كل أربع سنوات يلتقي العالم في دولة مختارة، تعزف البشرية كلها لحنًا واحدًا يبدأ بصافرة مباراة الافتتاح وينتهي بصافرة النهائي. لا يكون اللحن هادئًا دائمًا، أحيانًا يصبح أقرب للمارش العسكري. تصطف الجماهير خلف منتخب بلادها، فإذا ودّع البطولة اختارت أقرب المنتخبات لها واصطفت خلفه.

ومنذ لحظة قرعة اختيار الفرق المتواجهة تستحضر الذاكرة تاريخ المواجهات بين الطرفين، ليس رياضيًا فحسب، بل ربما يكون عسكريًا وثقافيًا كذلك. فكل شيء في كأس العالم له دلالة ويمكن استخدامه كنطقة انطلاق لحديث أبعد عن الكرة وأعمق من هتافات المشجعين.

الدراما لم تفارق كأس العالم يومًا. لم تكن كأس قطر تحتاج لمزيد من الدراما، فهي النسخة الأولى التي تُقام في فصل الشتاء، والمنافسات تقام على أصغر مساحة في تاريخ الـ21 نسخة السابقة من البطولة. كما أنها أول كأس عالم تُنظم في الشرق الأوسط، وفي دولة عربية. لكن يبدو أنه بسبب كل تلك المتغيّرات وجد العالم نفسه مضطرًا لمتابعة عالم مختلف. كأن المستكشفين القدامى قد بُعثوا من جديد ورأوا أرضًا لم يعرفوها.

 فيبدو التخبط في محاولة استكشاف قوانين السكان الأصليين لتلك البقعة. ورحلة الصراع مع إجبار السكان للرحالة على القبول بما هو قائم أو محاولة الرحالة لأقلّمة تلك البقعة لتوافق الأراضي التي أتوا منها. لذلك قبل أن تنطلق صافرة البداية، ارتفعت الأصوات بالهتاف. بعضها تقول إنها تسمع آهات العمال وصرخات الأرامل الذي قضوا تحت أنقاض تلك المباني المبهرجة. وبعضها يقول إنها هتافات الحضارة والفرح بالمستوى المبهر الذي تُبشر به الإمارة الصغيرة.

فخ الحسابات الخاطئة

لا جهة تذكر على وجه الدقة كم أُنفقت الدولة على كأس العالم، وما النسبة التي ذهبت للاستادات والخدمات التي ستخرج من الخدمة فور انتهاء البطولة، وما الرقم الذي وُضع في بنى تحتية ستستمر في مساعدة الإمارة وسكانّها لعقود طويلة. وما حقيقة انتهاكات الدولة لحقوق العمال الذين شاركوا في تشييد تلك الصروح العملاقة، وهل أُزهقت أرواح بالفعل في سبيل ذلك، وهل كان بإمكان قطر الحفاظ على تلك الأرواح بإصلاحات مهنية أو تشريعية؟

الثابت الأبرز في تلك الحالة الضبابية أن كأس العالم في قطر 2022 هي الأغلى في تاريخ البطولة. فالرقم المُعلن هو 220 مليار دولار، بزيادة 20 ضعفًا على ما أنفقته روسيا في كأس العالم 2018. أما ألمانيا فأنفقت عام 2006 قرابة 4 مليارات دولار فقط. أما أعلى ميزانية سابقة في تاريخ كأس العالم فكانت من قِبل البرازيل بـ15 مليار دولار عام 2014. أما جنوب أفريقيا التي نظمت البطولة عام 2010 فأنفقت 3.6 مليار دولار فقط.

إذا قارنّا تلك الأرقام بمنطق موظفي الحسابات سيبدو كأن الأمر اختلاس أو تبديد للمال العام، فلماذا يتم إنفاق 220 مليار دولار في تنظيم نفس الشيء الذي نجح الآخرون في تنظيمه برقم لم يتجاوز الـ20 مليارًا وحدها. لكن إذا وضعنا تلك الأرقام في سياقٍ زمني وعالمي ربما ندرك دوافع، وأسبابها، لإنفاق هذا الرقم المهول. فحين فازت بحق تنظيم البطولة لم تكن تملك إلا صورًا حاسوبية ومجسمات صغيرة لما سيكون عليه شكل الملاعب المستقبلية. وأضافت في ملفها تعهدات أن تحقق معايير الاستدامة البيئية في ما يتعلق بالطاقة والمنشآت.

«رويترز»، ومجلة «فوربس» الأمريكية، وموقع «فرنت أوفيس سبورتس»، يلفتون نظرنا إلى فخ تلك الحسبة الخطأ. ففي عام 2008، قبل حصول قطر على حق تنظيم كأس العالم، كانت قد نشرت استراتيجيتها لعام 2030. أوضحت في تلك الاستراتيجية أنها تريد بناء مجتمع متقدم، قادر على توفير مستوى معيشي مرتفع. شملت تلك الرؤية كرة القدم، وجعل قطر مركزًا رياضيًا عالمًا. سواء للبطولات أو لما يمكن تسميته بالسياحة الرياضية، فبالملاعب المنشأة يمكن لقطر المطالبة باستضافة نهائيات بطولات أوروبية، أو بعض مباريات الدوري الأوروبي.

 كما تريد بإنشاءاتها توفير الرفاه للسياح العاديين. فأنشأت على جانب إنشاءات كأس العالم عددًا من الشوارع والجسور والأنفاق ومسارات الدراجات الهوائية وحدائق عامة ومتنزهات. كما أنشأت شبكة سكة حديد للمترو والترام، وقامت بتوسعة مطار حمد الدولي. وهنا يمكن أن نقتبس كلمة كيران ماجواير، خبير تمويل كرة القدم في جامعة ليفربول، أن كأس العالم بالنسبة لقطر لم تكن سوى آلية لتسريع رغبة الحكومة القطرية في معالجة القضايا المتعلقة بالبنية التحتية.

المراهنة على المستقبل

طبقًا للجنة الرسمية فإن تلك الإنشاءات هي جزء من رؤية قطر 2030. أما تكلفة الاستادات وأماكن سكن المشجعين والمصروفات الأخرى المتعلقة بالمونديال نفسه، فهي تقترب من 8 مليارات دولار فحسب.  رقم 8 لـ10 مليارات دولار رقم مناسب للبطولة، وهو الرقم الذي تؤكده عديد من المصادر الأجنبية الموثوقة، وأقل من نسخ سابقة لنفس البطولة، كما قال ناصر الخاطر الرئيس التنفيذي لكأس العالم قطر 2022. ورسميًا تتوقع قطر أرباحًا بقيمة 17 مليار دولار من المونديال، وبذلك تكون قطر قد ربحت ضعف ما أنفقت. صندوق النقد الدولي يقول كذلك إن النمو الاقتصادي في قطر سيقفز بنسبة 4.4% مدفوعًا ببطولة كأس العالم وكيفية تنظيم قطر لها.

لكن نظرة واقعية للأحداث تخبرنا أن قطر لن تربح من تلك البطولة. سواء كانت الأرقام المعلنة قد وُجهت للبنية التحتية الدائمة أو للاستادات فحسب، فإنه من غير المحتمل أن تجني الدولة من البطولة ما يُعوضها عن إنفاق 220 مليار دولار. خصوصًا لصغر حجم الدولة ووقوع الاستادات كلها على مشارف العاصمة الدوحة. فلن يكون هناك استخدام للطيران الداخلي كما حدث في روسيا. ولا نقل للاستفادة المالية لمناطق مختلفة أو مهمشة من قطر. لكن إذا كنت مشجعًا للبطولة فبالتأكيد سيُعجبك ذلك، لأنك ستشاهد أكثر من مباراة واحدة في نفس اليوم.

كما أن التعويل على نقطة الجذب السياحي أو جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب البطولة يبدو أمرًا غير واقعي. إذا عدنا إلى آخر 3 نسخ من البطولة لنشاهد ماذا حدث مع الدول المضيفة بعد نهاية البطولة، ربما ندرك لم لا يجب أن تراهن قطر على تلك النقطة؟ لأن جنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا لم يشهدوا أي زيادة في معدل الاستثمار الأجنبي بعد زيادة بعد استضافة كأس العالم. المرعب أن العكس هو ما حدث، فقد تراجعت الاستثمارات، حتى قبل حدوث جائحة “كوفيد- 19”.

ربما يمكن القول إن المونديال خسارة تجارية على قطر، لكنه من ناحية القوة الناعمة أضاف لقطر الكثير. فلا يبدو أن الربح والخسارة بالمفهوم المادي هو مطلب قطر من وراء البطولة. بل تعزيز العلاقات الدولية وتدعيم دور قطر الاستراتيجي والدفاعي، وإظهارها كقوة دولية قادرة على استقبال دول العالم كلها. وأن تفرض رؤيتها وثقافتها على الوافدين، فتربح بذلك موقفًا بطوليًا في محيطها العربي والإسلامي.

دماء تحت مقاعد الاستادات

العمالة هي السحابة الكبرى التي ألقت بظلالها على تلك البطولة حتى قبل أن تبدأ. فسبعة ملاعب من الثمانية التي سوف تشهد مبارايات البطولة قد تم إنشاؤها من الصفر. في عام 2016 اتهمت منظمة العفو الدولية قطر بارتكات تجاوزات فاضحة في مجال العمالة الأجنبية أثناء إنشاء استاد خليفة الدولي. صحيفة «الجارديان» البريطانية قالت إن 6500 عامل لقوا حتفهم في قطر في الفترة ما بين عامي 2010 و2020. معظم تلك العمالة من بنجلاديش والهند وباكستان ونيبال وسريلانكا.

الرقم أثار عديدًا من الجدالات حول حقيقته. وهل هو متعلق بأعمال بناء منشآت كأس العالم، أم أُدمجت به الوفيات الطبيعية أو لأسباب أخرى، غير ظروف العمل لأجل الاستعداد لكأس العالم. لكن في الوقت ذاته غياب أي جهة تتحدث باسم العمال، وغياب الشفافية من جانب الحكومة القطرية، لا يجعل أمام الرأي العام سوى التسليم بصحة ذلك الخبر. ولو تجاهلنا الرقم ونظرنا للإنسان، فوفاة فرد كوفاة ألف، فلو كان الاعتراض على كونه 6500 فرد، فإذا قلنا بوفاة فرد أو اثنين أو عشرة فحسب، فلا تصبح قطر بريئة من تهمة القتل باسم كأس العالم.

تقول الحكومة القطرية إنه تم التعاقد مع 30 ألف عامل من الجنسيات السابقة للعمل في منشآت كأس العالم. وأقرت الحكومة القطرية رسميًا بوفاة 37 فردًا من ضمن عمال بناء ملاعب كأس العالم. وقالت الحكومة كذلك إن 3 لقوا حتفهم بحوادث لها علاقة بالعمل. لكن يرجع ذلك لأن قطر لا تعتبر الوفيات الناتجة عن النوبات القلبية والأزمات التنفسية لها علاقة بالعمل. رغم أنها أعراض شائعة لضربات الشمس الناتجة عن العمل لساعات طويلة في درجات حرارة مرتفعة.

المسئولية في وفاة العمال هي مسئولية مشتركة بين الفيفا وقطر. فقد تقاعست الفيفا عن فرض شروط قوية لحماية العمال، وأصبحت الفيفا غطاء تستخدمه قطر لسوء المعاملة التي يتلقاها العمال الأجانب. فحتى مع الوفاة لا تهتم قطر كثيرًا بتعويض عائلات العمال وذويهم. كما تحرمهم من رواتب شهور عديدة طبقًا لشهادات عديد من العمال لمنظمة هيومن رايتس ووتش، وتفرض عليهم الحياة في معسكرات مكتظة، وتصادر جوازات سفرهم، وتفرض عليهم رسومًا ضخمة لا تتناسب مع ما يكسبونه.

الاستجابة للضغط

منظمة العمل الدولية قالت إنه توفي 50 عاملًا عام 2021 فقط، وأصيب 500 آخرين بجروح خطيرة. الجهات الرسمية القطرية لم تذكر شيئًا عن تلك البيانات. لكن الجانب الآخر لسوء معاملة العمال منذ عام 2010، هو أنه بعد 7 سنوات من الضغط استجابت قطر لهذه الضغوط بأكثر من صورة. فقد صرفت عددًا من التعويضات للعمال الذين اعترفت رسميًا بوفاتهم أثناء العمل، فيما يتعلق بكأس العالم. كما ألغت نظام الكفالة، ووافقت على 350 ألف طلب لتغيير جهة عملهم في غضون عامين منذ تطبيق تلك الإصلاحات.

وأصبحت قطر أول دولة في الخليج تعتمد حدًا أدنى لأجور العمال لا يتغير بتغيّر جنسية العامل ولا طبيعة العمل. وشددت عقوبات عدم دفع الأجور. وتجنبًا للإجهاد الحراري حظرت قطر العمل في الأماكن المكشوفة ما بين العاشرة صباحًا والثالثة عصرًا. وبدأت قطر في السماح بإنشاء لجان مشتركة لعمال الشركات لتمثل صوتًا للعمال في ما يشبه النقابات العمالية. لكن منظمة هيومن رايتس ووتش تؤكد أن تلك الإصلاحات ليست إلا حبرًا على ورق. فالواقع أن أصحاب الأعمال خفضّوا الأجور بنسبة 30%، ويحتجزون مرتب أول شهر عمل كضمان لعدم فرار العامل، ولا يتم تعويض العمال عن ساعات العمل الإضافية.

فات أوان فتح التحقيقات في صدق أو كذب كل ما يُقال عن الدولة، ولم يعد ممكنًا سحب البطولة من قطر لو ثبت انتهاكها لحقوق العمال، وتوافدت المنتخبات المشاركة بالكامل ولم يمتنع أحد عن المشاركة، ويفصل العالم بضع ساعات على بدأ البطولة رسميًا. لذا ربما تسكن الأصوات  كلها مع أول دحرجة للكرة في المباراة الأولى، ولا شيء سيعلو حينها على هتافات التشجيع. فحتى أطفال المخيّمات السورية الذين يأكلهم البرد ويقتلهم الجوع، الذين يصعب للغاية أن تشرح لهم عدد الأصفار أمام رقم 220 ليصبح اسمه مليارًا، أو تقنعهم بالجدوى السياسية والاقتصادية لإنفاق أي رقم في أي دولة من دول العالم على أي شيء سوى بيت وطعام، لم تمنعم مآسيهم من غناء الأغنية الرسمية للمهرجان، والبحث عن سبل لمشاهدته.

لكن خلف كل هذه الأصوات، المنتقدة والمؤيدة، المبهورة بالتنظيم، التي تراه ملطخًا بالدم، خلفهم جميعًا حقائق لا يمكن تجاهلها. صحيح أنه من الصعب الوصول إليها، ومحاولة تفنيدها كلها، لكن كل فريق معه جانب من الحقيقة. لهذا فأبرز ما يمكن أن يصبح نقدًا لقطر هو غياب الشفافية، والتعتيم على الحقائق التي قد تحمل إدانتها، لكنها في الوقت ذاته، قد تكون أدلة براءتها. هذا إذا كانت الدول عليها أن تكون إما بريئة أو متهمة، لكن التاريخ، قبل الحاضر، يقول إن كل الدول بريئة بدرجة ما ومتهمة بدرجة ما، والسياسة هي في إظهار الجانب الذي تريد وقتما تريد، وإخفاء الجوانب الأخرى لحين الوقت المناسب.