بإطاحة نظام العقيد معمر القذافي بعد ثورة 2011، سرعان ما انقسمت التنظيمات المحلية، بينما مضت تفاصيل بناء الدولة الجديدة على مسارين متزامنين، أولهما محاولة إجراء انتقال سلمي ديمقراطي للسلطة بتنظيم الانتخابات والثانية تأسيس الميليشيات لقواعد سلطة محلية بقوة السلاح، تعززت ببسط سيطرتها على الأصول الاقتصادية، خصوصًا النفط.

وتقول الدكتورة أنيسة بلال، المستشار الاستراتيجي للقانون الدولي الإنساني في أكاديمية جنيف، إن تعقيد الوضع في ليبيا سببه أن أكثر من 15 جماعة مسلحة قوية تتشارك إدارة في النالأموزاع، إلى جانب ست دول: مصر والإمارات وفرنسا وقطر وتركيا والولايات المتحدة.

كل هؤلاء منقسمون عبر خطوط أيديولوجية ووطنية وإقليمية وعرقية وقبلية مختلفة، لا يمكن توزيعها إلى معسكرين قومي وإسلامي كما جرت العادة، ولو على سبيل التبسيط المفرط. وربما هذا هو السبب تحديدًا في تبديل الولاءات السريع، والذي لا يبدو مفهومًا لغالبية المتابعين.

تشمل عوامل التقسيم التوترات التاريخية القبلية والعرقية بين الأقاليم في البلاد، والتي يعود بعضها إلى ما قبل نظام القذافي، وأخرى إلى سياساته التمييزية، وأخيرًا إلى النزاعات بين القوى الثورية والقوى الفاعلة المرتبطة بالنظام القديم.

علاوة على ذلك، تأصلت الجماعات المسلحة المقسمة أيديولوجيًا وسياسيًا بقوة مع الهويات المحلية أيضًا، ومع تصاعد حدة الصراع على حجز حصة في موارد ليبيا مستقبلًا، كان طبيعيًا أن يبدل المتحالفون مقاعدهم باستمرار؛ مرة بسبب الولاءات القبلية، وأخرى بسبب الأولويات الأيديولوجية أو السياسية، وثالثة بسبب توافق المصالح الآني.

معسكران رئيسيان

يعود الانتشار الحالي للجماعات المسلحة في ليبيا إلى أحداث 2011 نفسها، حين أدت حملة القمع العنيفة التي مارسها نظام القذافي ضد المتظاهرين إلى ظهور مجالس محلية وجماعات مسلحة مختلفة لحماية كل مدينة على حدة.

وبسقوط النظام، مدت بعض التنظيمات المحلية نطاق نفوذها ليتجاوز حدود إقليمها الأصلي، خصوصًا في المدن التي شهدت قتالًا عنيفًا احتاج إلى دعم الميليشيات الثورية من مدن أخرى، كما كان الحال في طرابلس وبنغازي كمثال.

كل تلك التنظيمات المسلحة بقيت محتفظة بسلاحها وإدارة أمورها الداخلية. لكن السلطة السياسية استمرت تحت سيطرة حكومة انتقالية، نقلت سلطتها في يوليو 2012 إلى المؤتمر الوطني العام المنتخب، الذي واجه عدة تحديات أهمها فوضى السلاح، وانتشار الجماعات المتشددة في أنحاء البلاد.

لكن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة في 2014 بالتحديد، عندما تصاعد العنف في منتصف العام بعد تعيين أحمد معيتيق – يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه مدعوم من قبل التنظيمات الإسلامية في مصراتة مقرًا لها – رئيسًا جديدًا للحكومة، ليطلق اللواء خليفة حفتر عملية الكرامة في 16 مايو 2014، معلنًا أن هدفه هو القضاء على الميليشيات الإسلامية في بنغازي، فيتحرك تحالف مضاد من الميليشيات الإسلامية / المصراتية من خلال عملية فجر ليبيا بهدف طرد مليشيات الزنتان المتحالفة مع حفتر من مواقعهم في العاصمة، بما في ذلك مطار طرابلس الدولي الاستراتيجي، والتي كانوا يسيطرون عليها منذ سقوط القذافي في 2011، ليتحرك فصيل يضم معظم أعضاء مجلس النواب في الشرق، للاعتراف بخليفة حفتر قائدًا للجيش الوطني الليبي، مشكلًا حكومة موازية لا تعترف بسلطة الحكومات المتعاقبة في طرابلس العاصمة.

بالوصول لتلك النقطة، تقاسم طرفان أصليان السيطرة على الأرض: فجر ليبيا سيطر على طرابلس ومعظم غرب البلاد، وائتلاف الكرامة، الذي سيطر على أجزاء من برقة وبنغازي في شرق ليبيا، وبدأت الحرب الأهلية التي لم تتوقف حتى الآن.

في نفس العام، تحديدًا في أكتوبر، ظهر متغير جديد في الساحة الليبية، عندما أعلن تنظيم داعش عن نفسه، ليحظى بمبايعة فصائل إسلامية في مدينة درنة، ويسيطر على مدينة سرت الساحلية، قبل طرده منها بحملة عسكرية استمرت ستة أشهر قادتها الجماعات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، مدعومة بضربات جوية شنتها القوات الجوية الأمريكية. وبنهاية عام 2016، تقلص وجود داعش إلى مناطق صحراوية في الجنوب وبعض الخلايا في جميع أنحاء البلاد.

حالة اللا-انتخابات

ورغم محاولات قادتها الأمم المتحدة لتشكيل حكومات وحدة وطنية تحظى باعتراف دولي ومحلي، طالما رفضت فصائل شرق ليبيا الاعتراف بنتائج الاتفاقيات، وواصلت القوات التابعة لحفتر محاولات السيطرة على العاصمة، لتنهض الفصائل المسلحة التي تسيطر على غرب ليبيا في محاولة دعم حكومة طرابلس، حتى تمكنت أخيرًا من صد الهجوم بمساعدة تركية، كان أهمها إمدادات الطائرات دون طيار، ما اضطر الأطراف في النهاية إلى إعلان وقف إطلاق النار وتدشين عملية سلام جديدة بدعم الأمم المتحدة، جلبت حكومة وحدة وطنية جديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بهدف الإشراف على انتخابات رئاسية كان يفترض أن تجرى في ديسمبر 2021، لكن العملية انهارت بسبب غياب الاتفاق على تفاصيل قواعد التصويت.

بالوصول إلى ديسمبر 2021، أعلن مجلس النواب في طبرق أن حكومة الدبيبة باتت تفتقد الشرعية، معلنًا التصويت على حكومة جديدة برئاسة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا. ونالت الحكومة الجديدة الثقة، كما حظت باعتراف الجيش الوطني الليبي. لكن الدبيبة رفض التنازل عن منصبه، متعهدًا بعدم التنازل عن السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات، وهو إجراء تدعمه الأمم المتحدة على ما يبدو.

حاول باشاغا اقتحام طرابلس أكثر من مرة، لكن الفصائل الموالية للدبيبة منعته، فاضطر لمغادرة العاصمة سريعًا.

الوضع الحالي

إذا كنت مدركًا لتفاصيل التقسيم التقليدي للقوى العسكرية والسياسية في ليبيا، فالأمر مختلف تمامًا هذا المرة. رئيس الحكومة المدعوم من مجلس النواب فتحي باشاغا نفسه كان جزءًا من تحالف غرب ليبيا في السابق، وهو الذي لعب الدور الأهم في منع القوات المدعومة من شرق البلاد من دخول طرابلس في 2019، مستعينًا بعلاقاته من تركيا في ضمان وصول الطائرات دون طيار، والتي استخدمها حلفاء رئيس الحكومة حينها فايز السراج في صد هجوم خليفة حفتر.

كيف تبدل موقع فتحي باشاغا نفسه للتحالف مع عدوه السابق؟ يمكن الإجابة عن السؤال عبر لعبة تبدل المصالح المستمرة في ليبيا عمومًا. لكن النقطة التالية الأكثر أهمية كانت خسارته لانتخابات المجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة حين حل على قائمة واحدة مع رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، في مواجهة قائمة الدبيبة – محمد المنفي.

لكن، كيف قرر الهجوم على حلفاء الأمس؟ يقول محللون ليبيون، إن باشاغا ربما اضطر للتحرك تحت ضغط من لاعبين محليين وأجانب أجبروه على دخول طرابلس وفرض الأمر الواقع، خصوصًا بعدما اندلعت مظاهرات شعبية متفرقة لم تميز بين سلطة الطرفين، شهدتها طبرق وبنغازي الشرقيتين، بجانب طرابلس العاصمة، فيما ألقى كل طرف باللوم على الآخر في خلق الصعوبات المعيشية التي أدت لاندلاعها.

ويقول خبراء سياسيون ليبيون في ذلك الوقت، إن محاولات باشاغا السابقة لدخول طرابلس كانت سيئة التخطيط وانتهت بفشل سياسي مدو، مما وجه ضربة قاسية إليه ولحلفائه المحليين والدوليين. لذلك يرجحون أن تتأخر المحاولة التالية قليلًا، حتى يحصل على ضوء أخضر كاف للنجاح، مع ما يعنيه تكرار الفشل لمستقبله السياسي.

المحاولة الثالثة

ينحدر كل من باشاغا والدبيبة من مدينة مصراتة الغربية. لكنهما مدعومان من قوى مختلفة في طرابلس. لكن الأول يقول إنه تلقى «دعوات إيجابية» لدخول العاصمة، متوقعًا أن تغير بعض التشكيلات مواقفها تباعًا.

ليس سهلًا تقسيم مواقف التشكيلات الحالية بين المعسكرين. والتقسيم الذي قد نصل إليه الآن ربما يتغير سريعًا. لكن إجمالًا، تشير مصادرنا على الأرض إلى أن الأطراف الرئيسية في طرابلس انقسمت بين الاحتفاظ بالولاء للدبيبة (قوة الردع الخاصة – ميليشيا غنيوة الككلي) أو الانتقال لمعسكر باشاغا (كتيبة القوة الثامنة المعروفة بـ«النواصي» – الكتيبة 777 بقيادة هيثم التاجوري – كتائب الزنتان ورشفانة الخاضعة لسلطة اللواء أسامة الجويلي والمسيطرة على مناطق جنوب طرابلس).

توزيع القوى بتلك الطريقة لن يقدم أي فرصة للحل العسكري. لكن باشاغا يعول على الأغلب على سحب ولاء ميليشيا الأمن العام واللواء القتالي 444 إلى صفه، بعدما وقفا على الحياد في الاشتباكات السابقة.

وبينما ارتبط فشل باشاغا في الاستيلاء على العاصمة حتى الآن برفض تركيا لحكومته، فإنه لم يكن رفضًا عدائيًا على ما يبدو، إذ لعب اللواء القتالي 444، الذي تشكل قبل نحو عامين بإشراف وتدريب تركي، دورًا رئيسيًا في إنهاء الاشتباكات وتوفير ممر آمن لباشاغا للتراجع.

ويُنظر إلى باشاغا على أنه أحد اللاعبين الرئيسيين القلائل الذين لديهم علاقات جيدة مع القوى الأجنبية التي تدعم الأطراف المتنافسة في البلاد. لكن تلك الأطراف تخشى من تقدمه دون حسم، بما يعيد البلاد مجددًا إلى الحرب الشاملة، بما فضل معه الانسحاب التكتيكي. فبينما قال إنه نجح حتى الآن في تجنب أي مواجهة عسكرية، لكنه تعهد بألا يبقي ليبيا على هذا الحال إلى الأبد.

فرص الحسم السياسي

في الوقت الحالي، يبدو الفصيلان الرئيسيان في العملية الليبية (الدبيبة من ناحية وفتحي باشا ومجلس النواب والجيش الوطني من الأخرى) غير مستعدين للقبول بحلول وسط، انطلاقًا من كون القواعد الحالية للعبة تبقي كل طرف على ما حقق من مكاسب على الأرض فعلًا، دون قدرة حقيقة على الانتزاع من مكاسب الطرف الآخر؛ لا فتحي باشاغا انتزع ما يكفي من تحالف مع ميليشيات غرب ليبيا بما يمكنه من اقتحام طرابلس وتنصيب نفسه بالقوة، ولا الدبيبة يملك ما يمكنه من الإطاحة بالنظام القائم فعلًا في شرق البلاد.

وبينما أطلقت عدة أطراف محاولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة مقبولة من جميع الأطراف، فالمتوقع أن يحاول كل طرف منع الوصول إلى هذا الهدف؛ لإبقاء الوضع على الأرض على حاله لأطول فترة ممكنة، انتظارًا لتغيير لا يبدو مستبعدًا في خريطة التحالفات الحالية بانقلاب فصيل قوي على حليفه الأصلي، بما يفتح المجال لتعديل الأوضاع بقوة السلاح.

في مثل هذا الموقف، تبدو فرص الحل السياسي- خصوصًا الاتفاق على آلية إجراء الانتخابات- أبعد من أي وقت مضى، خصوصًا بعدما أعيقت كل الجهود الدولية للتوسط؛ مبدئيًا بسبب الخلاف بين القوى الإقليمية المعنية، وثانيًا بين الفصائل المحلية، التي تخشى من أن يؤدي إجراء انتخابات جديدة بإشراف دولي إلى خسارتها للجمل بما حمل، بما يعني أن الأقرب أن السياسة لن تحمل جديدًا يذكر على المدى القصير على الأقل.