يُعدّ رجل الدين الهندي المسلم أبو الأعلى المودودي المتوفى 1979م، أحد أهم المفكرين المسلمين الذين نظّروا لمفهوم الحاكمية في العصر الحديث. المودودي صنّف العديد من الكتابات التي دعا فيها لفكر الحاكمية، وكان من بين ما كتبه فيها التأكيد على أن «السلطة العليا المطلقة ليست إلا لله عز وجل وحده».

كتاب «المصطلحات الأربعة في القرآن»، هو أحد أشهر الكتب التي صنفها المودودي، وهو بالأصل رسالة صنفها المفكر الهندي في سنة 1360ه/1941م، ونشر فصولها في شكل حلقات متتابعة في مجلته الشهرية المعنونة بترجمان القرآن. مما تجدر ملاحظته ها هنا، أن العام الذي نُشر فيه هذا الكتاب، كان هو نفسه العام الذي شهد تأسيس الجماعة الإسلامية بالهند، ومن هنا يمكن إدراك الدور الكبير الذي لعبه هذا الكتاب في توضيح دعوة الجماعة، وتوضيح موقفها من جميع الجماعات والأحزاب المتواجدة على الساحة السياسية في الهند.

في مقدمة الكتاب يوضح المودودي أهمية موضوع الدراسة، والذي يدور حول تبيان معاني ودلالات أربعة مصطلحات مركزية في القرآن الكريم، وهي على الترتيب: الإله، والرب، والعبادة، والدين. فيقول:

هذه الكلمات الأربع أساس المصطلح القرآني وقوامه، والقطب الذي تدور حوله دعوة القرآن. فجماع ما يدعو إليه القرآن الكريم هو أن الله تعالى هو الإله الواحد الأحد والرب الفرد الصمد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا يشاركه في ألوهيته ولا في ربوبيته أحد. فيجب على الانسان أن يرضى به إلهًا وأن يتخذه دون سواه ربًا، ويكفر بألوهية غيره ويجحد ربوبية من سواه، وأن يعبده وحده ولا يعبد أحدًا غيره ويخلص دينه لله تعالى، ويرفض كل دين غير دينه سبحانه…
ص5

بعد ذلك يؤكد المودودي أنه لما كان كل ما نزل به القرآن الكريم من الهدي والإرشاد، إنما يدور -بالأساس- حول تلك المصطلحات الأربعة، فقد كان من الطبيعي أن يؤدي الغموض والالتباس الحاصلان حول فهم تلك المصطلحات إلى نقصان في العقيدة والعمل، ومن هنا نجد المسلم الذي يلهج لسانه بكلمة التوحيد ورغم ذلك يتخذ مع الله آلهة متعددة، ونجده «يجهر بكل صدق وإخلاص بأنه لا يعبد إلا الله تعالى ولا يخضع إلا له، ولكنه مع ذلك يكون عاكفًا على عبادة آلهة كثيرة من دون الله» (ص8).

ولكن كيف وقع الالتباس في فهم تلك المصطلحات؟

يجيب المؤلف على هذا السؤال بقوله إن القرآن لما نزل على العرب وقت البعثة المحمدية، فإن الناس كانوا يفهمون المصطلحات القرآنية بطريقة صحيحة، على النحو الذي أراده الله عز وجل، ولكن في القرون التالية، وقع التبديل في المعاني والدلالات المرتبطة بتلك المصطلحات بسبب بعد الناس عن اللغة العربية السليمة وابتعادهم عن المنهج الرباني الصحيح «حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم الكلمات الأربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل، وعادت منحصرة في معانٍ ضيقة محدودة، ومخصوصة، بمدلولات غامضة مستبهمة» (ص9).

المصطلح الأول: الإله

يبدأ أبو الأعلى المودودي تناوله لمصطلح الإله من خلال التحقيق اللغوي له، فيقول إن مادة كلمة الإله هي الهمزة واللام والهاء، ومما جاء فيها في معاجم اللغة العربية، ألهت إلى فلان: أي سكنت إليه، وأله الرجل إلى الرجل: أي اتجه إليه لشدة شوقه إليه، وقيل الإله مشتق من لاه يليه ليهًا: أي احتجب، ومن كل ما سبق، صار التأله بمعنى العبادة، وصار الإله بمعنى المعبود.

من الملاحظات التي يدونها المودودي فيما يخص علاقة كلمة الإله بمعنى المعبود بالجذر اللغوي لاه والتي تشير إلى الاحتجاب، أن أهم الصفات والسمات التي يجب أن يتمتع بها الإله، والتي تجعله جديرًا بالعبادة، تتمثل بالمقام الأول في كونه يمارس عمله بطريقة سرية خفية غير معروفة لأحد من عباده، ويستشهد على ذلك بأنه من المستحيل أن يقوم فرد بعبادة إله يحقق له دعواته بطريقة تقليدية، فعلى سبيل المثال، لو افترضنا أن شخصًا ما قد طلب من آخر أن يساعده في أمر معين، وأن الرجل الثاني قد قام بتنفيذ ذلك الطلب بطريقة طبيعية اعتيادية، فلا يمكن أن يدفع ذلك الرجل الأول لعبادة الثاني، ذلك أن «تصور العبادة لا يمكن أن يخطر ببال المرء إلا إذا كان شخص المعبود وقوته من وراء حجاب الغيب، وكانت مقدرته على قضاء الحوائج تحت أستار الخفاء. من ها هنا قد اختيرت للمعبود كلمة تتضمن معاني الاحتجاب والحيرة والوله مع اشتمالها على معنى الرفعة والعلو» (ص14).

بعدها يستعرض المودودي بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن فهم عرب الجاهلية لمصطلح الإله، وخلص من هذا العرض لتقرير بعض النقاط المهمة، أولها أن الآلهة التي اتخذها العرب في الجاهلية كانوا يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون بهم، وثانيها أن تلك الآلهة لم تكن من الأصنام والملائكة والجن فحسب، بل ضمت أيضًا بعض البشر الذين ماتوا من قبل، أما ثالث تلك النقاط، فهي تلك التي يؤكد فيها المودودي على أن العرب كانوا يزعمون أن آلهتهم تسمع الدعاء وتقدر على نصرهم.

كان التصور الجاهلي لمعنى الألوهية إذن، يتمثل في الاعتقاد بوجود إله أعلى، وهو «إله قاهر، كانوا يعبرون عنه بكلمة الله في لغتهم»، أما بقية الآلهة التي كانوا يعبدونها، فقد كانوا ينظرون إليها على كونها تمتلك «شيئًا من التدخل والنفوذ في ألوهية ذلك الإله الأعلى، وأن كلمتهم تُتلقى عنده بالقبول، وأنه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ونستدر النفع ونتجنب المضار باستشفاعهم…» (ص19).

بعد ذلك ينتقل المؤلف لتبيان معاني الألوهية في معتقدات أهل الكتاب، فيستشهد بالآية الحادية والثلاثين من سورة التوبة: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، وكذلك يستشهد بالآية الحادية والعشرين من سورة الشورى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

في الآية الأولى، أوضح المؤلف أن اليهود والنصارى قد اعتادوا على أن يتخذوا من أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة من دون الله، وهو الأمر الذي وضح في بعض الأحاديث النبوية التي ذكرت رد الرسول لما قيل له إن أهل الكتاب لم يعبدوا أحبارهم: «إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم»، أما الآية الثانية، فتدل على «أن الذين يرون أن ما وضعه رجل أو طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون شرعي من غير أن يستند إلى أمر الله تعالى، فهم يشركون ذلك الشارع بالله تعالى في الألوهية» (ص22).

ويخلص المودودي في نهاية هذا المبحث إلى وجود ارتباط وثيق بين كل من الألوهية من جهة، والسلطة من جهة أخرى:

فخلاصة القول إن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة، سواء أكان يعتقدها الناس من حيث إن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث إن الانسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان.
ص23

يرى المودودي أن القرآن الكريم قد استخدم منهجًا مميزًا في عرض ملامح هذا الارتباط، وأن هذا المنهج يمكن رصده من خلال أربع نقاط رئيسة؛ أولها، ضرورة الاعتقاد بأن كل ما يتعلق بقضاء الحوائج وكشف الضر وحماية الإنسان، هو أمر عظيم وخطير، ويستلزم أنواعًا معقدة من الترتيب والإعداد. فعلى سبيل المثال، يتطلب نمو حبة واحدة من القمح توافر مجموعة من العوامل، ومنها ظهور الشمس وتوافر الأرض الخصبة والرياح ومياه الري، وهي أعمال كونية عظيمة، تتطلب توافر سلطة كبرى في يد من يتحكم بها. ثاني النقاط، أن هذه السلطة لا يمكن أن تكون قابلة للتجزئة، فلا يمكن مثلاً أن نتخيل الشمس بيد إله، والقمر في يد إله آخر، إذ ينبغي أن تكون السلطة كلها مجموعة في يد إله واحد. أما النقطة الثالثة، فتتمثل في الإقرار بأن صاحب السلطة هو الوحيد الذي من حقه أن يأمر وينهى. وأخيرًا، تذهب النقطة الرابعة -بناءً على النقاط الثلاث السابقة- إلى أنه لما كان لا يوجد أي مبرر عقلي لأن يكون هناك شريك للإله في أمور الحكم والتشريع والأمر، فقد كان من الطبيعي والحال كذلك، القول بأن «كل شخص يدعي أنه مالك الملك، والمسيطر، والقاهر، والحاكم المطلق بالمعاني السياسية، فإن دعواه هذه كدعوى الألوهية ممن ينادي بالناس: «إني وليكم وكفيلكم وحاميكم وناصركم»، ويريد بكل ذلك المعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية…مما يدل دلالة واضحة على أن الألوهية تشتمل على معاني الحكم والملك أيضًا، وأنه مما يستلزمه توحيد الإله ألا يشرك بالله تعالى في هذه المعاني كذلك» (ص32).

المصطلح الثاني: الرب

بعد أن ينتهي المودودي من دراسته حول مصطلح الإله، نجده وقد تناول ثاني المصطلحات الأربعة، ألا وهو مصطلح الرب. في البداية، يستعرض المؤلف المعنى اللغوي للمصطلح، فيقول إن معناه الأصلي هو التربية، وتتشعب عنه معاني التصرف والتعهد والاستصلاح والإتمام والتكميل، ويقولون رب الولد: أي رباه حتى أدرك، فالربيب هو الصبي الذي تربيه، ويقولون رب ضيعة: أي تعهدها وراقب أمرها، ويقولون أيضًا قد رب فلان قومه: أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

بعدها يعمل المودودي على دراسة معنى الربوبية في الأمم السابقة، وذلك بحسب ما ورد عنها في القرآن الكريم. اعتمادًا على ما ورد في الآية الرابعة والعشرين من سورة المؤمنون «ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم، ولو شاء الله لأنزل ملائكة»، والتي وصف فيها قوم نوح، يؤكد المودودي أن هؤلاء الكافرين لم يكونوا جاحدين بوجود الله عز وجل، ولم يجحدوا كون الله تعالى خالق هذا العالم «ولم يقم أحد منهم يرد على نوح قوله ويقول: ليس الله بربنا، أو ليس الله بخالق الأرض والسماء ولا بخالقنا نحن، أو ليس هو الذي يقوم بتدبير الأمر في السماوات والأرض» (ص43).

بل كان موضوع النزاع بين نوح والكافرين هو دعوة النبي لهم بضرورة الاعتقاد بأن الله هو الإله الواحد الأحد ولا إله إلا هو، ولا يصح أن يشركوا به شيئًا، وينبني على ذلك ما دعاهم نوح إليه بأن الله وحده الذي يجب أن يكون له «الحكم والسلطة القاهرة في أمور الأخلاق والاجتماع والمدنية والسياسة وسائر شؤون الحياة الإنسانية، وبأنه وحده يجب كذلك أن يتبع…» (ص45)، وبالطريقة نفسها يتتبع المودودي الآيات القرآنية التي تنزلت في حق قوم هود، وقوم صالح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، حتى يصل أخيرًا إلى فرعون موسى.

يؤكد المؤلف على خطأ التصورات السائدة عن فرعون، فهو يرفض الدعوى التي يذهب أصحابها إلى أن فرعون قد أنكر وجود الله عز وجل، أو أنه قد ادعى أنه فاطر السماوات والأرض، ويؤكد على أن كفر فرعون كان مشابهًا لكفر الأمم السابقة، وإن اختلف عنهم في كونه «قد نشأ في آل فرعون لبعض الأسباب السياسية عناد وتعصب وطني شديد على بني إسرائيل، فكانوا لمجرد هذا العناد يمتنعون عن الإيمان بألوهية الله وربوبيته» (ص60).

ويستدل المؤلف على ذلك بالآية الثالثة والخمسين من سورة الزخرف: «فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين»، والتي تعني أن فرعون كان يؤمن بالملائكة، وكان يؤمن بإمكانية إرسال الله الرسل إلى البشر.

ويحدد المودودي كفر فرعون في أنه كان يزعم أنه الرب الأعلى لأرض مصر، ويقول: «إني أنا مالك القطر المصري وما فيه من الغنى والثروة وأنا الحقيق بالحاكمية المطلقة فيه، وشخصيتي المركزية هي الأساس لمدنية مصر واجتماعها، وإذن لا يجرين فيها إلا شريعتي وقانوني…» (ص71).

الأمر ذاته ظهر في اعتقاد مشركي العرب في الجاهلية الذين كانوا -رغم اعترافهم بألوهية الله وربوبيته- يعتقدون أن الملائكة أو النفوس المقدسة أو الأجرام السماوية أو بعض الرؤساء والكهنة قادرون على التدخل لإحداث تغييرات على النظام الكوني.

من هنا، فإن قراءة المودودي وتفسيره لعشرات الآيات القرآنية التي احتكم إليها في بحثه، قد دفعته للقول بأن الربوبية مترادفة مع الحاكمية «فالرب هو الحاكم المطلق لهذا الكون ومالكه وآمره الوحيد، لا شريك له، وبهذا الاعتبار هو ربنا ورب العالم بأجمعه ومربينا وقاضي حاجاتنا، وبهذا الاعتبار هو كفيلنا وحافظنا ووكيلنا، وطاعته بهذا الاعتبار هي الأساس الفطري الصحيح الذي يقوم عليه بنيان حياتنا الاجتماعية على الوجه الصحيح المرضي، والصلة بشخصيته المركزية تسلك شتى الأفراد والجماعات في نظام الأمة» (ص93).

المصطلح الثالث: العبادة

في المبحث الثالث من كتابه، يتطرق المؤلف لدراسة مصطلح العبادة، فيقول شارحًا معناه اللغوي، إن العبادة هي الخضوع والتذلل، أي «استسلام المرء وانقياده لأحد غيره انقيادًا لا مقاومة معه ولا عدول عنه ولا عصيان له» (ص95). بعد ذلك يوضح المعنى القرآني لمصطلح العبادة من خلال دراسة مجموعة من الآيات، فيذكر أن المعنى الأول لها هو «العبودية والإطاعة»، وهو المعنى الذي يظهر في الآية رقم مائة واثنين وسبعين من سورة آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون»، وهي الآية التي أمر فيها الله عز وجل العرب بالامتثال لأحكامه فيما يخص المأكل والمشرب، ونهاهم عن الخضوع لما شرعه لهم أحبارهم وزعماؤهم، وبناءً على ذلك الفهم، يؤكد المودودي أن كل دولة أو سلطة أو قيادة تحمل الناس على طاعتها بالإكراه أو بالإغراء أو بالتعليم الفاسد، فإنه يُطلق عليها اسم الطاغوت.

أما المعنى الثاني لكلمة العبادة، فهو التأله، بمعنى أن يؤدي المرء لأحد شيئًا من الشعائر كالسجود والركوع والقيام والطواف، ما يؤديه عادة بقصد التأله والتنسك، أو أن يظن المرء أحدًا مسيطرًا على نظام الأسباب في هذا العالم ثم يدعوه في حاجته ويستغيث به، ويعوذ به عند نزول الأهوال، ومن الآيات التي جاءت فيها كلمة العبادة على هذا المعنى، الآية الحادية والأربعون من سورة سبأ: «بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون». أما المعنى الثالث، وهو المعنى الأكثر شمولاً، فهو الذي تدل فيه كلمة العبادة على العبودية والطاعة والتأله معًا، وقد جاء هذا المعنى في الآيات التي يدعو فيها الله عز وجل الناس لعبادته، ومنها على سبيل المثال، الآية السادسة والثلاثون من سورة النحل: «ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت».

المصطلح الرابع: الدين

يختتم أبو الأعلى المودودي كتابه بدراسة مصطلح الدين، فيبدأ كعادته بالتحقيق اللغوي للمصطلح، فيقول دان الناس: أي قهرهم على الطاعة، وتقول دنتهم فدانوا: أي قهرتهم فأطاعوا، وجاء في الحديث النبوي «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت»: أي قهر نفسه وذللها.

وبحسب ما يذكره المؤلف فإن كلمة الدين قد وردت في القرآن الكريم بمجموعة من المعاني، أولها القانون والشرع، ومن الآيات التي يتضح فيها هذا المعنى الآية الخامسة من سورة البينة: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء»، والآية السادسة من سورة الكافرون: «لكم دينكم ولي دين»، كما وردت بمعنى النظام أو النسق، الذي يتركب من أربعة أجزاء، وهي الحاكمية والسلطة العليا، والإطاعة والإذعان لتلك الحاكمية، والنظام الفكري والعملي المتكون تحت سلطان تلك الحاكمية، وأخيرًا، المكافأة التي ينالها من يتبع هذا النظام ويخلص له، ويذكر المودودي مجموعة من الآيات التي يظهر فيها مصطلح الدين على هذا التصور، ومن ذلك الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران: «إن الدين عند الله الإسلام»، والآية الخامسة والثمانون من السورة نفسها: «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه».

حاكمية المودودي في سياقها التاريخي

إذا ما حاولنا العمل على فهم الأفكار التي وردت في كتاب «المصطلحات الأربعة في القرآن» في سياقها التاريخي، فسنجد أنها قد كانت مُبرّرة إلى حدٍّ بعيد، إذ إنها جميعًا قد صدرت عن المودودي قبل تقسيم القارة الهندية، وكان المسلمون في تلك الفترة يمثلون أقلية عددية قياسًا بالأعداد الإجمالية للهندوس، ومن ثم كان من الصعب أن يستفيد المسلمون من الديمقراطية الشعبية التي دعت إليها الأحزاب الهندية القومية في تلك الفترة.

المودودي الذي رفض انصهار الأقلية المسلمة في الأغلبية الهندية، رفض فكرة القومية الهندية، مستجيبًا للحراك الداعي لإحياء فكرة الخلافة الإسلامية، وفي تلك الأجواء، كتب المودودي في كتاب الإسلام والمدنية الحديثة «إني أقول للمسلمين بصراحة إن الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ما تعتنقون من دين وعقيدة… ولا انسجام بينهما في أمر مهما كان تافهًا، لأنهما على طرفي نقيض».

من هنا يُمكن فهم الأسباب التي دعت المودودي لتأليف كتابه المصطلحات الأربعة، وهو الكتاب الذي تمحور -بالأساس- حول فكرة الحاكمية وأن الله عز وجل هو الوحيد الذي له حق الحكم على عباده، مما يعني بالتبعية رفضه –أي المودودي- الكامل لكل أشكال الديموقراطية الغربية، وهو الرفض الذي ظهر على الساحة السياسية الهندية في رفض مؤسس الجماعة الإسلامية للنظام الانتخابي الديمقراطي في الهند قبل التقسيم، وذلك لتأكده من عدم قدرة الكتلة المسلمة من تحدي الأغلبية الهندية، بما يعني أن الأفكار الواردة في الكتاب كانت متصلة بشكل وثيق بالظروف التاريخية التي مرت بالمسلمين في شبه القارة الهندية في منتصف القرن العشرين.