الكتابة عن الشهيد «فتحي الشقاقي» مهمة بالغة الصعوبة، على الأقل بالنسبة لي، فإذا كانت الشهادة أكبر من أن تحتويها العبارة، وقد تحققت في شخص الرجل الذي حفر عميقًا في مسار الحركة الإسلامية والوطنية الفلسطينية، بالرغم من رحيله وهو في الرابعة والأربعين من عمره؛ فإن الشقاقي من أهم الروافد التي صبّت في وعيي المبكر، وقد رحل وأنا في ذروة إعجابي به في العام ١٩٩٥م، ومن ثم فإن إلزامات العاطفة حاضرة بقوة حين الاقتراب من مقام الرجل الذي عظمت شهادته المبكرة من السحر الغامض الكامن في شخصه والمتجلي في مسيرته الطويلة جدًا، والقصيرة جدًا، هذا وأنا لم أنتم يومًا للحركة التي أسسها.

الكتابة عن الشقاقي تكشف عن الفرادة الاستثنائية التي ميزت المفكر والقائد والسياسي والمجاهد، والرمز للمثقف المشتبك مع الواقع

بيد أن الكتابة عن الشقاقي شاقة من جوانب أخرى، تكشف عن الفرادة الاستثنائية التي ميزت المفكر والقائد والسياسي والمجاهد، والرمز للمثقف المشتبك مع الواقع، وصانع المعرفة من موقع المجاهد، والذي استحالت شخصيته إلى دالٍّ على التحولات الكبرى التي عبرتها المنطقة، من بعد هزيمة العام ١٩٦٧م، مرورًا بالإحيائية الإسلامية التي تصاعدت في سبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى الغزو السوفييتي لأفغانستان وانطلاق الجهاد الأفغاني، وانفجار الثورة الإيرانية، وخروج الثورة الفلسطينية من لبنان، في تضافر مذهل من العوامل، كان يمنح التاريخ وجهه ووجهته.

ويمكن ملاحظة هذه الكثافة الهائلة في شخص الشقاقي بنظرة عابرة على مسيرته الطويلة والقصيرة في آن واحد، فالشاب الذي تحوّل عن الناصرية بعد هزيمة العام ١٩٦٧م، كشأن جيل كامل منحته تلك الهزيمة مفتاح البحث عن السؤال الصحيح، «من نحن؟ ولماذا نهزم؟ ولماذا الآن؟ لماذا انتصرنا سابقًا وانهزمنا الآن؟»؛ التحق بجماعة الإخوان المسلمين، وارتبط بالشيخ «أحمد ياسين»، وبدا له وكأنه وجد الإجابة أخيرًا في كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، الذي أعلن، بحسب ما رأى الشقاقي في حينه، إفلاس الإيديولوجيات السائدة، الأمر الذي شكل «بداية رؤية جديدة وقيادة جديدة للبشرية».

إلا أن الشاب الذي كان متجاوزًا للنمط الثقافي السائد في جماعة الإخوان المسلمين، وقد قرأ، بالإضافة إلى «حسن البنا»، و«سيد قطب»، و«محمد الغزالي»، «شكسبير»، و«دوستويفسكي»، و«تشيكوف»، و«سارتر»، وإليوت، ونجيب محفوظ، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد باقر الصدر، ووضع ملاحظات نقدية على سارتر وهو في السابعة عشرة، وكتب مقالًا عن لينين في الذكرى المئوية لميلاده وهو في التاسعة عشرة، وأطل على التاريخ من نوافذ ألبرت حوراني وهشام شرابي ومجيد خدوري؛ وجد أنه إزاء أسئلة أخرى غير تلك التي تصدى لها حسن البنا، باتت الأدبيات الإخوانية دون أن تجيب عليها، أو تقدم بها رؤية للعالم، ونموذجًا يعيد صياغة العصر وفلسطين من الإسلام.

تبدو كثافة التحولات الكبرى هنا مركزة في شخص الشقاقي، بأثر هزيمة العام ١٩٦٧م، ثم بأثر كتابات سيد قطب على وجه الخصوص، ثم بانخراطه بالجدل الوطني، واطلاعه عن كثب على الدعاية اليسارية التي هيمنت على الحركة الوطنية في تلك اللحظة من عمر القضية الفلسطينية، وغياب الحركة الإسلامية عن الفعل النضالي الفلسطيني، أثناء دراسته في كلية بيرزيت ثم تدريسه الرياضيات في القدس، ما دفع الأسئلة إلى الأمام أكثر، ومنح التوتر والقلق المزيد من القوة والانفعال، في دواخل شخص بالغ الفاعلية، وشديد الطموح.

نبهت النكبة الثانية العرب إلى الخطر الذي يهدد استمراراهم التاريخي كثقافة ففتحت عيونهم على حتمية «الحل الإسلامي»

لكن القفزة الأكبر إلى الأمام ستتخلق من رحم السجالات العاصفة في قلب الجامعات المصرية، بعدما التحق الشقاقي بجامعة الزقازيق في العام ١٩٧٤ لدراسة الطب، ليتفاعل مع أجواء الصعود الإسلامي في الجامعات المصرية، وبدايات تبلور الجماعات الجهادية المصرية، وعلى النحو الذي تمليه طبيعته الحركية والشغوفة والبحّاثة، وبما يتجاوز انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين التي ظل منتميًا إليها إلى العام ١٩٧٩م.

فقد اتصل بذلك الواقع كله وتأثر به بالانحياز إلى الجماعات الجهادية وخطها الثوري الجذري، وعمل على التأثير فيه بمحاولة تجاوز الأفق السلفي لتلك الجماعات، حتى أخذت هذه القفزة مداها الأقصى مع الثورة الإيرانية التي واكبها الشقاقي بكتابه الشهير: «الخميني: الحل الإسلامي والبديل». ومن هنا بدأ الافتراق عن جماعة الإخوان المسلمين، وبدأت النواة الأولى لـ «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين».

تكتمل هذه القفزة، بتأثر الشقاقي البالغ بكتاب «ما بعد النكبتين» وما تضمنه من أفكار مؤلفه السوري توفيق الطيب، حول سقوط القدس وهزيمة العام ١٩٦٧، وهو الذي اعتبر فيه أن سقوط القدس في الخامس من حزيران ١٩٦٧، أخطر من سقوطها على يد الصليبيين الذين تراجعوا في ظل التفوق الحضاري الإسلامي، وأخطر من سقوط قرطبة التي كانت طعنة في الجناح بينما سقوط القدس طعنة في القلب، وأخطر من سقوط بغداد على يد التتار الذين كان شأنهم في ظل التفوق الحضاري الإسلامي، كالصليبيين، إما أن يذوبوا أو يتراجعوا.

وبهذا نبهت النكبة الثانية العرب إلى الخطر الذي يهدد استمراراهم التاريخي كثقافة ففتحت عيونهم على حتمية «الحل الإسلامي»؛ ذلك لأن الوجود الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، في فلسطين، التي هي نواته المغناطيسية، يمثل أوج التحدي الغربي السياسي والثقافي للعالم الإسلامي والحضارة الإسلامية، وهو ما يجعل قضية فلسطين، قضية المسلمين والإسلام الأولى في العصر الحديث.

ومن هنا جاءت مقولة الشقاقي التأسيسية «القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية» التي أسس عليها مشروعه، واستخدمها أداة للتحليل، ومفتاحًا لمشكلات الوقت، وحجة لتجاوز الظرف الانتظاري، ودور اللادور، الذي كانت تعيشه الحركة الإسلامية في فلسطين بانتظار إنجاز أخواتها في البلاد العربية مشاريعها القطرية الخاصة على الطريق إلى فلسطين.

لكن الحركة الإسلامية، التقليدية كما يصفها الشقاقي في حينه، كانت تعيش بدورها إرهاصات تبشر بامتلاك الدور والتخلي عن الموقف الانتظاري. ففي الوقت نفسه، ومنذ أواخر السبعينيات، بدأت الكتل الطلابية والاتحادات الشبابية للإخوان المسلمين الفلسطينيين بالتشكل في الكويت وأوروبا وأمريكا الشمالية، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، والعمل في بداية الثمانينيات على تأسيس مشروع جهادي إسلامي في فلسطين، وهو ما انتهى في صورة «حماس» الحالية.

ومن جهة أخرى، كان تيار ماركسي ماوي في حركة فتح، عبرت عنه كتابات منير شفيق، قد بدأ بالتحول نحو الإسلام، حتى انتهى إلى تأسيس «سرايا الجهاد الإسلامي» التي اشتركت مع مجموعة الشقاقي في تنفيذ عملية «باب المغاربة»، وهي التي يمكن اعتبارها من حلقات العمل النضالي التي تراكمت وصولًا إلى الانتفاضة الأولى.

وكان منير شفيق في كتابه «في الوحدة العربية والتجزئة»، في العام ١٩٧٩، قد أكد على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للنضال الثوري العربي، وهو الذي التقى فيه مع أطروحة الطيب من جهة أن مصير الإمبريالية العالمية في الوطن العربي، إن لم يكن في العالم بأسره، مرتبط كليًا ببقاء الكيان الصهيوني.

وهكذا لم يكن الشقاقي مجرد شاهد على التحولات الكبرى في المنطقة وفي فلسطين، ولكنها تكثفت فيه، تفاعل معها وصار من صانعيها الكبار، كما تكثفت فيه بامتياز ظروف الشعب الفلسطيني، اللجوء والنضال والاعتقال والنفي والشهادة، فالشقاقي المولود في العام ١٩٥١م لعائلة لجأت من يافا إلى مخيم رفح بقطاع غزة، اعتقل في العام ١٩٨٣م، ثم في العام ١٩٨٦م، وأبعد عن فلسطين في العام ١٩٨٨م، ليغتاله الموساد في مالطا في العام ١٩٩٥م. إنها حياة قصيرة جدًا ولكنها اختزنت أخرى طويلة جدًا.