أضواء حمراء وزرقاء، أناس يرتدون زي الشرطة يتحركون جيئة وإيابا، منهم من يحمل أكياس بلاستيكية ومنهم من يقوم باستجواب أحد العابرين على الناحية الأخرى من الشريط الأصفر البلاستيكي الذى يحمل عبارة «لا تعبر».عند المشهد الأخير للمقدمة ومباشرة قبل الذهاب للموسيقى التصويرية نرى لقطة سريعة لجثة الضحية.

تبدأ القضية – أو لنقل الحلقة – لنتابع مجموعة من المحققين وهم يقومون بحل لغز الجريمة باستخدام مزيج من التفكير العلمي والمنطق وبالطبع كمًّا ليس بقليل من المعجزات التي تحتمها الدراما. هذا هو الخط الزمني العام لنوعية من المسلسلات البوليسية يطلق عليها مسلسلات «تحقيقات موقع الجريمة Crime scene investigation» أو كما نعرفها اختصارا باسم CSI.ولأن للدراما ضروريات لا تتطابق دائمًا مع الحياة الواقعية، فإننا في حاجة إلى التفرقة بين الصورة المغلوطة للعلم والعالم الجنائي التي تظهر على الشاشة وفي الأدب (قصص أجاثا كريستي وإدجار ألان بو أو شيرلوك هولمز على سبيل المثال) وصورته الواقعية التي يمكن أن تراها في حال قادك القدر لزيارة معمل جنائي أو حتى لتكون على دراية بحقيقة مجريات الأمور في مثل هذه المعامل.

في محاولة لتصحيح بعض المفاهيم العامة عن العلوم الجنائية، سنناقش سويا في سلسلة من المقالات المبادىء الأساسية للعلم الجنائي، ما هو، كيف بدأ، كيف تطور، ما هي اّلياته العامة وبالطبع ما حقيقة الألوان المبهمة التي تظهر عندما يضع أحدهم قطرة من سائل على جدار كوب الماء لتظهر آثار الجريمة واضحة وتتم إدانة شخص ما.


من هؤلاء؟ وماذا يفعلون؟

http://gty.im/451109378

إذا كنا بصدد الحديث عن العلم الجنائي فإن علينا بطبيعة الحال أن ننظر في معنى الكلمة. باختصار شديد يمكن التفكير في الجنائيات Forensics هي كل ما يختص بتطبيق العلوم لخدمة تطبيق القانون. نلاحظ من الجملة السابقة أن الأمر لا يقتصر على فحص الجرائم – وهذا أول الأفكار المغلوطة الشائعة – فمثلا يمكنك أن تستخدم تقنية علمية في فحص مراقبة روتيني أو حسم نزاع على ملكية – لم تحدث به جريمة – وغير ذلك من الأمور التي لم يُرَقْ فيها الدم. كذلك كثيرًا ما ينظر علم الجنائيات في جرائم لا تدور حول قضية قتل؛ فمن الممكن استخدامه لحل قضية سرقة لوحة من متحف أو تزوير وثيقة.

اصطلح علماء هذا المجال على تقسيم الجنائيات لقسمين: الطب الجنائي والعلوم الجنائية. كما يتضح من الاسم فإن الطب الجنائي يقوم بالتعامل مع جسم الضحية سواء كانت جثة أو على قيد الحياة. بإمكان الطب الجنائي أن يخبرنا عن الإصابات، اّثار التاريخ المرضي، سبب الوفاة وتوقيت الوفاة وما إلى ذلك مما يطلق عليه «التشريح autopsy» بالإضافة للمعلومات التي يقدمها علم الأمصال serology وعلم الأنسجة Histology عن الضحية. لممارسة هذه المهنة على الشخص أن يحمل شهادة في الطب أولا ثم يسعى للتخصص في الطب الجنائي (الشرعي كما يطلق عليه في البلاد العربية).

أما القسم الثاني – العلوم الجنائية – فهي العلوم التي تنظر في باقى فروع الجريمة ومسرحها من بصمات، مواد مخدرة وسموم، آلات حادة، أسلحة ومقذوفات، آثار الحرائق المفتعلة، حمض نووي وسوائل جسدية، آثار دماء وشكلها، وثائق وأي آثر مادي آخر قد يكون مفيدًا في الإشارة للجاني إذا ما تمت معالجته. أيضا تولي العلوم الجنائية اهتمامًا بمنهجية «أخذ» و« تخزين» هذه الآثار لسهولة فقدانها لمصداقيتها إذا ما اختلطت بعوامل أخرى لا تتعلق بالجريمة. كذلك نرى دورًا هامًا لعلم الإنسان في العلوم الجنائية حيث يعتبر أداة محورية في الجرائم التي مر عليها زمن طويل وأصبحت بقايا الضحية بحاجة لفحص خبير لتحديد نوعها وسنها والظروف التي تم حفظ البقايا فيها وما إذا كانت قد تلقت ضربات مميتة (إذا كنت من متابعي برنامج Bones فإنه ليس سيئًا جدًا في التعبير عن دور علوم الإنسان الجنائية، إلا أنه ما زال يصور استخلاص المعلومات من البقايا بطريقة أسهل من الواقع). يمكننا هنا أن نقول أن العلوم الجنائية عبارة عن توظيف مفيد ومرن للكيمياء والتفاعلات الكيميائية لتحديد هوية مادة ما وكميتها لاستخدام هذه المعلومة لاعادة رسم خط سير الجريمة (أو أيا كان النزاع القائم) بالإضافة للفحوصات الفيزيائية كفحص الأنماط التي تتشكل على الرصاص عند إطلاقه (سنعود لهذا قريبًا) وفحوصات علم الإنسان. ويجب التنويه هنا أن تركيز السلسلة الحالية سيكون على العلوم الجنائية عامة وعلم الكيمياء الجنائي خاصة، أما الطب الجنائي فسيكون لحديثه مقام آخر.

نحن نعلم الاّن عمّ نتحدث، علينا استخلاص معلومات من المواد الملقاة هنا وهناك والتي لن تثير اهتمام أحد لو لم يكن هذا مسرح جريمة، الزجاج المنثور والدم اليابس على الأرض والمسحوق الأبيض الغريب الموجود بجوار الضحية وغيرها الكثير. لكن قبل الغوص في كل من ذلك علينا أن نتحدث قليلا عن كيفية ظهور هذه العلوم من الأساس. صدق أو لا تصدق فإن فحص الحمض النووي والاختبارات الكيميائية للكشف عن سم السيانيد لم تكن دومًا أمورًا ملزمة للقضاء ليحكم على أساسها. هنا نجد أنفسنا أمام قضايا لم يكن أطرافها هم سبب شهرتها، بل مَن حلها وكيف. كل من هذه القضايا أدت لإضافة قطعة من الموزياك الذى سيصبح العلم الذى نعرفه الآن.


بدايات متقطعة

في أوائل القرن الثالث عشر ظهر في الصين ما يعتبر أول كتاب مختص بالجنائيات لصاحبه Song Ci. احتوى هذا المصنف الذي حمل اسم Collected cases of injustice rectified على الكثير من القضايا التي استعمل فيها الطبيب الصيني معارفه لتحقيق العدالة. ولكن تظهر أهمية الكتاب الكبرى في كونه أول من حاول التفرقة بين الموت غرقًا والموت بالخنق، كما كان أول ما استخدم الحشرات لاستنباط دلالات مرتبطة بالجرائم فيما سيعرف بعد قرون باسم «علم الحشرات الجنائي Forensic Entomology».

لن يحدث الكثير في الفترة اللاحقة من زاوية «جنائية» إلا أن الخيميائيين المتأخرين وعلى رأسهم باراسيلسوس كانوا يشهدون ميلاد علم الكيمياء ذاته من رحم الأساطير الخيميائية ومعه بالطبع دراسة السموم (يطلق على باراسيلسوس أبو علم السموم). لكن هذا الهدوء سيتغير في القرن التاسع عشر حين تظهر الحاجة لطرق متطورة للبت في القضايا بسبب تطور طرق القتل. وهنا تأتي أول قضية صنعت التاريخ الجنائي، قضية بوكارميه.


العشاء الأخير

الكيميائي جون ستاس
الكيميائي جون ستاس

في عام 1850 كان أحد نبلاء بلجيكا الكونت هيبولايت بوكارميه وزوجته ليديا قد قاما بدعوة جوستاف أخ ليديا الذى كان قد ورث حديثًا ثروة عائلتها على العشاء وقد كان هذا آخر مكان يذهب إليه جوستاف حيّا. استرعت هذه القضية انتباه البوليس آنذاك لأن المشهد كان يوحي بتسمم أو حتى بجريمة قتل مع وجود الدافع المادي الواضح. حينها طُلب من الكيميائي الشهير بجامعة بروكسل جون ستاس Jean Stas أن يقوم بما سيعدُّ من أوائل تطبيقات الكيمياء وعلم السموم في التاريخ الجنائي الحديث.

سيقوم ستاس بفحص أعضاء جوستاف الداخلية واستخلاص عصاراتها ليصل لقناعة أن جوستاف بالفعل قد تم تسميمه بمادة النيكوتين. يصنف النيكوتين ضمن ما يعرف باسم Alkaloids أو شبه قلويات وهي نوع من المركبات الكيميائية الطبيعية التي تحتوي على ذرة نيتروجين وتوجد في معظم النباتات، مثل نبات الطباق.

نشير هنا لنبات الطباق لأن النيكوتين وهو شبه قلوي شهير كان من الشائع استخلاصه واستخدامه كمادة سامة لأن إيجاد آثاره كان صعبًا للغاية ولذا فقد كان الاختيار المثالي للكونت بوكارميه ليقتل به صهره. هنا كانت المعضلة، لا يكفي فقط أن يتقدم ستاس إلى المحكمة باعتقاد شخصي حتى وإن كان صادرًا عن خبير، عليه أن يجد طريقة تمكنه من استخلاص النيكوتين من أعضاء جوستاف وتقديمه دليلًا ماديًا على حدوث جريمة.

هنا سيجند ستاس معرفته بخواص أشباه القلويات للوصول لهذه الطريقة وسيسير الأمر كالآتي (مع ملاحظة أن ما سنسرده هنا ببساطة قد استلزم الكثير والكثير من المحاولات والتجارب من جهة ستاس آنذاك):

أولًا: استخدم ستاس حقيقة تقول بأن اشباه القلويات تتفاعل مع الأحماض مكونة أملاحًا قابلة للذوبان في الماء والكحول. لذا إن كانت الآثار الموجودة في معدة ستاس هي نيكوتين بالفعل فإن عليها أن تذوب في كلٍّ من الماء والكحول، لذا أول خطوة هي تحويل أعضاء جوستاف الداخلية إلى كتلة هلامية بغمرها في سائل أو استخدام الحرارة أو الحمض ثم إضافة مخلوط من حمض ضعيف (لتكوين الملح) وكحول (لإذابة الملح).

ثانيا: سيقوم ستاس بتسخين هذا المزيج لتتسبب الحرارة في ترسيب المكونات العضوية في هذا الهلام في حين أن أي مادة كانت متعلقة بها (كأشباه القلويات) ستبقى ذائبة في محلول الكحول.

ثالثا: إضافة الماء لمحلول شبه القلويات الذائبة (على هيئة أملاحها) في الكحول. هنا وجد ستاس أن المركب شبه القلوي ذاب أيضا في الماء كما فعل في الكحول. الآن تأكد من وجود المركب ولكن بقيت مشكلة استخلاصه والتي سيكون حلها ببساطة تبخير الماء ليترسب شبه القلوي – النيكوتين – فورًا مما يسمح بتقديمه للقضاء دليلًا دامغًا وهو ما نتج عنه إدانة الكونت بالفعل.

كانت طريقة حل هذه القضية علامة حاسمة على ميلاد العلم الجنائي وتوسعه في صورة شبيهة بما نعرفه الآن حيث ظهرت أفكار مثل اللجوء للمتخصصين والدليل والقضية والإثبات والخطوات والاستنباط من الحقائق العلمية، لكنها لم تكن الوحيدة. في ثلاثينيات القرن ذاته كان جيمس مارش يحاول – وينجح – في محاولة السيطرة على وباء تفشى في أوروبا آنذاك ألا وهو وباء استخدام الزرنيخ للقتل إلا أننا سنترك هذا الحديث لبداية نقاشنا القادم.

المراجع
  1. William J. Tilstone-Forensic Science- An Encyclopaedia of History, Methods, and Techniques
  2. M.Houck-Forensic science – modern methods of solving crime
  3. Richard Saferstein-Criminalistics: An Introduction to Forensic Science