تعتبر دراسة السير التاريخية «التراجم» من بين الاتجاهات التي تناولتها دراسات التاريخ الاجتماعي حديثاً، وهي الدراسة التي تولي اهتماماً كبيراً بدراسة شخصيات تاريخية ثانوية ظلت لفترة طويلة حبيسة خلف الأحداث، وخلف نجوم شباك التاريخ الرسمي، وكذلك بين سطور الكتب والمؤلفات والصحف والمجلات القديمة، رغم أنها في الواقع كانت أكثر التصاقاً بالمجتمع والناس.

ومن بين تلك الدراسات التي أنصفت أبطال التاريخ الاجتماعي الثانويين دراسة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر محمد عفيفي التي أعطى لها عنوان: «الدين والسياسة في مصر.. القمص سيرجيوس» وصدرت عن «دار الشروق» في 2001، وتناولت بالبحث شخصية فريدة من نوعها، لها من الدور الوطني والتاريخي فصول وفصول، ولها من الحكايات عجب العُجاب، وهي شخصية القمص سيرجيوس.

نعرف سعد زغلول، ولا نعرف القمص سيرجيوس

هكذا ومثل أغلبنا، تعرف الكاتب محمد عفيفي على القمص سيرجيوس من خلال فيلم «بين القصرين» المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ للمخرج الراحل حسن الإمام، حيث مشاهد النهاية التي تصوِّر مظاهرات ثورة 1919، التي ظهر فيها شيخ يخطب في كنيسة، وقمص يخطب في الجامع الأزهر، إذ كان سيرجيوس هو ذلك القمص (تاريخياً)، حتى إن البعض كان يلقبه بـ«خطيب الثورة».

بالتأكيد كان نجم الثورة الأول وبطلها هو سعد زغلول، إضافة إلى من كانوا معه في رحلة الوفد، إلا أن سيرجيوس – ورغم أن فيلم حسن الإمام لم يذكر حتى اسمه- سيظل علامة فارقة في التاريخ المصري. وتعتبر دراسة الدكتور عفيفي إحدى الدراسات التي أنصفت الرجل بعد حياة طويلة عاشها بين نكبات ومطاردات ونجاحات في مصر والسودان ورفح، فضلاً عن تغيرات في أفكاره وآرائه ومواقفه، وقد انتهت تلك الحياة باكتئاب شديد في أواخر سنين عمره.

المعلومات التي أتيحت لصاحب الدراسة عن طفولة سيرجيوس ليست كبيرة، فهو مواليد جرجا في 1883 بصعيد مصر، ولد لأسرة توارثت سلك الكهنوت، فكان جده وأبوه قساوسة، وبالتالي فإنه تربى على الخطابة والوعظ.

في 1889 ذهب إلى القاهرة للالتحاق بالمدرسة الإكليركية، وقد ظهرت لديه مبكراً روح التمرد، فقد قاد سيرجيوس في 1902 تمرداً لطلبة الأكليركية من أجل إصلاح شئونها وأحوال الطلاب فيها، فهددت البطريركية باستدعاء الشرطة لفض الاعتصام، فلجأ الطلاب إلى أهم شخصية علمانية قبطية آنذاك، وهو بطرس غالي باشا، الذي نجح في تهدئة الأجواء بين الطلبة والبطريركية. في 1904 تزوج سيرجيوس ليتم ترسيمه «قساً»، وخدم في «الزقازيق وسنورس وملوي» بالصعيد، حتى رُقي إلى درجة «القمص» في 1907، وبعدها بخمس سنوات انتقل للعمل بالسودان وكيلاً للمطرانية القبطية.

إلى هنا تبدو الأمور عادية، ولكن في السودان بدأت رحلة نضال وطني حقيقية، حيث شهدت فترة وجوده في السودان الأحداث الطائفية التي أعقبت اغتيال بطرس غالي باشا، ولكنه نجح مع بعض علماء الملسمين هناك في وأد الفتنة، بل أصدر مجلة سماها «المنارة المرقسية» وبث من خلالها أفكاره وآراءه الداعية إلى المحبة والتسامح بين المسلمين والمسيحيين، لكن بالتأكيد هذا لم يعجب المستعمر البريطاني، فأمرت سلطات الاستعمار بإعادته إلى مصر، وتحديداً مسقط رأسه جرجا، في 1915، وهكذا عاد سيرجيوس بلا عمل ولا راتب باستثناء بعض الأموال التي كان يرسلها له أصدقاء من السودان.

أربع سنوات على الحدث الذي زلزل مصر، وهو ثورة 1919، حيث وجدها سيرجيوس فرصة لإخراج ما بداخله من إحساس بالقهر والظلم، فكان أحد أبطالها، ويشير عفيفي في كتابه هنا إلى أن اشتراك سيرجيوس في الثورة جاء بعفوية وتلقائية (إلى حدٍّ كبير)، على عكس موقف كثير من وجهاء ورموز وساسة الأقباط حينها، الذين لم ينخرطوا في الثورة إلا بعد ترتيبات عدة، فقد هالهم في بداية الأمر أن يتكون وفد سعد زغلول دون أن يتضمن في عضويته شخصية قبطية، لذا اجتمعوا في نادي رمسيس القبطي للتشاور، وانتهى رأيهم إلى ضرورة إرسال وفد منهم لمقابلة سعد زغلول وسؤاله عن وضع الأقباط.

في أثناء ذلك كان سيرجيوس يترك حياته الأولى التي وزعها بين الدراسة والوعظ والعبادة إلى النزول بين الجماهير ليهتف: «يحيا سعد.. يحيا الاستقلال»، بل توجه إلى الأزهر الشريف، حيث اعتلى منبره خطيباً وداعياً إلى الثورة، فكان سيرجيوس، ووفقاً لتعبير عفيفي: «ظاهرة جديرة بالبقاء في ذاكرة الأمة حتى الآن».

نفي ثم عودة ثم إحباط

كانت نتيجة اشتراكه في النشاط الثوري أن تم القبض عليه في منزله، واقتيد إلى قسم الأزبكية، ثم مبنى المحافظة، ثم إلى ثكنات الجيش الإنجليزي في قصر النيل، ثم ذهب إلى التحقيق أمام ضابط إنجليزي كبير، أصدر عليه أمراً بالنفي إلى رفح. ورغم حالة الاضطراب التي شابت العلاقة بين سيرجيوس والكنيسة، فإن أمر النفي أغضب الكنيسة (ولو على سبيل الانتماء)، فقد بعثت برسالة غضب وامتعاض إلى السلطان أحمد فؤاد، طالبة منه التدخل للإفراج عن سيرجيوس باعتباره رجل دين، وتسليمه إلى الكنيسة، وهي من تقرر مصيره، لا سلطات الاستعمار.

لم تفلح محاولات الكنيسة، ونُفي القمص سيرجيوس إلى رفح، وهناك وجد أسوأ معاملة، حتى إنه كان دائم الاحتجاج على ذلك بل وبعث رسائل عدة إلى الجنرال اللنبي المندوب السامي البريطاني، يحتج فيها على ما وجده من معاملة سيئة سواء في ثكنات الجيش الإنجليزي أو في منفاه، ولكنها كانت من دون أي رد.

مكث سيرجيوس في منفاه الذي كان يضم العديد من الشخصيات الوطنية مثل محمود فهمي النقراشي ومصطفى القاياتي، وقد أفرج عنه بعد نحو 80 يوماً. ليعود من جديد، حيث تحولت الثورة إلى معركة سياسية ودستورية، تدور رحاها في الأروقة والاجتماعات واللقاءات، لا الشارع، واقتصرت على رجال السياسة والأحزاب أبطال التاريخ الرسمي، لا الجماهير البطل الثانوي دائماً!

بين 1919 و1936، كان سيرجيوس يتخبط في عالم السياسة، انضم إلى الهيئة السعدية ضد حزب الوفد بقيادة النحاس ومكرم عبيد. دخل في معارك ضد جماعة الإخوان المسلمين، وكانت في أغلبها تتخذ الطابع الديني لا السياسي أو الحزبي أو حتى الفكري، وهو أمر لم يعتده سيرجيوس، بل حوّل دفة دوره الوطني الداعي للوحدة بين عنصري الأمة، إلا دور الداعي إلى حقوق الأقباط، وهو ما دفع مكرم عبيد (وهو خصم سياسي لسيرجيوس) إلى أن يتهمه بأنه: «قضى حياته في شتم المسلمين»!

في 1949 أعلن سيرجيوس ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب عن إحدى دوائر شبرا، والغريب كما يرى عفيفي أنه رغم رفعه شعارات الوحدة ومحاربة الطائفية، فإن ممارساته الانتخابية وكثيراً من تحالفاته ظهر فيها الجانب الطائفي، كأن يخطب في الكنائس فقط، وكأن يؤكد في حملته أنه «أول كاهن في مجلس النواب» وغيرها، بل وإنه هاجم حزب الوفد بضراوة بسبب ترشيحه إبراهيم فرج أحد أقطاب الحزب آنذاك أمامه، كما اتهم الشرطة بالانحياز لمرشح حزب الوفد، لكنه وقبل الانتخابات بأيام تنازل لصالح إبراهيم فرج في خطوة مفاجئة.

مراجعة الأفكار، واكتئاب آخر العمر

في ثاني فصول الكتاب، يناقش الدكتور عفيفي بشكل دقيق التحولات التي طرأت في أفكار القمص سيرجيوس، وبخاصة في مواقفه من الإنجليز، فالعداء الذي كان يناصبه القمص للمستعمر قبل وأثناء وبعد ثورة 1919 تحول مع مرور الزمن، وقد أورد عفيفي نصاً لسرجيوس يعود إلى سنة 1949 يمتدح بريطانيا لمساندتها أقباط مصر!

تحولت أفكاره أيضاً من مناوئ للسلطة إلى مساند لها في شخص الملك فاروق، الذي ظل يسانده حتى نهاية عصره، بل أفرد لمديحه أجزاء من مجلة «المنارة القبطية» التي أسسها في مصر بعد تجربة السودان. والعجيب، أن موقف مساندة فاروق سرعان ما تغير بعد ثلاثة أشهر فقط بعد اندلاع ثورة يوليو 1952، حيث وصف الملك بأنه كان ينظر إلى المصريين كأنهم أغنام وجاموس!

يعرّج الدكتور عفيفي على دور سيرجيوس في حركة الإصلاح القبطي التي لا نستطيع فصلها عن حركة إصلاح عامة في المجتمع، التي بدأت مع بدايات التحاقه بالعمل الإكليركي، وهو ما أدى إلى توتر علاقته بالبطريركية حتى منتصف الثلاثينيات، وقد تحول موقفه بعد أن تمت الاستعانة به في عدد من المناصب المهمة داخل الكنيسة، ومن مهامه كانت احتواء أزمة التحول بين الأديان.

لقد تأثر سيرجيوس بالفاشيستية في ما يبدو عندما أسس لحركة «الشباب القبطي» مقتبساً أفكار جماعة «مصر الفتاة»، التي كانت تدعو إلى الإصلاح عن طريق الشباب، ويرجح كثير من المؤرخين أن جماعة سيرجيوس كانت نواة لظهور جماعات أخرى تتصارع فيما بينها داخل الكنيسة، ومنها جماعة «الأمة القبطية» التي استطاعت في يوم من الأيام أن تقوم بعملية اختطاف لـ«الأنبا يوساب»، بطريرك الكرازة المرقسية المصرية!

كما نرى فإن سيرجيوس دخل في أتون أزمات ومشاكل سياسية ودينية واجتماعية، فبعد أن كان بطلاً للوحدة في ثورة 1919، نراه في يناير من عام 1931 يطالب من حكومة صدقي باشا إلغاء المادة الدستورية التي بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام. يعزي عفيفي تلك التحولات التي طرأت على فكر سيرجيوس بسبب انتشار جماعة الإخوان في الحياة السياسية والاجتماعية بمصر، وتوغلها وأفكارها في المجتمع ككل.

في نهاية الكتاب ذكر عفيفي أن رجال ثورة يوليو سمحوا له في سنة 1959 بأن يلقي العظات في الكنائس دون التطرق إلى الأمور السياسية أو المسألة القبطية، ولكن من بين الأرشيف الصحفي حوار مهم له في النصف الثاني من عام 1959 بمجلة «المصور»، حيث جلس القمص في بيته بجزيرة بدران بشبرا وهو في الـ75 من عمره بين أوراقه وكتبه، وأمام أحد أبنائه الذين لولا مساعداتهم، لمات الرجل من الجوع، جلس الرجل يشكو من ضعف حالته المادية.

استعاد سيرجيوس مشهد خطبته في الأزهر بملابسه الكنسية، استعاد وقت أن كان يخطب في الشوارع والحارات والمقاهي، استعاد مشهد الشعب نسيجاً واحداً مترابطاً لا فارق فيه بين مسلم ومسيحي ويهودي. استعاد ذلك كله وهو يكتب مذكراته، ويكتب تفسيراً عصرياً للإنجيل.

حُزن القمص لم يكن فقط بسبب حالته المادية الصعبة، بل أيضاً لأن المصريين لا يعرفون تاريخه جيداً. حزن سيرجيوس لأنه شعر بأنه لم يُعامل بالشكل اللائق. حزن عندما تذكر أنه قال للضباط الإنجليز الذين صوبوا أسلحتهم تجاهه: «مسدساتكم محشوة بالحلوى.. لا بالرصاص»، احتجاجاً على معاملتهم المتعجرفة بعد الإفراج عنه، حزن لأنه أخبرهم بأنه مستعد للموت أو للاعتقال من جديد، حفاظاً على كرامته كمواطن مصري.

كان يراجع سيرجيوس شريط حياته في هذه الأثناء. ربما ندم على دخوله معترك السياسية، ربما كان عليه أن يكون هادئ الطباع، فكثيرون يعتبرونه حاد للغاية في آرائه ومعاملاته، ربما كان عليه أن يهتم أكثر بالعمل الصحفي وبمجلة «المنارة»، ربما كان عليه أن ينتهي من تفسيره العصري للإنجيل قبل وفاته في 1964.