يبدو أن متاعب روسيا مع جيرانها الألداء لن تنتهي بغزو أوكرانيا، بل ربما ستزداد، فبعدما أصرّت كييف على عدم الانصياع لرغبة موسكو وسعت لنيل عضوية الناتو قرّر بوتين عقابها إزاء تلك الخطوة التي اعتبرتها موسكو تهديدًا لأمنها القومي.

الأمن القومي لروسيا لا يرتبط بأوكرانيا فقط وإنما بعددٍ من جيرانها الذين يُحيطون بها من كل جانب، ومنهم الدولتان الإسكندنافيتان فنلندا والسويد.

على الرغم من إحجام الناتو عن مساعدة أوكرانيا عسكريًا وتركها تخوض حربها ضد روسيا وحدها- وفقًا لما هو مُعلن على الأقل، فإن خطوة الغزو في حدِّ ذاتها أثارت رعب تلك الدول المتاخمة لحدود الدب الروسي والتي لا تملك ما يكفي من قوة عسكرية لصدّ أي اعتداء قد يقع عليها.

في فنلندا مثلاً، وفور اندلاع الحرب تصاعدت الرغبة في الانضمام إلى حلف الناتو في الرأي العام وبين صفوف السياسيين الفنلنديين، وهو السيناريو الذي قد يوسّع رقعة الحرب في أوروبا الشرقية إن تم وفقًا لما يريده قادة غرب أوروبا ولا تريده روسيا بكل تأكيد.

فنلندا: الحياد لم يعد يفيدنا

هذا الاستقلال لم يدم طويلاً بعدما أعاد الجيش الأحمر احتلال فنلندا عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد عملية عسكرية عُرفت بِاسم «حرب الشتاء». عقب هذه الحرب قدّمت فنلندا لموسكو تعهدات بالحياد مقابل احترام سيادتها وعدم التدخل في شؤونها، وهو الأمر الذي حافظت عليه طويلاً حتى أظهرت روسيا ميولها العدوانية تجاه أوكرانيا.

تمتلك فنلندا حدودًا شاسعة مع روسيا يبلغ طولها 1300 كيلومتر، كما أنها – مِثلها مثل أوكرانيا- تمتلك تاريخًا معقدًا من التبعية لروسيا، فلقد عاشت لأكثر من قرنٍ تابعة للإمبراطورية الروسية قبل أن تُعلن استقلالها عنها عام 1917م.

فعقب انهيار الاتحاد السوفييتي بدأت فنلندا في التطلّع غربًا حتى انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي سنة 1995م، وعقب انتزاع روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014م ازداد رعب هلسنكي وكثّفت من تدريباتها العسكرية المشتركة مع الناتو.

وبحُكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي بين الشرق والغرب فإنها آثارت إعلان الحياد، وطوال عقودٍ من المشاحنات التي سبقت الحرب تجاهلتها فنلندا تمامًا باعتبارها دولة «غير منحازة عسكريًّا» لأي أحد.

هذا الوضع تغيّر فور اندلاع الحرب، واجتياح الجيش الروسي أوكرانيا، وهي الخطوة التي أثارت الرعب في نفوس الفنلنديين من أن تتكرر في بلادهم، فبحسب استطلاع رأي، فإن 68% من الفنلنديين الذين شاركوا في الاستطلاع باتوا مؤيديين للانضمام إلى الناتو.

وسيكون لافتًا للانتباه الإشارة إلى أن هذه النسبة كانت 21% منذ 5 أعوام وحسب.

وقال أكساندر ستاب رئيس وزراء فنلندا السابق لـ«سي إن إن»، إذا كان بوتين سمح بذبح إخوته وأبناء عمومته في أوكرانيا فإنه لا شيء يمنعه من فِعل ذات الشيء في فنلندا.

فور اندلاع الحرب صرّحت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين بأن «روسيا ليست الجارر الذي اعتقدناه»، واستدعى الفنلنديون تجارب دولٍ مثل ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وجميع تلك الدول جارة لروسيا لكنها لم تجرؤ على مهاجمتهم– رغم الخلافات الحادة بين جميع الأطراف- لأنهم أعضاء في الناتو.

هنري فانهانين، مستشار السياسة الخارجية لحزب الائتلاف الوطني في فنلندا أكد أن بلاده شهدت «تغيرًا سريعًا» خلال الأشهر القليلة الماضية، واعتبر أن انضمام بلاده إلى الناتو بات «مهمًا واستثنائيًا».

لم يتوقف هذا الأمر على حدِّ التصريحات وإنما تحول إلى خطوات ملموسة، وبدأ البرلمان الفنلندي مناقشة المخاطر المتوقعة عن لقيام بتلك الخطوة، كما أعلنت رئيسة الوزراء سانا مارين بأنها ستقرّر ما إذا كانت بلادها ستتقدّم بطلبٍ للانضمام إلى الناتو أم لا خلال أسابيع معدودة.

تأتي هذه الخطوات في ظل ترحيب متوقّع من قادة الناتو وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي بايدن، على الرغم من الإجراءات المعقّدة التي يحتاجها قبول العضوية والتي قد تستلزم عامًا كاملاً من المباحثات، لكن الظروف الاستثنائية قد تغيّر كل شيء وهو ما يتّضح من تصريح أندرس فوغ راسموسن الأمين العام السابق لحلف الناتو، بأن فنلندا يمكنها الانضمام «بين عشية وضحاها».

السويد أيضًا تفكر

هذا الموقف لم يتوقّف على فنلندا وحدها، وإنما امتدَّ إلى السويد كذلك، والذي عقد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم في السويد عدة اجتماعات لمناقشة مسألة انضمام بلاده إلى الناتو من عدمها، وهي الخطوة التي قد تكسر 200 عامٍ من الحياد التزمت بها السويد بالصمت إزاء كافة نزاعات العالم، وقال الحزب في بيانٍ رسمي إن «غزو روسيا لأوكرانيا غيّر الموقف الأمني للسويد بشكلٍ جذري»

يأتي هذا في ظل تصاعد الرغبة الشعبية في القيام بتلك الخطوة، فبحسب استطلاع رأي فإن 57% من السويديين يؤيدون الانضمام إلى الناتو، وهو ما أنبأ عن تحوّل سريع ومتنامٍ لتلك الرغبة في صفوف السويديين بعد أن كانت نسبة الموافقين على الانضمام 51% فقط في مارس الماضي.

فيما كشفت صحيفة «سفينسكا داجبلاديت» السويدية المحلية أن ماجدالينا أندرسون رئيسة الوزراء كانت تخطط بدورها للتقدّم لنيل عضوية الناتو بأسرع وقت.

فماذا عن روسيا؟

تمثّل تلك الخطوات خطرًا شديدًا على روسيا، فانضمام هلسنكي وحدها إلى الناتو يعني أنه سيمتلك حدودًا مشتركة مع موسكو يبلغ حجمها 2533 كيلومترًا تسمح له بالكثير والكثير حال اندلاع أي خلافٍ مع موسكو.

لا تتوقف الإشارات التي ترد عن موسكو من أنها تتابع عن كثب ما يجري في فنلندا، فحينما حاول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلقاء خطابٍ أمام البرلمان الفنلندي تعرّضت مواقع حكومية لعمليات قرصنة إلكترونية، وهو تكتيك روسي شهير لتأديب مخالفيها.

هذا الشهر أعلن ديمتري بيسكوف المتحدّث بِاسم الكرملين أن هذه الخطوات «لن تجلب الاستقرار إلى أوروبا»، فيما حذرت ماريا زاخاروفا المتحدثّة بِاسم وزارة الخارجية الروسية أن جاراتها سيواجهن «عواقب عسكرية وسياسية» إذا انضمت إلى الناتو.

الرد الأقسى على تلك الخطوات هو التصريح الذي بدر عن ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروس وحليف بوتين الأمين، حين أكد أنه حال انضمام فنلندا أو السويد إلى حلف الناتو فإن روسيا ستنشر أسلحة نووية على حدودها مع دول البلطيق، وهو ما يعيد سيناريو الحرب النووية –الذي يسعى الجميع لتجنّبه- إلى الواجهة مُجددًا.