لم يتخيل السيد «ريبيلو جونيور» مذيع الراديو البرازيلي أنه على وشك تغيير طريقة التعليق على مباريات كرة القدم عندما صاح جووووووول حتى نفدت منه أنفاسه.

كان هذا عام 1946، أي بعد 14 عامًا من بث كرة القدم لأول مرة على الهواء مباشرة على الراديو البرازيلي. كان جونيور محب لفريق ساوباولو ولم يتمالك نفسه بعد مشاهدة هدف جميل لفريقه المحبب لذا وبشكل تلقائي صرخ من فرط النشوة صرخته الشهيرة.

منذ ذلك اليوم أصبحت تلك الطريقة مفرطة المشاعر هي الطريقة المعتادة للتعليق على مباريات كرة القدم في أمريكا اللاتينية. طريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة الأوروبية التي تتسم بالهدوء والتحليل. تليق طريقة التعليق المفعمة بالانفعالات تلك بكرة القدم اللاتينية وأهدافها الجميلة كما أنها مناسبة لجماهير تتسم بالعاطفة الشديدة.

لا أمل أبدًا من الصراخ بكلمة جول بعد كل هدف، لأن كل صرخة تنقل معها الكثير من العاطفة.
أندريس كانتور المعلق الأرجنتيني والملقب باسم السيد جول

تتطلب طريقة التعليق اللاتينية بالضرورة كرة قدم جميلة تنتزع الآهات من المعلق فتصبح هنا المبالغة مقبولة، أما المبالغة في وصف كرة قدم فعادية تصيب المشجع بالصداع وتضع المعلق في خانة الادعاء على الفور وهو ما قد يعاب على كثير من المعلقين العرب المحبين للمدرسة اللاتينية.

على الجانب الآخر يبرز المزيج المثالي بوجود كرة جميلة ومعلق شغوف، هنا نجد تعليقات يخلدها التاريخ ويحفظها الناس وتكتسب شهرة تفوق أحيانًا الأهداف واللاعبين. وخلال الآونة الأخيرة هناك ثنائي هو الأفضل من حيث جمال الكرة وجودة التعليق.

نحن هنا رفقة فارس عوض ونابولي أو فيما يعرف هذا المزيج  بـ«نابولي يا سلاااام». أفاق فريق الجنوب أخيرًا من سبات عميق وعاد لانتزاع الضوء من فرق أوروبا جميعها، لكنه لم يكتف بذلك فقط فقد أعاد لنا صوتًا مميزًا أبعدته ظروف لا علاقة لها بالكرة وهو صوت المعلق فارس عوض.

فارس عوض: كرة القدم بصوت الخليج

يؤكد عوض أنه كان طفلًا مدللًا وجمع بين التفوق و المشاغبة في طفولته وصولًا لدراسته المحاسبة دون حب، بينما كانت كرة القدم هي شغفه الحقيقي. علم أخاه حبه للتعليق على مباريات كرة القدم، وعندما وجد نفسه أمام المعلق الإماراتي «علي سعيد الكعبي» أخبره عن أخيه الذي تواصل مع فارس ليصبح معلقًا رياضيًا في قنوات أبوظبي الرياضية ويبدأ رويدًا رويدًا في صنع أسلوب خاص به تعلق به الناس بشكل كبير.

قصة لا تحتوي على معاناة شديدة وليال من الحرمان وأنهر من المشقة لكنها تحمل بين طياتها إشارة لأول ما يجب الالتفات إليه عند الحديث عن فارس وهو كثرة الأصوات الخليجية الناجحة التي تعلق على مباريات كرة القدم العالمية. فبخلاف الكعبي وعوض هناك العتيبي ويوسف سيف والبلوشي.

يتعلق الأمر ببث مباريات كرة القدم بالطبع، فقبل عشرين عامًا كان الصراع ثلاثيًا على بث مباريات الدوريات الأوروبية، تظفر قناة «أبوظبي الرياضية» بالدوي الإيطالي بينما تنتزع قناة «الجزيرة» الدوري الإسباني من براثن قنوات «ART» السعودية، التي حافظت على بث الدوري الإنجليزي، هكذا كان المشهد ببساطة.

أقيمت تلك القنوات على أكتاف معلقين مثل أيمن جادة وهشام الخلصي، لكن مع الوقت نشأ جيل خليجي جديد من محبي كرة القدم ومشاهديها ومتابعين أهم تفاصيلها وكان من المنطق بينما تبث تلك المباريات من أراض خليجية للعالم العربي أن تبرز أصوات خليجية شابة للنور.

كان فارس عوض واحدًا من هؤلاء، محملًا بثقافة كروية واطلاع واضح ومحب لكرة القدم ومعلق متمكن. بدأ من أبوظبي ثم انتقل إلى الجزيرة بعد أن سيطرت على الصراع في ثوب «بي إن» الجديد لكنه لم يستمر إلا عدة أشهر.

يشبه الأمر حديث المعلق المصري «أيمن الكاشف» أن سر تفوق المعلقين العرب هو جودة المنتج المعروض بينما هو وأقرانه يعلقون على الدوري المصري الهزيل ثم بعد أيام من هذا الحديث أطلق على أحد الحراس لقب «بيفون» وكان يقصد بالطبع «جيانلويجي بوفون».

يفسر لك هذا المشهد ببساطة كيف أن الصوت الخليجي أصبح قادرًا على تلبية ذوق محبي كرة القدم لأنه بخلاف سهولة وصوله لكابينات التعليق، إلا أنه محمل بثقافة حقيقية كما أن للغة العربية سحرًا خاصًا بها.

التعليق اللاتيني وسحر اللغة العربية

يصيح المعلق اللاتيني جول بعد كل هدف حتى تنقطع أنفاسه بينما يصيح فارس عوض بتعبيرات عربية أصيلة لكن بصوت أجش وشغف لاتيني خالص. كلمات مثل «يا ربااااه» و«مستحيل» و«هذا لا يحدث كل يوم» و«يا سلام نابولي انتهى الكلام» لا يمكن أبدًا أن تنساها بسهولة، هذا لأن فارس صنع مزيجًا مثاليًا بين الشغف اللاتيني والتعبيرات العربية الساحرة.

استغل معلقو الخليج سحر اللغة العربية الذي لا يقاوم في التعليق على مباريات كرة القدم ليصنعوا مشاهد خالدة وباقية في ذهن المشجعين وستبقى. تتمتع اللغة العربية بحلاوة وصف وإيجاز مثالي عبر كلمات بسيطة. لا يمكن لأحد أن ينسى وصف الكعبي لميسي «قاتل يراقص موتاه» على سبيل المثال. حتى وإن قرر المعلق أن يسرد أبياتًا كاملة من الشعر مثلما يفعل «البلوشي» فإن أذن المشاهد تطرب للشعر بينما عيناه تطرب للكرة.

يمكننا اعتبار فارس من أهم المعلقين المتعلقين باللغة العربية الفصحى ومستخدميها بشكل مؤثر. يساعده في ذلك صوته الأجش ومخارج ألفاظه الممتازة، كان هذا هو ما قدمه للجماهير في البداية، وكان الرهان يتعلق بمدى قدرة الرجل على عدم تكرار نفسه. فاز عوض بالرهان واستمر سنوات يقدم للجميع تنويعات مختلفة وتعبيرات جميلة دون أن يقع في فخ التكرار.

قرر فارس أن يستقيل من التعليق عبر شبكة «beIN» القطرية لأسباب تتعلق بأزمة سياسية خليجية بعد ستة أشهر فقط من العمل بالشبكة. ولأن شبكة «beIN» باتت هي المسئولة عن بث أغلب الأحداث الكروية العالمية خفت صوت فارس عوض خلال السنوات الأخيرة، لكنه عاد خلال الموسم الحالي رفقة كرة قدم تستحق أن يكون صوتها هو صوت فارس.

نابولي وفارس وشيء من الماضي

استطاعت شبكة قنوات «أبوظبي» أن تحصل على حقوق بث الدوري الإيطالي وهو أمر ليس بالكبير فذات الدوري كان يبث عبر «يوتيوب» خلال العام الماضي في إشارة واضحة لتراجع الدوري الإيطالي أمام بقية الدوريات من حيث الزخم والقوة.

لكن ما حدث لم يتوقعه أحد، لقد ثار بركان فيزوف بعد أعوام من الخمود. ظهر فريق نابولي بنسخة ممتعة للجميع، رفقة لاعب ينتمي لكرة قدم ظن الجميع أنها ذهبت إلى غير رجعة حتى إن اسمه مثل طلسم «كفاراتسخيليا».

يقف سباليتي كل أسبوع ليعيد إحياء نابولي ومعه تم إحياء الكرة الإيطالية التي ستقدم فريقًا في نهائي دوري أبطال أوروبا بنسبة 75% على الأقل وذلك لأول مرة منذ قرابة الست سنوات. عادت الجماهير لتحفظ أسماء لاعبي نابولي مرة أخرى وأصبحت أسماء مثل لوبوتكا وإينجويسا وأوسيمين معروفة للجماهير العربية لكنها معروفة بصوت وحيد هو صوت فارس عوض.

عاد فارس بقوة رفقة كرة نابولي ليعيد للأذهان التعليقات المثالية المفعمة بجودة اللغة والصوت المنتشي والحضور القوي. خدمت الظروف فارس عوض ليعود لمكانة يستحقها، وخلال الشهور الماضية لا يوجد محب لكرة القدم لا يصيح مقلدًا صوت فارس «إن لم يكن بإمكانك الوقوف بوجههم، فعليك أن تقدم لهم التحية».