بعد الأعمال الإرهابية، تروج ردود أفعال انفعالية من قبيل الربط بين الإسلام والعنف ومواقف الإسلاميين ونحو ذلك. هذا ما حصل بعد العملية الإرهابية التي وقعت اليوم بالكنيسة البطرسية بالعباسية، وهو ما يستدعي التأكيد على بعد الحقائق التي تُنسى في غمرة الانفعال:

1. يتضمن الدين، كنسق نظري، نصوصًا قد تبدو وكأنها تحض على العنف والكراهية، وهي سمة سائدة في معظم الأديان لأسباب ترجع لبنية مفهوم الدين ذاته، فالدين متفرد دائمًا وينفي منافسيه. لكن قراءة هذه النصوص في سياقاتها النظرية أو التاريخية كفيل بالتخلص من إيحاءاتها العنيفة، وهي في ذلك لا تختلف عن كثير من النصوص في التراث الأدبي والفلسفي والأيديولوجي للبشرية. وهذا ما نسميه «الإصلاح الديني».

2. الدين لا يؤثر في الحياة اليومية كنسق نظري، وإنما كمكون للثقافة الشعبية، وعندما يندرج الدين في الثقافة يفقد كثيرًا من حدته، لأن الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي -أي نمط الحياة اليومي لمجتمع ما- تتعلق بالحياة اليومية التي لا تحتمل التطرف، ويسيطر عليها منطق المواءمات والتسويات والاعتدال والمصالح. لذا فإن كثيرًا من العنف الديني لا ينطلق من الدين نفسه كنسق نظري، ولا يمثل الإصلاح الديني حلا سحريًا له كما يتم تصويره، بل قد يؤدي الإصلاح الديني في سياقات معينة إلى مضاعفته وتحويله إلى نمط أيديولوجي حديث، كما في حالة الكثير من الأصوليات الدينية الحديثة، الإسلامية أو غير الإسلامية، كالأصولية الصهيونية، بشقيها اليهودي والمسيحي الإنجيلي.

3. التدين أحد دوافع العنف. لا يمكن إنكار ذلك. لكنه لا يختلف في ذلك عن سائر الفعاليات الإنسانية غير العقلانية؛ أي أن التدين أحد دوافع العنف كما أن القومية أحد دوافع العنف والعنصرية. لكن هذا لا يعني أن ننفي التدين أو القومية أو الحماسة الأيديولوجية والانفعال الجماهيري. كما أن العقلانية نفسها إذا سحبت إلى نهاياتها المنطقية تؤدي إلى عنف أكثر جذرية، ولذلك تجارب تاريخية معروفة جدا، كما في فرنسا روبسبير (عصر الإرهاب، الذي تحول اسمه إلى وسم حديث للتطرف الإسلامي العنيف رغم أنه يعود إلى فرنسا العلمانية)، وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وكافة الجمهوريات الاشتراكية تقريبًا وعلى رأسها الصين والاتحاد السوفيتي.

4. المجتمعات العربية مجتمعات متخلفة إذا ما قورنت بنظيرتها الغربية، لكنه تخلف يرجع بالأساس إلى التراكم المادي، أي قدر التحديث المادي للمجتمع الذي يصاحبه بنيويًا تحول المجتمع إلى مجتمع أكثر فردانية، يتمتع فيه الفرد باستقلالية أكبر؛ أكثر مما يرجع إلى جذور ثقافية في تراث أي منهما. والتراث القروسطي والأفكار التوراتية والمسيحية القروسطية ليست أقل تطرفا عن أي أفكار في التراث الإسلامي، بل ربما تكون أشد.

هذه المجتمعات لذلك يمكن أن تكون وسطًا مناسبًا للعنصرية والتطرف ورفض الاختلاف، لكن مثلها في ذلك مثل أي مناطق تقع جغرافيًا في الغرب، لكنها لا تتمتع بذات التراكم المادي الذي تتمتع به المدن الغربية. والعنف في ضواحي باريس، أو في الريف الأمريكي ضد السود، ظاهرة تستحق الالتفات.

5. الإسلاميون -في الغالب الأعم- يحملون أفكارًا متطرفة، وتتجذر هذه الأفكار فيهم نتيجة ولعهم وولع شيوخهم بصفتهم منظريهم بالمزايدات، وتصورهم لذاتهم كسدنة حصريين للدين. لكن هذه الأفكار ليست مرتبطة بنيويًا بالإسلام السياسي الذي يمكن تطويره كما تم تطوير الديمقراطية المسيحية. يجب على الإسلاميين أن يعترفوا أولا أن لديهم كثيرًا من الأفكار المتطرفة، وأنهم يحتاجون إلى الاستفادة من مواقف المنظرين الأكثر إصلاحًا بينهم، الذين لم يتمتعوا غالبا بقبول واسع بين المشايخ وأتباع المشايخ الذين يمثلون القاعدة العريضة من الإسلاميين. وعليهم أن يتذكروا بعض سقطاتهم الأخلاقية التي من بينها سقطتهم يوم ماسبيرو الأسود.

7. الأقباط في مصر يعانون تمييزًا عنصريًا مرتبطًا ببنية المجتمعات العربية نتيجة حداثتها المشوهة، لكن الخروج من ذلك يكون عبر دعم تحول سياسي ديمقراطي يترتب عليه تحولات اجتماعية واقتصادية تضمن تشكيل مجتمع فرداني حديث يتقبل تلقائيا الاختلاف والحريات والتعددية؛ وهذا هو البرنامج الأكثر جدية وأولوية مقارنة بنغمة «تجديد الخطاب الديني» المبتذلة. هذا ما لم تدركه المؤسسة الكنسية، وما عملت ضده عبر انحيازها للأنظمة الاستبدادية. لكن القطاعات الشبابية المسيحية تستوعب ذلك إلى حد بعيد.

8. لا يمكن الجزم بما وراء الحدث في بلدان ذات بنى قانونية متداعية، وذات مؤسسات أمنية لديها سجل طويل من التآمر والعمل لصالح النظام السياسي بمنطق مافيوي، وهذا لا ينفي من قريب أو من بعيد تورط الجماعات الدينية الإرهابية في الحادث، بل هو طبيعي، إذ أن تلك الجماعات كما هو معروف جماعات مخترقة حتى الأنف، وأبعد من ذلك.

بعيدًا عن الجمل المسرحية والتصنع المقزز، إنني لا أنسى أن أية انفعالات ضد أي مما قلته متفهمة في ظل جريمة بتلك البشاعة. ولا يقلل من بشاعة جريمة، بشاعة جرائم أخرى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.