احتشدت الجماهير قبيل الفجر، حتى قبل تواجد عساكر التشريفة وجنود حفظ الأمن، في الساحة الكبيرة المقابلة للساحل والمعروفة بـ «ميدان الشهداء» حيث اعتاد المحتل إعدام المقاومين فيها ومن ثم اكتسبت اسمها بعد التحرير.

بدت الشمس كالعنكبوت تنسج خيوطها ببطئ وبإصرار لتشمل الساحة بمن اكتظت بهم من بشر حضروا لرؤية الحدث الجليل، وبدأ ضوؤها يثير العيون وحرارتها تشوي الرؤوس المنتظرة في شغف.

شقت الجلبة التي أحدثتها السيارات العسكرية هدوء الصباح واستكانته، حيث أقبل سرب من السيارات حاملة الجنود وسيارة خاصة حملت كتيبة الإعدام بالاضافة إلى سيارة الترحيلات التي اصطحبت المدانين.

اصطفت الجنود في خفة ولكن في رتابة، الجميع يعرف دوره، وحركته السريعة تمنعه من التذمر، شكلت جنود التشريفة المربع المعهود الذي يحف الساحة والذي لا يجوز للمواطنين تخطي حدوده، نزل قائد الفرقة وشق صفوف المواطنين محاطا بحرسه الشخصي واحتل منتصف المربع وبدأ في قراءة بيانه، قال في صوت حاد ولعثمة يناسبان عسكريا غير متميز في الخطابة:

«باسم الشعب:

نظرا لما تمر به البلاد من ظروف حرجة، وفي ظل المحاولات المستمرة للمخرِّبين لإغراق سفينة الوطن، وشق الصفوف وإلمام الخسائر بالمواطنين والتحريض تجاه السلطات، فإنه وجب الضرب بيد من حديد على يد كل مفسد وطامع ومخرب وعميل للحفاظ على البلاد. فالوطن بالجميع وقبل الجميع، وطبقا للأحكام العرفية المطبقة حاليا، أصدرت المحكمة العسكرية العليا حكما بإعدام كل من المتهمين الآتية أسمائهم: … بعد إدانتهم بتكدير السلم العام وتحريض المواطنين لقلب نظام الحكم وهدم أركان الثورة والترويج للإشاعات والتخابر لصالح المحتل وعودة عهده البائد.

حفظ الله الوطن والثورة»

تحرك بعض الجنود في خطوات رسمية تجاه سيارة الترحيلات، جرّ كل اثنان منهم أحد المتهمين وسط ترقب مهيب للجماهير التي زادت أعدادها بشكل ملحوظ وانبروا يتسابقون لسرقة النظرات الأولى في أوجه المتهمين وبعضهم يسجل ما يراه من ملامحهم في مفكرته، وبعضهم اصطحب اولاده إلى الساحة حيث تم الإعلان عن التنفيذ قبلها بيومين، إلى جانب بعض الأطفال والمراهقين الشغوفين الذين لم يلحقوا بحقبة المقاومة مع أقرانهم الأكبر قليلا.

اقتيد المتهمون إلى ثلاثة عمدان حيث تم تقييدهم دون مقاومة تذكر. بدت عليهم نظرات حملت الكثير من الرسائل ومختلف المشاعر أرسلتها عيونهم في سهام متلاحقة إلى الجماهير العريضة المصطفة.

ومن المعهود أن يأتي مع المذنبين رجل دين يلقنهم الكلمات النهائية قبل الموت، وأن يُسمح لهم بالقاء كلمة قصيرة؛ إلا أن السلطات لم تعتبر ذلك ضروريا خاصة في ظل الظروف المتأججة، لا داعي لمشكلات أو بلبلة قد تثيرها كلماتهم.

فرقة الإعدام تتكون من مجموعة أساسية ومجموعة احتياطية. تتكون كل منهما من 24 جنديا بموجب 8 جنود لكل محكوم. وتتخذ مواقعها في صفين متقاطعين في مسافة تقارب 100 متر. تشغل كل بندقية رصاصة واحدة فقط، وتكون 6 بنادق بها رصاص صوت إلى جانب اثنتان بهما رصاص حي حتى لا يكون معروفا أيا منهم قام بالتنفيذ. يتم التصويب تجاه الصدر المحكوم المقيد إلى عمودأو خشبة بدون حراك، وبعد إطلاق أول رصاصة يتقدم الطبيب ومعه قائد الكتيبة يتفقد كل من المتهمين للتحقق من الوفاة ولإطلاق رصاصة تعرف برصاصة الرحمة على من يحتضر.

تقدم ثلاثة جنود ليربط كل منهم عصابة سوداء على أعين المحكومين، رفض اثنان منهم ارتداءها بينما الآخر لم يعقب:

صاح الأول بشدة في صوت حاد:

«لا. أحب أن أموت وعيني على سماء بلادي وأن أرى أبناء بلدي، أن أودعهم. لن تغموا أعيننا عن الموت، لسنا نخشاه، ولا نخشاكم، وسيأتي اليوم الذي ستقيدون فيه إلى تلك الأعمدة. وستنصب لكم المشانق وتدق الخوازيق. لن تخرسوا هذا الشعب أبدا، وحتى إن لم نرهح يراه أصدقاؤنا، فهؤلاء الأطفال سيشهدونه، سيحطمون قصوركم على رؤوسكم وسيجرونكم إلى الشوارع، ستسحلون وتمزقون إربا وستنتصر تلك الثورة التي تقتلونا باسمها الآن، وستتذكرون هذا اليوم وستندمون. سيذكرنا التاريخ وسينساكم الدهر، ولن يحني الموت رقابنا أبدا»

نظر الجندي لقائده الذي أشار إليه أن يتراجع قبل أن يتنحنح قائلا: «عصب العينين هو حق أصيل للمتهم ويجوز له التخلي عنه».

هز الثاني رأسه في إشارة إلى رفضه العصبة السوداء فتراجع الجندي.

نظر الثاني إلى الأول في سخرية وهو يحدث نفسه:

«أي سماء وأي شعب يا صديقي؛ ألم يعلمك الزمان شيئا؟ نحن هنا بفضل هذا الشعب وتلك السماء. هؤلاء المواطنون جاءوا كي يشاهدوا ويستمتعوا ليس إلا، لكي يضيفوا بعض لحظات الإثارة إلى حياتهم اليومية، لكي يجدوا كلمات مناسبة للحديث أثناء تناول الطعام. هؤلاء الأوباش جلبوا أطفالهم لمشاهدة فيلم لن يكلفهم تذكرة سينما. وهؤلاء الأطفال لم يأتوا إلا لشفاء السادية الغريزية: انتظار لحظات الموت، ومتابعة تفجير الرصاص لقلوبنا، وكيف يبدو الأموات، وكيف سينتفض الجسد حيال ثقب الرصاصة وحيال شرارة النار التي ستتقد في الأحشاء. يتمنون أن نصرخ أو أن نقفز، ويتلذذون بكل تعبير ألم على وجوهنا. هذه الثورة سلبت منا معيشتنا وأُسرنا وأحباءنا، والآن: أرواحنا، في سبيل هؤلاء. هؤلاء الأوغاد الذين سيصفقون للعسكر وسيصفقون بعدها للثوار أو ربما للمحتل إذا انتصر. لا رجاء من هؤلاء؛ أي مجد تقصد يا رفيق وأي تاريخ؛ التاريخ يكتبه المنتصر، أغنية يحوزها ويسجل اسمه عليها بدماء المهزوم وشحوم جلده. التاريخ تكتبه الانتصارات وقطع الرؤوس أو الكاميرات والأقلام، وكلاهما غاب اليوم، لا نملك شيئا اليوم، غاب كل شيء»

لم يمانع الثالث إبان وضع العصابة على عينه. كان جسده يرتعد دون أن يظهر عليه. يشعر برعب مما هو مقبل عليه. دائما يشعر بالخوف من المستقبل المجهول الذي لا ملامح له. لن يطيق رؤية تصويب البندقية إلى صدره. لن يعيش حتى يراهم يسحبون أزندة الأسلحة:

«أخشى من نظرات الجميع بانتظار موتي. أخشى من آلام الاحتراق الداخلي، من موت مخزٍ أمام الجماهير، من انكسار جسدي بعد انكسار أحلامي واندثار آمالي. سأرتدي تلك العصبة الملعونة حتى لو قالوا عني جبان خير من أموت قبل الرصاصة»

صاح قائد الكتيبة: «فرقة: استعد.. واحد…».

سمع كل منهم صوت سحب الأذرع تمهيدا لإطلاق النار، فأصابت كل منهم رعشة في بدنه سرت منه مجرى النمل على جسده والغليان في رأسه. نبضات القلب تعلو وأصبحت كزوار الفجر من جنود الاعتقال الذين يطرقون الابواب في عنف.

الأول للجماهير: شعبي:

«أنا لا أخشى الموت؛ الأحرار لا يموتون. لن أموت معصوب العينين، كى أراكم. رفضوا ان نلقى كلمة اليكم ولكنى هاهنا اقولها رغما عنهم وعن انوفهم! لن ينطفئ نورنا أبدا ولا نور ثورتنا التي سرقوها من بين أيدينا. ويشهد الله أننا لم نخن الوطن ولم نخنكم لحظة واحدة، ولكنه سلوك كل جبار ومحتل. هؤلاء لا فرق بينهم وبين المعتدي الذي ثرنا ضده مرة، وأنا ومن معي مقيدين اليوم إلى أخشاب الإعدام لم نبالِ من قبل بالموت على يد المحتل. ولم أكن لأخاطبكم اليوم، ولكننا اليوم يقتلنا محتل من بني جلدتنا. اصمدوا وصابروا وموتوا لأجل وطنكم لا لأجلنا»

الثاني لنفسه:

«ما زلت حالما يا صديقي. يقتلنا المحتل ولكن هؤلاء هم جند المحتل. لا أعرف كيف سأموت ولكني سأموت ناقمًا عليكم أبناء شعبي. سأنظر إليكم بحنق حتى لمعة عيني الأخيرة. جلبونا ليقتلونا وسطكم بدلا من أن يخافوا ويقتلونا في السر. وأتيتم لتشاهدوا وتلعبوا دوركم على أكمل وجه. انا نادم على ما فعلت لأجلكم. أود أن أبصق في وجوهكم الآن. أحقد عليكم، وأنتم ها أنتم تنتظرون أن تتدلى أعناقنا وتنتظرون أن تدمى الأرض من تحتنا لحظة خروج أرواحنا. نادم الآن على أنى لم أرتدِ تلك العصابة. لا أريد رؤيتكم ولا أريدكم أن تشاهدوا»

الأول لنفسه:

«تُرى أين أنتِ الآن؟ لا أطيق أني لن أراكِ ثانية. لا أصدق ولا أريد أن أصدق. افتقدت شفتيك الآن، ملمس يديكِ، استكانتك بين ذراعيّ، شعورك بالأمان الذي لا يشوبه كدر القلق والخوف، أن أصحو على قُبلتك، أن أدس أنفي بين خصلات شعرك واشتّمه وأنتِ نائمةأو مضجعة إلى جواري. هل ستحبين بعدي؟ هل سيعرف ليلك عاشق مثلي؟ هل أعلموك أني مقيد انتظر رصاصتي؟ هل سيعطونك آخر كلماتي التي كتبتها إليك؟ هل سيطول بك الحزن؟ هل سأراكِ ثانية؟»

الثاني لنفسه:

«هل تذكرين آخر ليلة لكِ معي؟ هل يا ترى وضعت ابني بداخلك؟ هل سيرى الدنيا دون أب؟ أم خابت تلك اللحظة ولم تنبت بذرتى في أرضك الخصبة، أنا خسرتك في سبيل من لا يستحقون، سامحيني أرجوكِ، خذلتك وخذلت الجميع، من الجيد أنكِ لست هنا اليوم، لن أطيق أن تحجبني القيود عنكِ أو تحجبك العساكر عني، انعمي بحياتك، وإن سألوك فقولي كنت أحب مجنونا رُفع عنه قلم الله، فارفعي عني قلمك، مخبول باع نظرة عينيكِ ولمسة جسدك وعناقك اللانهائي حتى الذوبان والانصهار، فباع كل ذلك بالقليل، قليل القليل فسامحيني يا حبيبتي سامحيني»

الثالث لنفسه:

«ما هذا الخوف الذي ألمَّ بي لأول مرة: هل هو الزواج؟ هل هم الأطفال؟ من لهم الآن؟ من سيعود إلى البيت يمسح على رأسك؟ من ستعلقين ثيابه الآن يا ابنتي؟ من ستستندين إليه وأنتِ على يقين أنه قادر على أن يملك لك الدنيا بحذافيرها. جميع الأطفال يظنون آباءهم ذلك الرجل الخارق؛ غدا تكبرين وتعرفين. وأنت يا ولدي، إياك أن تخطو خطا أبيك. إياك أن تبيع حياتك لأجل أحدهم. الزم الصف الثاني أو الثالث أو العاشر! ولا تتقدم حتى لا يلقوا بك مثلي إلى هنا. احمِ أختك وأمك. كن أباك في بيته. غدا تكبر أنت الآخر وتعلم كم كنت أحبك أنت وأمك. أمك التي حملتنى عند ضعفي، حملت إلي كل فرح لي في الدنيا، أمك ملاذى الدافئ، فكن ملاذها من الزمان الحالك»

عم سكوت حذر يشوبه التوتر والقلق والشغف. ثوانٍ مرت سنوات حتى صاح القائد: «…اثنان». ورفع يده إلى أعلى فدوى إطلاق النار وسط متابعة المتفرجين بنهم وانتباه شديد.