في عام 1865 أبحرت سفينتان من الموانئ التركية إلى البصرة عن طريق رأس الرجاء الصالح، غير أن الرياح في المحيط الأطلسي لم تأتِ بما تشتهي السفينتان، إذ قذفت بهما إلى السواحل البرازيلية، لتسجل وصول عبدالرحمن البغدادي كأول رحالة مسلم إلى هذه البلاد، فتخلف عن الرحلة ومكث في هذه الأراضي ثلاثة أعوام، تفاعل خلالها مع المسلمين هناك ورصد أحوالهم، ودوّن مشاهداته في مخطوطة منحها عنوان «مسلية الغريب بكل أمر عجيب».

المخطوطة المذكورة حققها وعرض لها خالد رزق تقي الدين في كتابه «المسلمون في البرازيل»، إذ استعرض الظروف التي ألقت بالرحالة العربي إلى البرازيل وأهم ما دونه.

عاصفة قوية

الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي الدمشقي كان عالمًا أديبًا ذا مواهب متعددة، يكتب الشعر والأدب، ويتقن العلوم المختلفة إضافة للعلوم الشرعية، ويتقن اللغتين العربية والتركية، وكان محبًا للسفر والتجوال، وسافر من الشام إلى الدولة العثمانية في الأستانة في عهد السلطان عبد العزيز الأول (1861- 1876).

وترقى «البغدادي» في المناصب ليصير إمامًا للبحرية العثمانية، وحينما علم أن سفينتين ستسافران إلى البصرة مرورًا برأس الرجاء الصالح طلب الإذن لمرافقة إحداهما، وكان ذلك في عهد أمير البحار محمد صالح آتيش باشا، وقصد الشيخ من ذلك السياحة والتأمل.

وبدأت الرحلة سنة 1865، وحينما وصلت السفينتان للمحيط الأطلسي هبت عاصفة قوية، وحملتهما إلى بلاد بعيدة تبين بعد ذلك أنها مدينة ريو دي جانيرو عاصمة دولة البرازيل في ذلك الوقت، وهناك التقى مجموعة من المسلمين البرازيليين من أصول أفريقية، الذين ألحوا عليه في الإقامة في البرازيل لتعليمهم أمور الدين، وقبل الشيخ البقاء معهم بعد ثلاثة أيام قضاها في التشاور مع قائد السفينة حول وضع المسلمين هناك، والجهل الذي أصابهم، وتبديل دينهم.

مجيء المسلمين إلى البرازيل

وقبل استعراض مشاهدات عبدالرحمن البغدادي يجب الإشارة إلى الروايات التي تناولت أول اتصال للمسلمين بالبرازيل، وقد تطرق لها «تقي الدين» في مقدمة كتابه. إذ يذهب بعض المؤرخين إلى احتمالية وصولهم إلى هذه الأراضي قبل اكتشافها عن طريق بعض القوارب، نظرًا لتقدمهم في علوم البحار، ويستدلون على ذلك ببعض الكتابات والنقوش العربية التي وُجدت محفورة على بعض الأحجار في مدينة ريو دي جانيرو وغيرها من سواحل البرازيل وأمريكا اللاتينية عمومًا.

وتذهب روايات أخرى إلى أن مكتشفي أمريكا والبرازيل اصطحبوا بعض المرشدين المسلمين المتمرسين في علوم البحار، وهؤلاء تظاهروا بالنصرانية للهروب من محاكم التفتيش في إسبانيا، وحال وصولهم إلى البرازيل بدأوا في إظهار بعض الشعائر الإسلامية، ولم يلبثوا كثيرًا حتى تم اكتشاف أمرهم وأقيمت لهم محاكم تفتيش من قبل البرتغاليين في مدينة باهية عام 1594، ونُفذت ضدهم أحكام دموية تمثلت في الإعدام أو الإحراق أو الاستبعاد.

كما جلب المستعمر البرتغالي العبيد من أفريقيا، إذ كانت تنعم غرب القارة بالممالك الإسلامية القوية، وتم انتزاع هؤلاء العبيد قسرًا من أراضيهم وعوملوا معالمة غير آدمية، وسيقوا إلى بلاد بعيدة ومجهولة لهم، وهناك أُرغموا على التنصير لكنهم ظلوا محافظين على إسلامهم، ويمارسون شعائرهم الإسلامية خفية، وكان بينهم علماء ومشايخ يوجهونهم للتمسك بدينهم، فأقاموا داخل أكواخهم حلقات القرآن ومجالس العلم، وكان نتيجة هذا التمسك القوي بالإسلامي أن سمح لهم أسيادهم البرتغاليون بهامش من الحرية الدينية.

وتذكر بعض الكتب التاريخية، أن هؤلاء العبيد كانوا أسرى لأحد ملوك داهومي (تقع في بنين الآن) الوثنيين، إذ أسرهم في حروبه مع الدول الإسلامية وباعهم للبرتغاليين، وصادف أن كان من بين هؤلاء علماء في الدين، فنجحوا في الحفاظ على علمهم وأسسوا جاليات إسلامية قوية ومنظمة من المستبعدين في ولايات «باهيا» و«ريو دي جانيرو» و«سان لويس دو مرانيو»، ونجحوا في إدخال كثير من العبيد في الإسلام، وكان لهم شيء من الحرية الدينية.

جهل بأمور الدين

تخلف الشيخ البغدادي عن الرحلة ومكث في البرازيل بناء على طلب وإلحاح من أهلها، فبدأ يسجل ملاحظاته حول سلوكيات المسلمين، حتى يستطيع أن يشخص أمراضهم، ومن ثم يجد العلاج الناجح، وتبين له أنهم شديدو الجهل بأمور دينهم.

وبمجرد وصول الشيخ للإقامة مع المسلمين في مدينة ريو دي جانيرو، أجرى حصرًا لأعدادهم، فتبين أنهم نحو خمسة آلاف مسلم، ثم بدأ بعد ذلك دراسة ومتابعة أسباب انحطاط المسلمين وبعدهم عن شعائر الإسلام، ووجد أن مرد ذلك لعدد من الأسباب، منها الجهل بتعاليم الإسلام الأساسية، ويتجلى ذلك في عدم حفظهم للقرآن الكريم، ومن كان منهم يقرأ إلى سورة «النبأ» كانوا يعدونه عالمًا كبيرًا، وكانوا يحتفظون بالمصاحف في الصناديق بقصد البركة، وعند تلاوتهم للقرآن يصعب نطقهم لأحرف اللغة العربية.

كما لاحظ الشيخ مخالفة طريقة صيام المسلمين في البرازيل للتعاليم الإسلامية، وعدم احتجاب نسائهم، وشربهم للخمور، وعدم معرفتهم بالمواريث، واتباعهم العادات البرازيلية في ذلك، وانتشار الكهانة، وحب زعمائهم للرئاسة والدنيا على حساب السعي لتوحيد المسلمين.

وإزاء هذه الوضع، بدأ الشيخ بالعناية بأمور تعليمهم، وقسم النهار أقسامًا، لكثرة من كانوا يترددون على الدار حتى وصلوا إلى 500 مسلم، واختار الأطفال والراغبين في التعليم من الرجال، ولاطفهم في الأقوال والأعمال، حتى ظهر فيهم الصلاح، واستطاعوا أن ينطقوا الحروف العربية بشكل سليم.

ولم يتجاهل الشيخ عامة المسلمين، فنظم درسًا عامًا لتعليم قواعد الإسلام بعد صلاة الظهر، وقام بتحفيظ الصغار والكبار حديث الرسول «بُني الإسلامُ على خمس…»، وألّف رسالة خطها باللغة العربية، وكلامها باللغة البرتغالية، جمع فيها التعريف بصفات الله، تبارك وتعالى، وكذلك التعريف بالأنبياء، وفرائض الوضوء والصلاة، والصوم والزكاة والحج، وضمّنها مواعظ مختلفة. يقول الشيخ في مخطوطته: «وأغلب القوم حفظوا الرسالة، واستوعبوا المقالة، فظهر عليهم تغيير الحالة، وصاروا يتوضؤون، وللخمس يصلون، وبالصلاة يقرؤون».

واعتمد الشيخ في خطابه للمسلمين هناك، وكذلك في الأحكام الفقهية التي يفتي بها، على الأسهل الموافق لأحكام الشريعة من المذاهب الأربعة، وعلل ذلك بقوله: «خوفًا على قلوبهم من النفار، أو أن يستثقل أحد منهم دين النبي المختار».

الرجال لا يكلمون نساءهم أثناء الصيام

وفي ما يتعلق بصيام شهر رمضان، فقد رده الشيخ إلى وقته الصحيح، وأعلن ذلك في جميع الدولة البرازيلية، وكان قد لاحظ أن المسلمين لا يبلعون ريقهم أثناء الصيام، وإن كانوا في الصلاة بصقوا في كأس أعدوها لذلك، ولا ينظرون في المرآة، ولا يضاجعون نساءهم، ولا يكلمونهن إلا بعد الزوال، ويأكلون قبل الشمس، ويفطرون عند العشاء، وفي آخر رمضان يصومون ثلاثة أيام متتالية، لا يأكلون فيها شيئًا غير نوع من أنواع الشراب يشربونه عند الإمساك والإفطار، والنساء لا يصمن خلال هذا الشهر الكريم، وقد عمل الشيخ على بيان فساد هذه الأمور، وعلمهم الدين الصحيح.

أما بالنسبة لحجاب النساء والمواريث، فلاحظ البغدادي أن النساء كن يتمددن في الأسواق على ظهورهن مثل نساء الإفرنج بغير حجاب، وتتعاطين المنكرات، وترث المرأة من زوجها النصف إذا مات، والنصف الآخر يوزع بالسوية بين الذكور والإناث، فأبان الشيخ هذه المسألة، غير أن هذا الأمر لم يرق للنسوة، فترك الأمر لهن على الاختيار دون مشاحنة، حتى لا يتنازعن وينكشف أمر إسلامهن للدولة البرازيلية.

علم الكهانة

ما لفت انتباه الشيخ أيضًا انتشار علم الكهانة، خصوصًا بين رؤساء العشائر، وكانت وسيلتهم لجذْب قلوب الأتباع والعشيرة، فبيّن لهم أن هذه العلوم غير نافعة، والعمل بها حرام، وبالغ في نهيهم عنها، غير أنهم لم يعملوا بها. يقول: «إنهم أظهروا تركها إرضاء له فقط، وإن من الصعب إزالة هذا المنكر، لاعتمادهم عليه في كثير من الأحوال».

كما ركز الشيخ على انشغال زعماء العشائر بحب الدنيا والرئاسة، وسعي كل عشيرة لاحتواء الأُخرى، وقلة المحبة فيما بينهم، وحاول الشيخ أن يؤلِّف بين قلوبهم، ويزيل عيوبهم، واستطاع في بعض الأمور أن يصل لمراده، وأخفق في بعضها.

المترجم اليهودي يبيح شرب الخمر وإفطار رمضان

وحينما عاد الشيخ مع المسلمين للإقامة بينهم، جاؤوا بمترجم؛ ليكون أنيسًا له، فاستفاد الشيخ منه في تعلم أصول اللغة البرتغالية خلال فترة قياسية، فبدأ في إلقاء الدروس والخطب، وتفسير الأحكام، واستغنى بذلك عن هذا المترجِم الخبيث الذي لم يسترح له يومًا– على حد وصفه- إذ كان يتشكك في كونه مسلمًا، فعندما كان يسأل البغدادي المسلمين هناك عن من علمهم أمور دينهم المحرّفة كانوا يقولون إن المترجم هو من علمهم ذلك.

وبالفعل، اختفى هذا المترجم عن الجالية المسلمة فترة من الزمن، جمع خلالها الشيخ كل ما قام به هذا المترجم من التحريف والتبديل لدين الإسلام، فوجد كثيرًا من الأمور التي يشيب من هولها الولدان، واكتشف بعد ذلك أن هذا المترجم ليس مسلمًا وإنما يهودي.

وكان أول ما حرَّف هذا المترجم هيئة الصلاة، حيث علَّم الأفارقة طريقة غريبة لأدائها، فكان الواحد منهم ينوي تكبيرة الإحرام، ثم يميل قائمًا، مرة لليمين، ومرة للشمال، ويسجد للأرض بلا ركوع، ولا قراءة، ويكرر ذلك ما شاء دون الجلوس الأخير، ويخرج من الصلاة دون سلام، ويقول ما يريد فيها من الكلام، وإذا ضايقه البلغم أعد كأسًا إلى جواره يبصق فيها.

كما أباح هذا المترجم للناس الإفطار في صيام رمضان، وعلل ذلك بشدة الحرارة، وقدم صيامه لشهر شعبان، وأخبر المترجم الشيخ البغدادي أنه أفطر 15 يومًا في رمضان الماضي، وأنه ليس عليه ذنب، ولا يجب عليه الإعادة، وعلل ذلك بأنهم في البرازيل يصعب عليهم إقامة الفرائض وشعائر الدين.

كما حرّف هذا المترجم تحية الإسلام، وهي «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». يروي البغدادي: «وفي بعض يوم جاءني رجل من أكابرهم، ومعه آخر، وبدأ بالسلام بحسب ما تعلموا من هذا الدليل كيفيته؛ لأن كيفية سلامهم أن الرجل منهم حين دخوله يركع كاشفًا عن رأسه، ويلقي نفسه على البلقع، ويضع رأسه ووجهه على الغبراء، ولا يرفع حتى يُؤذن له، وهو مخصوص في مجالس العلماء»، وأوضح الشيخ أنه تخلص من هذه العادة السيِئة.

وأباح ذلك المترجم اليهودي للمسلمين شرب الخمر، واستطاع الشيخ بيان حرمانية ذلك، وسأله بعض المسلمين عن بيع الموجود بحوزتهم، فأفتاهم أن الذي حُرّم شربه حُرّم بيعه.

 ضريبة الدخول في الإسلام

وأخطر الأمور التي قام بها هذا المترجم اليهودي أنه فرض ضريبة على من يريد الدخول في الإسلام، عبارة عن عشرين ليرة من الذهب الأحمر. يروي البغدادي في مخطوطته، أن رجلًا من أكابر القوم جاءه يريد اعتناق الإسلام، وحينما وقف بين يديه أخبره أنه الآن قد اكتمل معه كامل المبلغ اللازم لاعتناق الإسلام، فتساءل الشيخ: ولماذا المال؟ فقال الرجل: إن الترجمان كان لا يقبل دخول أحد في دين الإسلام إلا إذا دفع عشرين ليرة من الذهب الأحمر، لا تنقص ليرة واحدة، وكان يقول لهم: هذا ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

ووقعت هذه الكلمات على سمع البغدادي وقوع الصاعقة، فطلب جمع المسلمين لمؤتمر جامع، حتى يبين لهم الحق في هذه القضية الخطيرة. وبحسب الشيخ، كان لهذا الموقف رد فعل قوي داخل المجتمع البرازيلي، حيث أسلم بعد ذلك 19 ألفًا من الأفارقة.

التعميد الإجباري للمسلمين

يروي الشيخ في مخطوطته، أن الكنيسة مارست دورًا غير أخلاقي بدأ في أفريقيا قبل شحن العبيد إلى البرازيل، من خلال إرغام المسلمين على التعميد وتغيير أسمائهم، ولا بد من حصول من يتم تعميده على ورقة تفيد ذلك، وإلا تعرض لكثير من الأذى طوال حياته، وكذلك كان يتم الأمر مع كل المسلمين في البرازيل.

واندرج هذا الأمر أيضًا على مراسم الدفن، فإذا لم توجد الورقة التي تفيد التعميد، كان لا يتم قبول دفن الميت، واستطاع الشيخ أن يجد حلًا لهذا الأمر بالتحايل على هذه القوانين الصارمة، وقام بتغسيل بعض المسلمين ودفنهم تجاه القبلة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

محاربة أي مظهر إسلامي

تعاونت الدولة مع الكنيسة للقضاء على أي مظهر إسلامي، ومع ذلك التضييق حافظ المسلمون على دينهم في الخفاء، حتى إنهم طلبوا من الشيخ البغدادي ألا يظهر بملابس العلماء، حتى لا يلفت النظر، ويُعرضهم للخطر. يقول «كنت أشتهي أن ألبس لباسي المألوف إذا خرجت للتفرج في البلدة، فيمنعني المسلمون من ذلك، ويقدمون لي أعذارًا، منها أنك إذا لبست لباسك، لا نقدر على المجيء عندك، وذهب نفعك؛ لأنه متى عرفوا أنَّك مسلم، ظنوا بنا مثلك».

وكانوا المسلمون يؤدون صلواتهم في السر. يروي «وكان الرجل منهم حين صلاته يغلق الباب، ويتوارى عن الخلاّن والأصحاب، ويُصلي منفردًا».

الهنود الحُمر

من الأمور المهمة التي سجلها الشيخ البغدادي خلال مشاهداته الحديثُ عما سماه «الأمم المتوحشة من بني أمريكا»، ويقصد بهم سكان البرازيل الأصليين «الهنود الحمر»، فقد علم أنهم يعيشون وسط الغابات المتشابكة، ويأكلون لحوم البشر، وأنهم بلغوا في علم المداواة بالأعشاب مبلغًا فاق أفلاطون وابن سينا.

والتقى الشيخ أثناء وجوده في مدينة ريو دي جانيرو بطبيب من أصول إفريقية كان قد عاش فترة من الزمن مع هؤلاء الهنود، وتعلم منهم طريقة استخدام الأعشاب وفوائدها المختلفة، وكانت فرصة للبغدادي ليطّلع على أمورهم ويتعرف على أحوالهم من خلال هذا الطبيب. يقول الشيخ: «وقد اجتمعت معه (أي مع الطبيب) وسألته عمن يسوس أمرهم، ويرجع إليه حلهم وعقدهم، فقال: أشدهم سحرًا أنفذهم أمرًا، وليس لهم دين يرجعون إليه بالكلية، ولا تفاخر بمتاع الدنيا الدنية، بل تفاخرهم بجميل نشاب وقوس وحراب بهية، ووحوش غريبة وكواسر يقتنونها فتحرسهم وتجلب لهم الخير، وتكلم أمامي بلغتهم فإذا هي كصفير الطيور».

ورغم أن الحديث عن تلك الأمم غريب وعجيب وشيق، ولكن الذي لفت نظر الشيخ البغدادي بصفته عالمًا وداعية هو كيفية دعوة الهنود الحمر إلى الإسلام، فقد علم من خلال حديثه مع الطبيب الإفريقي أن الهنود ليس لهم دين يرجعون إليه بالكلية، يقول في مخطوطته: «وكم خطر لي الذهاب إليهم لألقي دين الإسلام عليهم فيمنعونني المسلمون ويقولون لي: إن هذه الأمم لا يقبلون سيما ولا تعرف لسانهم، فربما يبطشون بك، فدع ما لا يعنيك، لئلا ترى ما لا يرضيك».

معاشرة قبل الزواج

وأثناء وجوده في ريو دي جانيرو، تلقى البغدادي دعوة لزيارة المسلمين في مدينة باهيا من خلال وفد جاء لدعوته للإقامة بين المسلمين هناك بهدف تربيتهم وتعليمهم شعائر الإسلام، وهذه البلدة كانت مشهورة بتصدير الببغاء، وأهدى المسلمون طائرًا منها للشيخ، وكان البغدادي حريصًا على ترديد الأذان داخل البيت ما جعل الببغاء يردده خلفه.

وذكر الشيخ أن رغبة المسلمين في تعلم الإسلام في مدينة باهيا أقل من رغبة المسلمين في ريو دي جانيرو، وأن أحوالهم تتماثل مع أحوالهم في الجهل في الدين، غير أنهم ينفردون عنهم ببعض الأمراض الأخلاقية، منها طريقتهم في الزواج، فإذا أراد الرجل الزواج اختار امرأة للعيش معها فترة من الزمن حتى تنجب منه، فإذا ظهر منها خلال هذه الفترة أنها تكتم سره وتدبر أمره وتحبه يقوم بالعقد عليها وتكون زوجته، وإن وجدها خلاف ذلك أعادها مع أبنائها إلى أبيها.

ووضع الشيخ حلًا لهذه المخالفات الشرعية، وقام بحملة توعية لهؤلاء الشباب ودعوتهم للتوبة، وكان من يتوب منهم يزوّجه بعقد ومهر، وأخبرهم بأن الله أباح الطلاق إذا وُجدت الحاجة إليه، وكانت هذه الطريقة سببًا في إصلاح سلوكيات الكثير منهم.

وصام الشيخ شهر رمضان مع مسلمي باهيا، وشعر برغبتهم في أداء صلاة التراويح، فقام بأدائها معهم عشر ركعات من باب التسهيل عليهم، وعدم التشديد عليهم في أحكام الشريعة، وكان هذا هو المنهج الذي اتبعه خلال إقامته في البرازيل، ما حبب الناس في دينهم ودفعهم للمحافظة على إسلامهم.

ولم يختلف وضع المرأة المسلمة في مدينة باهيا كثيرًا عن شكل وهيئة المرأة البرازيلية العادية؛ فهي تمشي متبرجة ولديها خلل في عقيدتها، وكانت إذا مات زوج الواحدة منهن أو أخوها أو أبوها تذهب للكنيسة وتتصدق على الرهبان، وتطلب منهم قراءة الإنجيل ووهب ثوابه للميت، وبالغ الشيخ في وعظهن والتلطّف معهن حتى انتهين عن هذه العادة السيئة التي تخالف شعائر وتعاليم الإسلام.

المسلمون في مدينة برنامبوكو

كما لبى الشيخ رغبة المسلمين في مدينة برنامبوكو أيضًا وطلبهم لوجوده لتعليمهم وتهذيب أخلاقهم، فسافر لهم ووصفهم بأنهم أشد نباهة وفطانة من الذين عاشرهم وعايشهم في مدينتي ريو دي جانيرو وباهيا، وكان يرشدهم لأمور الدين مسلم اسمه «يوسف»، ووصفه الشيخ بالنباهة والفطنة والعلم.

والمسلمون في تلك المدينة كانوا يعانون من نفس الأمراض السابقة التي أصابت المسلمين في البرازيل عمومًا، غير أن الشيخ ذكر أن الدولة كانت لا تضيق على مسلمي برنامبوكو كثيرًا، ومرد ذلك أن المسلمين كانوا بارعين في ممارسة الكهانة والتنجيم وضرب الرمل، وكان النصارى يعتقدون في توقعاتهم للمستقبل، بل ويعطونهم المال الوافر مقابل ذلك. وقد أقام الشيخ بين مسلمي برنامبوكو ستة أشهر، ومع قصر هذه المدة إلا أنه ظهر فيهم استجابة كبيرة لتعاليم الإسلام.

بعد هذه الفترة الثرية، شعر الشيخ بحنين إلى بلاد الإسلام، وسماع صوت الأذان ومقابلة الأصدقاء، فقرر السفر لزيارة أهله مع وعد للمسلمين بالعودة إذا سمحت له الدولة العثمانية بذلك وأرسلته إلى تلك الربوع مرة أخرى، فانطلق إلى بلاده مرورًا بالبرتغال وإسبانيا والمغرب العربي وصولًا إلى الشام.