قليلة هي الأفلام التي تعرض صراعًا محايدًا بين طرفين، لتُفتن بكليهما، فهي لا تُهمل مشاعر الأبطال ولا تبخل على مشاعرك، لا تمل من المشاهدة، بل تتمسك بحقك المقدس في اتباع شغفك السينمائي، بأسلوب عذب غير مُتكلِّف ومُزين بشخصيات أصيلة تشعر بقربها إليك، فيلم يجمع بين أعمال العصابات والجريمة، والعائلة وعاطفة الأبوة، مع نفحة من أفلام المراهقة والطفولة الضائعة. إنه فيلم A Bronx Tale.

ففي أحد أحياء نيويورك الفقيرة، يقع طفل في فخ الإعجاب برجال العصابات، ويصبح حلمه الانضمام إليهم، بينما يحاول والده التدخل وإبعاده عنهم.

في أحد الأحياء الإيطالية

«كالوجيرو» طفل يبلغ من العمر تسع سنوات، يعيش مع عائلته على بعد بضعة أبواب فقط من مكان الاستراحة الخاص بالمافيا المحلية، يقضي أيامه في اللعب مع أصدقائه أمام المنزل، وركوب الحافلة مع والده السائق «لورينزو»، الذي يلعب دوره «روبرت دي نيرو»، لكن كالوجيرو يقع تحت تأثير سحر المافيا، خاصة «سوني» الذي يلعب دوره «تشاز بالمينتيري»، زعيم مافيا الحي والذي يمثل كل شيء يحلم به الطفل كالوجيرو، ويُفتتَن بطريقته في الكلام ولغة جسده الغريبة، حيث يستخدم أصابعه بطريقة لم يشهدها الطفل من قبل، وكيف يبسط سيطرته على الحي بأكمله من على كرسيه، فيحترمه رجاله كأنما كان إلهًا.

يظل الطفل يشاهد من بعيد، يحلم فقط بأن يلاحظه سوني، حتى جاء اليوم، أثناء لعبه في الشارع، يشهد الطفل كالوجيرو شجارًا بين رجال المافيا، حيث يقوم سوني بقتل رجل فيما يبدو صراعًا على مكان السيارة، لتطلب الشرطة بعدها الطفل للشهادة ضد سوني، لكنه ينكر رؤيته، فيُعجَب به سوني، ويختصه بالرعاية والحماية، وبعد سنوات تعزَّزت العلاقة بين كالوجيرو وسوني، وبدأ في العمل تحت إمرته، حيث يأتي كالوجيرو بانتظام إلى سوني للحصول على المشورة بشأن الحياة والحب مما يثير استياء والده.

يجد الطفل نفسه في صراع بين والده الفقير المُجِّد في العمل والفخور بظروفه الصعبة، وبين رجل العصابة القوي الذي يكسب المال من مكانه، وفي حين يميل الطفل للعصابة، يحاول والده إنقاذه منهم ونصحه، ولتكون مواجهة بين رجل يعيش في الحي، ورجل يملك الحي كما جاء في الملصق الدعائي.

ثم يتطور الفيلم لمناقشة العنصرية، والمشاكل العرقية في أمريكا، عندما يقع الشاب كالوجيرو في الحب من زميلة له في المدرسة، لكنها من أصحاب البشرة السوداء، وبالطبع لن يتقبلها أهله ولا أصحابه، وربما كانت العلاقة بينهما سببًا في نزاع كبير، ليجد نفسه مرة أخرى في أزمة جديدة.

قد يرى البعض أن الفيلم مثل أغلب أفلام العصابات يُبرِّر الجريمة، ويمتدح المجرمين ورجال المافيا، لكنه يعرض وجهة نظر أخرى لحياة الإيطاليين في أمريكا، ليسوا جميعهم مافيا، بل هناك مجتمع كامل يعيش في تلك الأحياء، يوجد بها سائق الحافلة الشريف، المُجِّد في عمله، كما يوجد سوني المجرم.

وبعكس المتوقع، فإن سوني لا يُعلِّم الشاب كالوجيرو الإجرام والقتل، بل يُرشده إلى ما يراه الطريق الصحيح، ويهديه سيلًا من الحكم والنصائح، تُبعِده عن الجريمة قدر المستطاع، ويُصمِّم على أن يهتم بتعليمه واستكمال التعليم الجامعي، فيقول له في أحد المشاهد:

تصرَّف كما أقول لك لا كما أفعل أنا.

لكن أهم درس في الفيلم في رأيي، عندما كان الطفل لا يفهم لماذا يريد والده أن يبتعد عن العصابة وسوني، فيبكي: «لا أفهم يا أبي»، فيرد عليه: «ستفهم عندما تنضج» ويحتضنه إلى المنزل.

ثم في نهاية الفيلم يقول على لسان الشاب كالوجيرو: «الآن أخيرًا فهمت»، لا يوجد أي ملابسات حول رسالة الفيلم، الأب على حق، المافيا سيئة، لكن يمكنك أيضًا أن تتعلَّم منهم، وأن بعض الناس تُفرَض عليهم حياة معينة لا يمكنهم التخلص منها.

رحلة الفيلم إلى الشاشة

بحلول عام 1988، كان الشاب ذو الأصل الإيطالي «تشاز» يعمل حارسًا في أحد الملاهي، بعد تعثر مسيرته التمثيلية وفشله في الحصول على أدوار جيدة، فاضطر للاعتماد على وظائف أخرى.

في يوم من الأيام قام أحد مرتادي الملهى بإهانته، وتسبَّب في النهاية في طرده من العمل، حاول بعدها تشاز العودة للتمثيل لكن بلا فائدة، فقال في نفسه: «إذا لم يعطوني أدوارًا تستحق، فسأقوم بكتابة دور لنفسي».

وبدأ بكتابة حوار مدته 5 دقائق، مُستلهَم من طفولته في الحي الإيطالي، وحادثة القتل التي شهدها في عمر التاسعة، حيث قال: «بالفعل شهدت قتل رجل أمام عيني، بنفس الطريقة التي حدثت في الفيلم، حينها سحبني والدي من يدي إلى المنزل». وفي خلال 10 أشهر، حوَّل هذا الفصل من طفولته إلى مسرحية مدتها 90 دقيقة، لعب خلالها 18 دورًا، من بينها الطفل، وبمساعدة أحد الأصدقاء، وصلت المسرحية إلى مدينة المسرح لوس أنجلوس، لتبدأ رحلته مع الشهرة والنجاح.

بعدها توالت العروض على تشاز لتحويل المسرحية إلى فيلم، وتراوحت من 250 ألفًا إلى مليون دولار، لكنه رفضها جميعًا، لأنه أراد القيام بدور سوني زعيم المافيا، وسط رفض المنتجين، فظل الوضع كما هو عليه لسنوات، في موقف مشابه لما حدث مع «سيلفستر ستالون»، حين رفضوا أن يقوم بدور روكي وأرادوا شراء السيناريو منه.

استمر الوضع كذلك حتى قدوم «روبرت دي نيرو»، حيث شاهد أحد أصدقاء الأخير العرض المسرحي، وحكى له عنه، فأراد دي نيرو بشدة تقديم القصة على أن تكون تجربته الأولى في الإخراج، وبخلاف التوقعات أن يقوم بدور رجل العصابة كما في معظم أفلامه، قرَّر لعب دور الأب، ووعد تشاز بتحقيق رغبته في لعب سوني، حتى إنه طلب من تشاز أن يشترك معه في كتابة السيناريو، وكانت الميزانية الأساسية 1.5 مليون دولار، لكن منتجي استوديو Universal انسحبوا من المشروع عندما تعدت الميزانية 10 ملايين دولار.

وهنا أنقذ دي نيرو العمل مُجددًا، وتولى الإنتاج مع شركته Tribeca Productions، وبدأ البحث عن أطفال مناسبين للقيام بدور كولجيرو، حتى عُثر على «ليلو برانكاتو» بالصدفة على أحد الشواطئ، وعندما عرضوا عليه التقدم للدور في تجارب الأداء، قام بتقليد دي نيرو وجو بيتشي في فيلم Goodfellas، وحصل على الدور في النهاية.

صدر الفيلم في عام 1993، وحقق الفيلم المطلوب ولاقى استحسان الجمهور والنُقَّاد، وحقق ما يزيد على 17 مليونًا إيرادات.

دي نيرو مخرجًا

كأي فنان مُبدع وراغب في التعلم، لم يخجل دي نيرو في طلب المساعدة والنصح في أولى تجاربه الإخراجية، بالطبع كان الأمر صعبًا وجديدًا على أحد أفضل الممثلين على الإطلاق، فما كان منه إلا أن طلب المساعدة من صديقه «مارتن سكورسيزي». وفي حوار مع مجلة Interview، يقول دي نيرو: «سألته كيف تفعل ذلك؟ كيف تقوم بذلك؟» وأخذ نصيحة بعض الممثلين الذين تحوَّلوا للإخراج مثل «داني ديفيتو».

ويُكمِل عن التحدي الأكبر خلال تجربته:

أعتقد أنني شعرت أنني سأكون بخير … لم أكن أرغب في بناء نوع من الخوف من الإخراج … توجيه نفسك ليس مرهقًا، أنت فقط غير مرتاح بعض الشيء، لأنه [عندما تقوم بالتمثيل] عليك أن تُثبِّت عقلك بطريقة معينة، وبعد ذلك عليك توجيه أشخاص آخرين أيضًا.

أمَّا النتيجة فكانت أن الفيلم مليء بالمشاهد المميزة التي قد تقوم عليها أفلام كاملة، فيض من المشاعر والتلقائية في وجه كل ممثل، الجميع يعمل بارتياحية، دي نيرو قريب من الممثلين، وبالأخص الأطفال، بشكل غير متوقع، لا يهابون الوقوف أمام ممثل أسطوري، يتعاملون معه بهدوء.

بالتأكيد دي نيرو لعب دورًا في ذلك، مشاهد المواجهة بين دي نيرو وتشاز مُتقنة، ترى فيها بوضوح الإحساس بالخطر في وجه شخصية دي نيرو، والقوة والصلابة في لغة الجسد، بالطبع تشاز يلعب سوني باقتدار، فهو مُبتكر الشخصية ويعلم كل أبعادها، لكن يُحسَب للمخرج دي نيرو أيضًا أنه أعطى المساحة للإبداع، ولم يحاول التحكم في الممثلين.

يمكن أن تختلف مع حجم التقدير أو المدح، ربما لم يكن عملًا إخراجيًّا عظيمًا، لكن بالنسبة لأول تجربة! مخرجون كبار كانت أول أفلامهم أقل بكثير.

مباشرةً بعد صدور الفيلم تمت مقارنته بـ Goodfellas. مقارنة ظالمة بالطبع، ومن غير العادل أن تُقارِن دي نيرو بمارتن سكورسيزي أحد أعمدة السينما، وسيد سينما العصابات والجريمة. بعض الانتقالات الأخرى لها علاقة بفجوات في القصة، لكن دي نيرو عاود الكرة مرة واحدة في إخراج فيلم The Good Shephard (2006)، وشارك في بطولته أيضًا، وتوقَّفت مسيرته الإخراجية عند ذلك الحد.

أب داخل وخارج الشاشة

في الفيلم يقوم دي نيرو بدور أبي الممثل الشاب «ليلو»، ويعطيه النصائح للعيش بالطريقة الصحيحة، ويحذر في الفيلم من أن «أحزن شيء في الحياة موهبة ضائعة»، كأن الكلام مُوجه له في الحقيقة، لم يكتفِ دي نيرو بالنصيحة في الفيلم بل خارجه أيضًا.

بعد نجاح الفيلم، حقَّق ليلو شهرة كبيرة، وأصبح من الممثلين المعروفين، وتوالت عليه الأدوار، حتى ظهر في المسلسل الشهير The Sopranos، حينها زاره دي نيرو في منزل والديه، وحذَّره من خطورة الشهرة والتغيرات التي ستطرأ على حياته، يمكنها أن تؤدي إلى عواقب وخيمة لو لم يُحسِن مواجهتها.

لكن لسوء الحظ لم يستمع ليلو للنصائح، وحدث ما كان يخشاه دي نيرو، وانتهى به الأمر في 2005 بقضاء 8 سنوات من 10 في السجن، بعد محاولة سرقة مع صديق، أدت لمقتل شرطي، تم اتهام ليلو بالسرقة والسجن 10 سنوات، أمَّا صديقه فتم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل، ليضيع مستقبل واحد من أفضل الممثلين الشباب في جيله للأسف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.