نعني بالفكر الشرقي القديم، الأفكار والتصورات والآراء التي اقتدرت حضارات الشرق القديمة على ابتداعها، وأصبحت في ما بعد المراجع الأصلية لكل تفلسف إنساني، خصوصًا عند الفلاسفة الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد.

وما دامت الفلسفة هي قدرة العقل على بحث القضايا المؤرِّقة للعقل البشري كقضايا أصل الكون والحياة، والإنسان والأخلاق، فإن المفكرين في بلاد مصر القديمة والصين وبلاد فارس وحضارة ما بين الرافدين، بحثت هي الأخرى هذه القضايا وبعمق، بل كانوا السباقين لدراستها وكشف ألغازها، بحكم أن الإنسان منذ الأزل فُطِر على حب البحث عن الحقيقة وتقصيها.

لهذا تبلور لدى إنسان الفكر القديم دراسة هذه الأمور باحثًا عن تفسيرات للظواهر الطبيعية التي تحصل في هذا الكون الفسيح، مُحاولًا فهمها وتطويرها عبر الظروف البدائية التي بدأ يتغلب عليها، ومن هذه الناحية يمكن لنا أن نفترض وجود فكر شرقي في شتى ربوع العالم القديم، وعليه أصبح تلاقح الحضارات الشرقية القديمة مع الفكر اليوناني القديم من المسلمات التي لا يختلف فيها إلا قلة قليلة من المتعصبين، من منطوق أن فهم الفلسفة اليونانية لا يُدان لنا بالوصول إليه، إلا من خلال التعمق في دراسة حضارات الشرق القديمة.

والكتاب الذي نحن بصدد تدارسه، «الوعي الأسطوري الرافدي: تجلياته الفلسفية»، هو عبارة عن دراسة علمية موضوعية رصينة، حاول من خلالها الباحث «عبد الباسط سيدا» بحث التواشجات والوقائع التي تتناول طبيعة هذا الفكر الشرقي القديم، مُركِّزًا على حضارة بلاد الرافدين، وكيف أثّرت تأثيرًا عميقًا في الفكر اليوناني، وذلك وفق مواصفات ومعايير العهود التاريخية التي تبلور السياق الزمني للبحث. ويستهلها الباحث بادئ ذي بدء في بحث مفهوم الأسطورة باعتبارها أول ضروب التفكير الفلسفي الإنساني، من منظور أن أي علم ما كان له أن يقوم له قائمة إلا من خلال العبور على مرحلة الأسطورة، باعتباره التبلور الفلسفي الأوّلي المُفسِّر لأصل هذا الكون، وطبيعة هذه الحياة.

إلا أننا يجب أن نعترف هنا بأن مفهوم الأسطورة اختلف حوله جمهور الدارسين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وصعب عليه التحديد الدقيق لمفهومها، لأن كل واحد منهم يُصوِّرها بناءً على نظرته وخلفيته العلمية والإبستمية والأيديولوجية، لهذا كان البحث عن تعريف جامع مانع لها هو من أصعب الأمور بل الشكل الأكثر تعقيدًا على الاطلاق.

ومن ثَمّة تمت صياغة جلّ التعاريف بشكل جامع غير مانع، أو مانع غير جامع. إلا أننا نكتفي ههنا بإيراد التعريف الاصطلاحي الذي سهّل على البعض الإتيان به، واستجماع دلالاته، وهو أن الأسطورة:

قصة مقدسة حول الكون مثل قصص المواقف العظيمة في حياة الإنسان، كالبحث في أصله وولادته ووفاته، وتدل على أحداث وقعت في زمن الأسطورة، كما أن الأسطورة تُتلى خلال تشخيص درامي للأحداث المروية، وعبر الطقوس الدينية يصبح الإنسان معاصرًا للأحداث الأسطورية ويشارك الآلهة في خلق الوقائع، وهكذا يقتدر الكائن البشري أن يخلق ويحافظ وينعش الحياة ويُجدد خصوبتها، وتنقسم الأساطير حسب موضوعاتها إلى: نشوء الآلهة، بداية الكون، خلق الإنسان، إنقاذ البشرية، وخلاصهم ونهاية العالم وأساطير الجنة، وأساطير الطوفان وأساطير الأبطال. [1]

يؤكد سيدا أن الأسطورة تمثل ضربًا من ضروب الوعي الذي يتجلى لنا دومًا قبل ظهور الدين ويستمر بعده، كما يُوضِّح لنا في المقابل من ذلك أن الضرب الديني من هذا الوعي الموشوج بالأسطورة ما هو إلا توليفة من أنساق وعي الإنسان المُخلفة، ويكون للمجتمع دوره الفاعل فيها، لأن هذا الوعي لا يُكتب له الظهور إلا من خلال مرحلة التفاوت الاجتماعي، وينجرّ عن هذا التماسك الذي يجبل الفئات الاجتماعية على اختلافها وبناءً على تمثلاتها للغيب. ومعها تبدأ الطوطمية، وتنتهي إلى فكرة تعدد الآلهة القابضة والمُسيِّرة لأمور الطبيعة والكون. [2]

ينقلنا بعد ذلك سيدا إلى تبلور الوعي الأسطوري عند السومريين الذين احتكموا إلى مجمل ما تلقوه من النتاج الاسطوري عندهم، فمصطلح الوعي الأسطوري السومري يرمز إلى العقل الذي كان يسعى حثيثًا لأن يجد تفسيرات لقضايا فكرية وروحية في المجتمع، وهذا انطلاقًا من تأكيده على وجود عالمين مفارقين:

  • الأول غيبي ميتافيزيقي فاعل: وله اليد الطولى في أخذ زمام كل شيء، ويقتدر على فعل الخلق.
  • الثاني بشري محض: يستعين بالعالم الأول في سعيه للفهم، ويخضع لما هو مفروض عليه من قبل، ثم بعد ذلك النظر إلى منزلته من الظواهر التي تحصل في الكون.

إلا أنه وفي المقابل من ذلك، من الصعوبة بمكان أن نجد آفاق للوعي الأسطوري المنفعل إلا في النادر، إضافةً إلى الالتزام بقوى الإرادة الكونية اللاهوتية، وإحقاق رغباتها.

ومن الجلي لنا أن هذا الضبط في تحديد الوعي الأسطوري السومري يضع لبناته بكل جلاء ضمن حدود الدين، كونه يجسد نمطًا من أنماط الوعي الأسطوري بصورة إجمالية، إلا أن هذه اللبنات لا تعني البتة التطابق، كون الوعي السومري الأسطوري لم يكن البتة دينيًا خالصًا. بل تضمّن في جنباته أنماطًا طبيعية وسياسية، على الرغم من عدم القدرة على تلافي هيمنة النمط الديني عليها. [3]

كما جسّد الوعي الأسطوري في تمظهره الديني عند البابليين والآشوريين مناط اهتمام السلطة الحاكمة آنذاك، والتي تسعى حثيثًا لتبسط نفوذها. وعلى الرغم من أن هذه السلطة الحاكمة كان شغلها الشاغل هو الأمور الحياتية الدنيوية، فإنها وفي المقابل وجدت صعوبة بالغة في إيجاد المبررات الكافية لمعتقدها السياسي، حيث لم تقتدر على مجاوزة حلقة المفاهيم الجوهرية التي بلورت العقيدة الدينية عندهم، وذلك بسبب عدم قدرتها على بسط المفاهيم المقنعة إضافة إلى هالة المقدس الذي يكرِّس للسلطة، ويُحتِّم الاحترام والتبجيل في الآن عينه، هذا إلى جانب عدم إيجاد البدائل، وبدا أن المقدمات الممهدة له لم تكن على أهبة لذلك، فظلت نظرية «الأصل الإلهي للحكم» هي اللبنة الجوهرية التي تسوغ مشروعية السلطة لدى الملك الحاكم، واستمر الحكام في اعتقادهم أن الآلهة هي التي تختار منْ يحكم الشعب، وهذا ما أكده «حمورابي» في مقدمة قانونه. [4]

وفي معرض حديث «عبد الحميد سيدا» عن حدود التقاطع بين الوعي الأسطوري الرافدي والفعل الفلسفي النظري، أكّد أن الوعي الأسطوري في بلاد الرافدين بصورة عامة، لم يقتدر على مجاوزة حالة التقاطع بينه وبين واقعه، على الرغم أنه اقتدر في حدود معينة أن يصل إلى مستوى التفاصل النسبي بين الوعي الأسطوري والفعل الفلسفي، لكن هذه المفاصلة لم تكن لها من المقومات ما يجعلها قادرة على إحقاق مستوى الاتجاه العام المسيطر. وتأويل ذلك لا يتم إلا من خلال معرفة الأسباب التي وقفت عقبة دون إحقاق الوعي الأسطوري الرافدي للممارسة الفلسفية في بعدها النظري.

تميّز الوعي الأسطوري في بلاد الرافدين بمنحى آفاقي قاصر ومحدود، فقد كان يدعو إلى التعامل مع المعطيات الموجودة، على أنها الخيارات الوحيدة الممكنة، والتي لا بد من الالتزام بها، والركون إليها، والأخذ بها باعتبارها صادقة ومطلقة اليقين ولا مجال للتشكيك فيها، بحكم أن الآلهة هي منْ أرادت، وهي المهيمنة على الكون والإنسان.

ويبدو لنا جليًا أن هذا المنحى كان مُنسجمًا بصورة أو بأخرى مع الوضعية السوسيولوجية القائمة آنذاك، وتوجهات السلطة الحاكمة بشتى أبعادها السياسية والدينية، إلا أن التناسق والتلاحم كان يخترق أحيانًا ببعض التأملات العقلية التي كان سببها تفاعلات الوضعية السوسيولوجية عينها.

وتجسد استيعاب حقيقة التمأسف الاجتماعي والنتائج المتمخضة عنه، إضافةً إلى التراكم المعرفي، والتجرية الدنيوية التي كانت تُحصَّل من منحى شتى القوى الاجتماعية الفاعلة في بلاد الرافدين، ولم يتُكتب لها المُكنة على عملية الاختراق هذه، على الرغم من أهميته الكبيرة، من بلوغ مستوى إحداث زعزعة عميقة في بنية العقلية العامة. لنقتدر بعد ذلك على شق طريقها إلى النظر الفلسفي العقلي، وهو الفعل الذي شكّل الوعي الأسطوري بوصفه مقدمة مهمة من مقدماته. [5]

وفي الأخير، نصل إلى نتيجة مفادها أنه وعلى الرغم من التطور الكبير الحاصل في بلاد ما بين الرافدين في شتى المناحي العلمية الحياتية، فإن التفسير الديني والطابع الأسطوري بقي يُدلي بظلاله على كل تأمل فكري فلسفي. لهذا لم يقتدر المفكر الفيلسوف في بلاد ما بين النهرين على معالجة أفكاره وتصوراته بمعزل تمامًا عن التأويلات الدينية.

فمثلًا لو نأخذ على سبيل المثال مبدأ السببية العام، نجد أنه لم يُناقش في منحاه النظري البحت، وإنما كان خانعًا لإرادة الآلة، ويتم تأوله وفقًا للمصالح الاجتماعية والسياسية المُسيطِرة، التي كانت تعمد إلى استعمال الدين كأداة لإحقاق مصالحها ومآربها، وهذا توافقًا على الفكرة الرافدية إجمالًا، الخاصة بالأصل الإلهي للملوكية.

والأمر عينه بالنسبة إلى التصورات والوسائل الأخرى التي استعانت بها الفلسفة الإغريقية لاحقًا، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاستقراء والقياس والتحليل والقانون وغيرها من الوسائط والأدوات وكذلك المصطلحات الإبستمية النظرية، كانت الأساس في ظهور الفلسفة وتطور العلوم المختلفة.

المراجع
  1. هشام مباركي، “قصة الطوفان بين الأسطورة والدين: دراسة وصفية تحليلية مقارنة”، بيروت: شركة دار الأكاديميون، 2016، ص ص 23-24.
  2. عبد الباسط سيدا، “الوعي الأسطوري الرافدي: تجلياته الفلسفية”، بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 94.
  3. المرجع السابق، ص 215.
  4. المرجع السابق، ص 215.
  5. المرجع السابق، ص 215.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.