إعادة التفكير في الشر

في نهاية فيلم قديم لوودي آلان بعنوان «حب وموت Love and Death»، يخاطب وودي (بوريس) الكاميرا قائلا: «أما بالنسبة لله، فأنا لا أظنه شريرا. أسوأ ما يمكن أن نقول عنه أنه فحسب لا يتصرف وفقا للمتوقع منه».

نستطيع اعتبار هذه الجملة جملة محورية لفهم كل أفلام وودي التي تناولت إشكال الشر بعد «Love and Death»، هذا لأن هذه الجملة كانت الإجابة النظرية النهائية ربما على إشكال وجود الشر الذي تم تناوله هنا عبر السخرية الشديدة من شرور العالم بدءا من البق وصولا إلى الحروب.

فبعد أن يقرر وودي على لسان (بوريس) «كون العالم ليس سوى عناكب وبق، أسماك كبيرة تأكل أسماك صغيرة، نباتات تأكل نباتات، حيوانات تأكل حيوانات…مطعم ضخم»، لن يعود للتساؤل نظريا عن الشر أو عن مبرره، ولن يبحث مجددا عن معجزة للدلالة على وجود إله يعطي لهذه الشرور معنى.

فالإله الذي اختبأ ولم يظهر هنا ليعطي للوجود معناه كما يتوقع منه، سيستمر في اختبائه: «إن الله لا يلعب لعبة النرد لكنه يلعب لعبة الاختباء» كما سيقول وودي في فيلم لاحق، لذا سيترك وودي سؤال الشر النظري ليحقق في سينماه انتقالا يشبه هذا الذي حدث في الفلسفة مع برجسون والبراجماتيين من بعده حين تخلصوا من إشكال الشر النظري الذي تناقلته المذاهب اللاهوتية والفلسفية لقرون، معتبرة إياه –فلسفة برجسون والبرجماتيين- «إشكالا بلا معنى»، ليعيدوا بعد ذلك صياغة السؤال كسؤال عملي عن كيفية التعامل مع شر أضحى لزاما الإيمان بوجوده «الإيجابي» لا وجوده كمجرد «سلب للخير» يمكن إهماله في حسابات النظرة الكلية.

فكما يلفت النظر بتراند رسل، فإشكال الشر لا يرد إلا على المتدين الذي يؤمن بخالق عظيم خيِّر قادر للكون.

في هذه الفلسفات لم يعد لسؤال هل الشر موجود أم لا، من معنى. كذلك لم يعد السؤال المهم هو كيف نبرر وجود الشر مع فرضية وجود الإله؛ هذا السؤال التي كانت بطلة «Love and Death» (سونيا) تحاول إيجاد إجابة له في نقاشها مع (بوريس). فهذه الفلسفات الحديثة، ولأنها تطورية في مجملها، تنفي وجود الكامل الخيّر كبداية للكون –حتى لو لم تنف وجود إله-، وهذا الوجود المبدئي للكامل الأول الخيِّر صاحب القدرة المطلقة هو وحده مايثير إشكال الشر النظري من الأساس.

فكما يلفت النظر بتراند رسل، فإشكال الشر لا يرد إلا على المتدين الذي يؤمن بخالق عظيم خيِّر قادر للكون، مثلما كانت تؤمن (سونيا)، حيث يتشاكل هذا الإيمان مع حقيقة وجود الشرور في العالم (المطعم الضخم)، ويثير إشكال كيفية صدور النقص عن الكامل ومدى مسؤولية الإله عن الشر، أو كما عبَّر راسل بسخرية، تشبهها سخرية (بوريس): «لماذا يفضل الله وضع الأشياء السارة في النهاية؟».

لذا فهذه الفلسفات وحين تتخلص من هذا الإشكال باعتبارها حتى مصدر الكون متطورا، وباعتبارها العالم كائنا لم يكتمل خلقه بعد، كما يقول البروفيسور ألكسندر -موافقا كثيرا آراء برجسون في التطور الخلّاق كما يشير راسل بحق، ونضيف كذلك آراء جيمس في تناهي الإله وعدم قدرته على كل شيء-: «إن العالم يسعى نحو، أو يميل إلى، وجود إله، لكن الكائن الإلهي في طبيعته المتميزة لم يكن قد نشأ بعد في هذه المرحلة من وجود العالم»[1] -فالكمال وفقا للتطورية هو في آخر الكون لا في بدايته-. فإن هذه الفلسفات تتخلص بهذا من كل هذه الإشكالات النظرية المنبثقة من مشكل الشر والتي شغلت المذاهب اللاهوتية والفلسفات المثالية لقرون طويلة، لتضع بدلا عنها سؤال: كيف نقلل الشر القائم بالفعل في العالم

قام وودي في أفلامه بنفس النقلة، حيث نقل السؤال من وجود الشر ومبرره إلى كيفية التعامل معه.

قام وودي في أفلامه بنفس النقلة، حيث نقل السؤال من وجود الشر ومبرره إلى كيفية التعامل معه، فلم تعد القضية في أفلامه هل الكون جميل خالي من الشرور تسكنه العدالة ويستحق العيش أم لا، بل أصبح سؤاله كيف نجعل الجمال في عالمنا أكثر من القبح والشر القائمين في نسيجه بالفعل، كيف نجعل من عالمنا غير المكتمل هذا عالما يستحق العيش، «إن العالم خير، لأنه ليس إلا ما نجعل منه، وإنا لجاعلون منه شيئا خيرا». هذه الجملة هي لوليم جيمس لكنا طالما سمعنا مثلها من أبطال وودي.

ونحن إذا قسَّمنا «الشرور» لشرور طبيعية وشرور إنسانية، فإن الشرور الطبيعة أي الحشرات و الزلازل والبراكين لن تهمنا هنا كثيرا، وإن كانت هامة في إشكال أخلاقية العالم وغرضيته عموما -فكما يخبرنا ستيس فإن وجود قانون أخلاقي وغرضي للعالم هو ما يميز الكون الديني[2]-، فأفلام وودي التي نتناولها هنا تتناول فحسب هذا الشر الإنساني، الشر الذي يصنعه الإنسان عبر خيارات سيئة يتبناها، فأبطال وودي هم الذين يحضرون الشر في نسيج العالم -ليساعدوا الشيطان، لو عكسنا فكرة جيمس، حيث يعتبر أن الإنسان مساعد لله في إتمام خلق الكون وإكماله[3]-!

و مهم هنا التركيز على نقطة نراها هامة قبل المضي قدما، وهي أن نقل إشكال الشر من النظري للعملي، ومن الكوني للإنساني، في أفلام وودي، ينقل كذلك إشكال العدالة من إشكال نظري هو إمكانية وجود عدالة إلهية في الكون من عدمها، لإشكال عملي هو كيف على الإنسان تحقيق العدالة ولو في جزء صغير جدا من هذا العالم. فهذا المأزق الأخير هو ما يعيشه أبطال وودي بعد اقترافهم للشرور.

الشر: ذات مهددة بالانحطام

ثلاثة أفلام على الأقل قبل فيلمه الأخير «رجل غير عقلاني Irrational Man» تناول فيها وودي كيفية إحضار الإنسان للشر في نسيج هذا العالم، وكذلك إمكان تحقيق العدالة ولو في جزء صغير من العالم يجعله يستحق العيش. هذه الأفلام هي على الترتيب: «جرائم وجنح Crimes and Misdemeanors» عام 1989، و «نقطة المباراة Match Point» عام 2005، و «حلم كاسندرا Cassandra’s dream» عام 2007.

أبطال هذه الأفلام يرتكبون جرائم قتل من أجل تصحيح مسارات خاطئة هم من صنعوها. في الفيليمن الأول والثاني، القتل يتم للتخلص من عشيقة، من جريمة أخرى، خيانة تفسد الحياة وتهدد بالعصف بها. أما الفيلم الأخير فهو يتناول قتلا بغرض الحصول على المال، وهو أيضا محاولة لتصحيح وضع خاطئ لأحد الأبطال، والذي يهدر أمواله في المراهنات. فالقتل يحضر في الأفلام الثلاثة كمحاولة لخلق حياة جديدة وتصحيح للمسارات الشخصية حتى ولو عبر إفساد معنى الحياة نفسه بانتهاكها!

بين هذه الأفلام عدد من الاختلافات ربما علينا فهمها بداية كي يتسنى لنا فهم أهمية الفيلم الأخير للمخرج الكبير. ففي الفيلمين الأوليين نجد أن التساؤل المركزي هو التساؤل عن العدالة، وعن غياب عدالة إلهية ناجزة، وهل غياب هذه العدالة الناجزة يبرر للإنسان الشر، أم العكس: يحتم عليه أن يقوم هو نفسه بمحاولة تحقيق العدالة الغائبة؟

ثمة حقيقة مفزعة يكشفها الفيلم: هي كون الشر يحوِّل ذاتنا، يغيرها، لا نعد بعد ارتكابه كما كنا قبله إلا باعتراف!

غياب العدالة عن العالم يتضح تماما في الفيلمين حتى في رسم الشخصيات وفي طرقهم في الحياة. فبطل «جرائم وجنح Crimes and Misdemeanors» هو طبيب عيون تعلم من صغره أن عين الرب تراقب، يعالج حاخاما شبه ضرير، لا تفلح معالجته، فينتهي الأمر بعين الحاخام للعمى، ويتوازى هذا مع إفلات الطبيب من العقاب، كأن عين الحاخام هي عين الرب التي لم تعد تراقب عالما أضحى بلا قوانين تُجري فيه العدالة.

أما بطل «نقطة المباراة Match Point»، فهو لاعب كرة مضرب، لعبة تعتمد تماما على الحظ، تضرب الكرة فتلمس الشبكة، تترنح، لو سقطت في أرضك تحسب النقطة عليك، لو سقطت في أرض الخصم تحسب لك، قاعدة جوهرها الحظ، لكن حتى هذه القاعدة-اللاقاعدة تفتقد نتائجها للاضطراد إمعانا في تصوير عدم عدالة الكون وافتقاده لكل انتظام. ففي مشهد بديع وحين يقوم البطل بالتخلص من مجوهرات القتيلة التي أخذها من شقتها لتبدو الجريمة كسرقة، يلقي البطل بخاتم القتيلة في المياة، الخاتم يصطدم بالسور، يترنح، يسقط في أرض البطل، نتوقع جميعا أن تفضي الأحداث بإدانته اتباعا لقوانين اللعبة النظيفة، لكن ما يحدث هو أن سارق متعثر الحظ يجد هذا الخاتم بالصدفة، وينتهي به المطاف مدانا بالقتل لينجو بطل الفيلم خلافا لكل قاعدة حتى قاعدة اللاقاعدة!

بعد نجاة بطلي الفيلمين بفعلتهم يعيشون هذا التساؤل عن العدالة؛ العدالة التي تضعهم –بغيابها حيث يفلتون من العقاب- أمام أنفسهم للسؤال عن مدى شجاعتهم في تحقيقها بأيديهم. في آخر مشهد من «نقطة المباراة Match Point»، وبدلا من محاولة تحقيق العدالة بتسليم نفسه، يفتح (كريس) نقاشا فلسفيا نظريا مع شبحي قتيلتيه حول غياب العدالة والمعنى في الكون. يتحدث عن كون «بعض الأبرياء يموتون لفتح الطريق لخدعة أكبر» ليذكرنا بفلاسفة ولاهوتيين كثر كانت إجابتهم عن الشر القائم أمام الأعين مجموعة من الألعاب والحيل النظرية شديدة البراعة تفصلهم عن كل محاولة جدية لتقليل الشر. في النهاية يتملص (كريس) من تقليل الشر، من مهمة تحقيق العدالة ولو في جزء صغير من العالم، يتملص من مهمته تلك عبر نقاش نظري فارغ ينتهي بإلقاء المسؤولية على غياب عدالة كونية ناجزة، تماما كما فعل قبله الطبيب (جوداه).

إن الاعتراف وتسليم النفس للعدالة ليس غرضه إعادة العدالة لكونٍ فقدها فحسب، بل غرضه الأهم هو إعادة التماسك لذات مهددة بفقد كيانها.

في هذه الأفلام وفي رسم التخطيط لـ «جرائم وجنح»، يلجأ وودي بالطبع لتقاليد فيلم «النوار» أو ما يعرف بالفيلم الأسود، مثل الخطة الكاملة التي برع في تصويرها هيتشكوك في أفلام مثل «حبل Rope» عام 1948، و«اطلب M للقتل Dial M for Murder» عام 1954. فبطلا الفيلمين يخططان بكل إحكام لجريمتهم كجريمة كاملة، لكن فكرة الخطة الكاملة النوارية لا تحضر هنا كفكرة مقصودة لذاتها كما قد يبدو من نظرة أولى[4]، كذلك ولا لاستعراض الأبطال لقوتهم العقلية أو لتفوقهم كما في «حبل Rope» لهيتشكوك، بل هي تتعلق فحسب بمهمة إثارة سؤال تحقيق الإنسان للعدالة بنفسه، حيث أن هذه الخطط تعيق بكمال إحكامها تحقيق العدالة عبر الإجراءات المعروفة، لتضع الإنسان وحيدا أمام هذه المسؤولية: مسؤولية تحقيق العدالة.

فبطلا الفيلمين يخططان بكل إحكام لجريمتهم كجريمة كاملة، لكن فكرة الخطة الكاملة النوارية لا تحضر هنا كفكرة مقصودة لذاتها كما قد يبدو من نظرة أولى[4]، كذلك ولا لاستعراض الأبطال لقوتهم العقلية أو لتفوقهم كما في «حبل Rope» لهيتشكوك، بل هي تتعلق فحسب بمهمة إثارة سؤال تحقيق الإنسان للعدالة بنفسه، حيث أن هذه الخطط تعيق بكمال إحكامها تحقيق العدالة عبر الإجراءات المعروفة، لتضع الإنسان وحيدا أمام هذه المسؤولية: مسؤولية تحقيق العدالة.

إذا انتقلنا لفيلم «حلم كاسندرا Cassandra’s Dream» فإننا نجد أن وودي يزيد الأمر تعقيدا، حيث لا يقوم بالقتل شخص واحد، بل اثنان. التعقيد يحضر عن طريق أن أحدهما بعد انتهاء الأمر وتحقق الإفلات من العقاب، لا يستطيع الإفلات من عذاب ضميره، ويقرر الذهاب للاعتراف للتخلص من الذنب، وبالتالي ينفتح الطريق لجريمة قتل جديدة، يكون هو ضحيتها المرتقبة، تصديقا لما كان يقوله من كون القتل حين يتم لا يتم أبدا لمرة واحدة، بل يتحول لنمط للتخلص من الإشكالات ربما. ليس الأمر المطروح في هذا الفيلم إذن هو كونك ستفلت من العقاب أم لا وكيف ستواجه هذا وكيف ستفكر في العدالة، ليس هذا هو الأمر فحسب، بل هو بالإضافة لكل هذا، ثمة حقيقة مفزعة يكشفها الفيلم: هي كون الشر يحوِّل ذاتنا، يغيرها، لا نعد بعد ارتكابه كما كنا قبله إلا باعتراف!

إن الشر لا يمكن أن يكون تصحيحا لأحد مسارات الحياة، حيث إنه يُحضِر الحياة لنا ويحضرنا للحياة في شكل لم نعهده أبدا من قبل. إن الاعتراف وتسليم النفس للعدالة ليس غرضه إعادة العدالة لكونٍ فقدها فحسب، بل غرضه الأهم كما يعلمنا هذا الفيلم هو إعادة التماسك لذات مهددة بفقد كيانها للأبد[5].

عدالة تكفر بالعقل!

مشهد من «حب وموت» لـ وودي آلن
مشهد من «حب وموت» لـ وودي آلن

نستطيع أن نقول ببساطة أن الفيلم الأخير لوودي «رجل غير عقلاني Irrational Man»، يحقق اختلافات كبيرة من كل النواحي عن أفلامه الثلاثة السابقة هذه. فوودي يطرح في فيلمه هذا تعقيدات جديدة وأسئلة قد تصل جدتها حد قلب الأسئلة التي تناولها في أفلامه الثلاث السابقة تماما.

فبطل فيلم وودي الأخير يختلف تماما عن أبطاله السابقين في نقطتين رئيستين: الأولى هي أنه على خلافهم، لا يرى القتل الذي قام به فعلا يستحق الإدانة من الأساس بل فعلا يستحق التقدير؛ فهو على خلافهم لم يقتل من أجل المال ولا من أجل تصحيح مسار الحياة بالتخلص من عشيقة مزعجة تهدد الحياة بالانهيار، في الحقيقة وعلى عكس هذا تماما، فإن (إيب) يقتل من أجل تحقيق العدالة، من أجل إحضارها في نسيج الحياة ولو في منطقة صغيرة من هذا العالم الخالي من أي عدل. وهذا يُفضي للنقطة الثانية التي يختلف فيها (إيب) عن أبطال وودي السابقين، وهي حياته بعد فعل القتل، فحياته بعد القتل تختلف عن حياتهم بعده تماما؛ فهو بعد قتله لا يفقد حياته في عذاب الضمير بل يستعيدها ويستعيد السيطرة على كل أبعادها، يستطيع ممارسة الجنس ويستطيع الكتابة.

واستعادة (إيب) للحياة ممثلة في الجنس والكتابة اللذين كانا معطلين قبل فعلته ليست في ظننا تنويعة على علاقة الجنس بالقتل، والعنف باستعادة الغريزة والحيوية، على طريقة أفلام مثل «برتقالة آلية Clockwork Orange» عام 1971، أو حتى «مختل أمريكي American Psycho» عام 2000؛ فقتل (إيب) كما نشاهدة في الفيلم هو قتل لا عنف فيه، قتل نظيف لا يتم فيه أي مسرحة أو احتفال بالقتل أو مبالغة في العنف كما يفعل أبطال الفيلمين السابقين.

إن فعل القتل مع (إيب) يتم سريعا و بعيدا عن اتصال حقيقي، فوضع السم في العصير وتبديله مع عصير القاضي فوق مقعد عمومي يجعل حتى الاتصال المباشر بين القاتل والقتيل شبه معدوم، وهذا ما يجعلنا نقول أن استعادة الجنس هنا في فيلم وودي هي استعادة للحياة بالمعنى العام للكلمة، لا بسبب القتل نفسه كفعل عنيف بل بسبب هدف القتل وهو التخلص من قاضي استخدم سلطته في إبعاد أم عن حضانة أطفالها بلا وجه حق؛ هذا التخلص الذي يتم كمحاولة تحقيق العدالة الغائبة ولو في نقطة صغيرة من العالم هو ما يعيد المعنى لحياة (إيب).

إن ما جعل (إيب) يستعيد الحياة هو أن قتله للقاضي هو أول فعل لتحقيق أفكاره، فلطالما كان يعلن كفره بالفلسفات والقواعد، أما الآن فهو يحقق هذا الكفر!

لكن ما يجعل هذا الفعل تجديدا للحياة وإعادة خلق للمعنى ليس كونه فحسب فعلا يخلص العالم من هذا القاضي، بل ما يكشف عنه هذا الفعل من تشريع لنمط حياة جديد. فما يكشف عنه الفيلم وتطوراته يجعلنا نظن أن (إيب) يشرع نمطا جديدا للحياة عبر فعل القتل هذا. إن (إيب) لا يريد لهذا القتل أن يتم لمرة في بقعة صغيرة من العالم؛ إنه يدعو لاختراق تام للقانون، لتعليق العمل بعدالة ثبت فشلها مرارا في إعطاء الحق لأصحابه. فهذا الفيلسوف غير العقلاني لا يرى أن فلسفات الأخلاق الكبرى استطاعت أن تجعل العالم أخلاقيا، ولا نظريات العدالة استطاعت كفالة صحة الإجراءات، ولا المؤسسات التي أنشأها الإنسان لحماية حقوقه استطاعت أن تقيم الحق داخلها لتمتحن فساد أفرادها أو حتى فساد وعطب منطقها الذي يقضي بالقبض على أول مشتبه (معقول) دون تحري أكبر، كما حدث واتهم في قتل القاضي شخص آخر في سرعة محيرة!

إن ما جعل (إيب) يستعيد الحياة، هو أن قتله للقاضي هو أول فعل لتحقيق أفكاره، فلطالما كان يعلن نظريا كفره بما سن الإنسان من فلسفات وقواعد، أما الآن فهو يحقق هذا الكفر بفعل يعلق كل القواعد!

إننا حين نقول بأننا نظن أن (إيب) قد أراد تحويل قتله للقاضي لفعل يتم التأسي به، فإننا نستند لتفصيلة شديدة الأهمية في الفيلم، وهي الطريقة التي نفذ بها خطته. فالخطة الكاملة لا تحضر هنا بالدقة التي شاهدناها في الأفلام السابقة، إنها خطة مليئة بالخروقات التي تتضح للمشاهد حتى قبل أن تعلن هيرتا: «نظريتها المجنونة عن (إيب) قاتل القاضي». إنها أخطاء ساذجة تجعل الخطة كاملة تُحكى تخمينا من أسرة (جيل) في دردشة حميمية على مائدة عشاء. أي مصدر لهذه الأخطاء الساذجة؟! أخذ السم من معمل الجامعة التي يعمل بها عبر مفتاح هيرتا السهل اكتشاف فقدانه، وفي عرضة لأن يراه أي أحد من الطلبة في المعمل كما سيحدث فعلا، ترك ملاحظات على كتبه عن الجريمة والعقاب، التغيب ببساطة يوم السبت يوم قتل القاضي دون أن يحضر لهذا بأي حجة غياب أو يسبقه ويتابعه بروتين مستحدث كذبا!

لم يعد السؤال في هذا الفيلم كيف نحقق العدالة في غياب عدالة إلهية ناجزة، بل أصبح السؤال عن مدى قدرة الإنسان على تحقيق العدل.

إن هذه الأخطاء الساذجة تجعلنا نتخيل (إيب) متحركا ما بين اللامبالاة التامة بأن ينكشف فعله لمن حوله على الأقل، وبين الرغبة في انكشاف هذا الفعل، ليعطي لمن حوله ما قالت عنه (جيل) الدرس الذي لا يمكن تعلمه أبدا من الكتب. لكن ترى ما هو هذا الدرس؟ هل هو ضرورة أن يقف الإنسان على حافة كل شيء، تعليق الثقة في كل الأفكار والقواعد عن العدالة والقانون المتقَّبلة من الجميع، وأيضا، التي لم تثبت فعاليتها أبدا؟[6]

ربما الفيلم ليس عظيما من الناحية السينمائية؛ من ناحية رسم الشخوص ومن ناحية الحوار كذلك. لا شك هو أقل كثيرا في هذه النواحي من «جرائم وجنح» ومن «نقطة المباراة»، بل حتى من «حلم كاسندرا» الأقل منهما جودة. لكن كل هذا لا ينفي هذه الحقيقة؛ حقيقة أن هذا الفيلم قلب كل التساؤلات التي كان يطرحها وودي رأسا على عقب. لم يعد السؤال كيف نحقق العدالة ولو على أنفسنا في غياب عدالة إلهية ناجزة، بل أصبح السؤال عن مدى قدرة الإنسان على تحقيق العدل، وكيف أصبح ما خلقه لتحقيقها عائقا أمام العدالة نفسها، بل أصبح وللمفارقة موضعا لإدخال الشر في نسيج الوجود كما حدث مع القاضي الذي حرم الأم من أطفالها.

مع هذا الفيلم لم تعد الحكمة كما في الأفلام السابقة هي تحمل المسؤولية التراجيدية بتسليم أنفسنا للعدالة لإجرائها في الواقع أو لنيل سكون النفس وطمأنينتها بالاعتراف؛ بل أصحبت الحكمة هي تحمل مسؤولية فوق-تراجيدية، هي الإعلان عبر الفعل عن إفلاس مؤسسات العدالة ومدونات القانون في تحقيق مهمتها، ومعانقة فراغ مر تلوح فيه كل إمكانيات السقوط. لكن، وفي ذات الوقت، تهب فيه نسمات حرية مصدرها كون الفراغ هو موضع كل الممكنات كما كان سيقول كريكجارد [7] الذي طالما استند عليه الفيلسوف/القاتل/المجدد للحياة (إيب).

هوامش:-

[1] الدين والعلم، برتراند رسل، ص212.
[2] الدين والعقل الحديث، ولتر ستيس، ص134.
[3] دراسات في الفلسفة المعاصرة، زكريا إبراهيم، ص51.
[4] فيلم «النوار» أو «الفيلم الأسود» هو مصطلح أول من أطلقه الناقدان الفرنسيان نينو فرا وجون بيير عام 1946. وهو يطلق على أفلام هوليودية ذات نوعية خاصة متأثرة بالموجة التعبيرية الألمانية التي انتقلت لأمريكا عبر هجرة عدد من المخرجين أشهرهم لانغ صاحب فيلم «M» عام 1931.أفلام النوار هي أفلام الجريمة والجنس والعنف والشخصيات القاسية والعالم السفلي، عالم الجريمة. وبخلاف الفترة الكلاسيكية لهذه الأفلام في الأربعينيات والخمسينيات، فقد استمر هذا التقليد في السينما وإن كان كثيرا بغرض إثارة مشكلات وهموم خاصة بالمخرج. لو أردنا أن نذكر مثالا واحدا فسنذكر ديفيد لينش وأفلامه التي تستخدم تقاليد النوار في عرض رؤية خاصة عن عالم المهمشين والمنبوذين، عالم الليل والأحلام أسفل المدن وعلى هامشها.

[5] من أهم الأفلام التي تناولت تغير الإنسان بعد القتل بل وعدم القدرة على الظفر بالراحة والتماسك حتى عبر الاعتراف، هي أفلام المخرج الأميركي العظيم صاحب جوائز أوسكار الأربعة «كلينت إيستوود». نذكر منها تحديدا فيلمه «Gran Torino» عام 2008: في هذا الفيلم يحيا (والت كواليسكي) المحارب المتقاعد ذنبا لا يعرف الغفران، هو قتله لأطفال في كوريا في الحرب؛ لذا فحينما يعترف والت للأب في الكنيسة عملا بوصية زوجته، لا يعترف بهذا الذنب، فهذا الذنب لا يمكن الحل منه بالاعتراف فحسب، بل بالموت فداءا لمن قتل أخوتهم، كما سيحدث في نهاية الفيلم.

[6] فقدان الثقة في قواعد إجراء العدالة هو موضوع نستطيع مشاهدته في عدد من الأفلام الهامة، ربما أهمها هو «والعدل للجميع and justice for all» عام 1979، للنجم الكبير آل باتشينو، حيث ينهي المحامي (آرثر كريكلاند) مرافعته في المشهد الختامي للفيلم بقلب قواعد اللعبة عن طريق إدانته لموكله. وحين يعلن القاضي خروجه عن النظام عبر هذا الفعل وما سبقه من خروقات إجرائية، يصرخ (كريكلاند) بأعلى بصوته بكون الجميع في القاعة هم خارج النظام بالفعل، وبالتالي فخرقه لنظام هو أصلا فاشل في تحقيق مهمامته التي تبرر بقاءه لا يعد خرقا من الأساس بل تصحيحا. بالطبع (إيب) ليس محاميا بل فيلسوف عملي يعتمد على الغريزة، لذا فإنه يعلن خرق القواعد بفعل القتل شبه المكشوف.

[7] يفرق كركيجارد بين البطل التراجيدي والفارس؛ فالبطل التراجيدي يواجه أحد قوانين المجتمع عبر قانون آخر، فيواجه مثلا علاقة البنوة بضرورة إجراء العدل. لكن الفارس يواجه الفراغ الخالي من كل قواعد بشرية معروفة أو مقبولة، فهي المهمة الأثقل على الإطلاق، مهمة خلق قواعد جديدة.