة. يكفي أن تخطئ في نطق كلمة إنجليزية أو تخلط بين الـP و الـB (اللذين لا يسهل التمييز بينهما لمن لا يستخدم الإنجليزية كلسانه الأم) ليتم اكتشافك. الإيتيكيت صار يخترع اختراعاً من أجل التمييز. أي أن الطبقة تقرر مثلاً بلا وعي أن الأرز يجب أن يؤكل بطريقة ما، وأن القميص يجب أن يزرر على نحو معين، ثم تحول ذلك الاختراع (الإيتيكيت) إلى كلمة سر يَعبُر بها ابن الطبقة الأصيل بينما يكتشف الدخلاء.

إن أكثر ما نعتبره اليوم إيتيكيت بالفعل، بعيداً عن اختراعات كل خبيرة إيتيكيت جديدة تطلقها في فيديو على «فيسبوك»، هو إنتاج مجموعة من الخبراء الأمريكيين الذين عملوا منذ مطلع القرن العشرين على مأسسة الإيتيكيت (هناك في الولايات المتحدة اليوم مثلاً مؤسسة إيميلي بوست التي تعمل حصراً في مجال الإيتيكيت ومتابعته وتطويره) ضمن مجموعة من التقاليد الأمريكية لمحاولة الهيمنة الثقافية على العالم، ومحاولة تعويض النقص الثقافي أمام الأوروبيين ذوي الثقافات المتعالية، وأخيراً كأداة لإثبات تفوق الأمريكي الأبيض على الآخرين سواء كانوا أمريكيين غير بيض أو كانوا من غير الأمريكيين أصلاً.

كما أن الإيتيكيت كثيراً ما يكون تقاليد توارثها أهل كل بلد أو ثقافة بعينها، وما زالوا يتعلمونها عفوياً كما يتعلم الطفل كيفية الأكل والشرب واللبس من والديه، ومن ثمّ فلا يمكن الحديث عن إيتيكيت كوني، أو طريقة واحدة تؤكل بها فاكهة معينة في كل مكان، ويكفي أن يحرص الإنسان على ألا يزعج الآخرين أثناء تناوله للطعام، مع بقائه مستريحاً في طريقة تناوله الخاصة له.

إن التهذيب والآداب والتوجيهات الحياتية والسلوكية التي يمكن أن يقدمها خبراء أو كتاب، وإن تحت مسمى «إيتيكيت»، هي إضافة حضارية وإنسانية بالتأكيد، لكن المشكلة هي تحويل تلك التوجيهات الاعتباطية والآداب التقديرية إلى أدوات للتمييز الطبقي والعرقي أو معايير للجدارة تتجاوز الانضباط الأخلاقي والكفاءة العلمية والمهنية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.