نعيش اليوم طفرة علمية في جميع المجالات، تقودها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فقد شهد العقدان الأخيران تطورًا باهرًا في التقنيات الرقمية، والتي لم تعد مجرد جهاز حاسوب أو جوال مرتبط بالإنترنت، بل أصبحت كغلاف معلوماتي هائل يغطي الكرة الأرضية.

وقد خلق هذا الغلاف مناخًا محفزًا للابتكار واستحداث تقنيات مختلفة، مثل تطبيقات الموبايل وإنترنت الأشياء. ومن هذه التقنيات، الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تحول الرسوم ثلاثية الأبعاد إلى كائن مادي عن طريق طباعته، وتستخدم في مجموعة كبيرة من التطبيقات الكبيرة منها كتوربينات الرياح إلى الصغيرة منها كالتطبيقات الطبية.

هذا بالإضافة إلى الروبوتات التي كانت محصورة في المهام الخاضعة للرقابة الشديدة في صناعات محددة مثل السيارات، أما اليوم، فتستخدم في جميع القطاعات ولعدد كبير من المهام من الزراعة الدقيقة إلى التمريض. أيضًا السيارات ذاتية القيادة والطائرات بدون طيار و القوارب، جميعها تستخدم أجهزة الاستشعار و الذكاء الاصطناعي.

هذا بالإضافة الى المواد الذي لم يكن أحد في الماضي أن يتخيل وجودها، مواد أخف وزنًا وأقوى وقابلة لإعادة التدوير، وغيرها من التقنيات التي أدت إلى تحول كبير في تعامل البشر بعضهم ببعض وبالبيئة المحيطة بهم، والتي سوف تتداخل في الحياة اليومية للأفراد، وسوف يكون لها التأثيرات الإيجابية والسلبية على الفرد والمجتمع . 

كل هذا أدى لظهور مصطلح جديد يسمى «الثورة الرابعة»، والذي تم طرحه في كتابين مختلفين كل منهما ألقى عليه الضوء من زاوية مختلفة. الأول، هو كتاب «الثورة الصناعية الرابعة» لعالم الاقتصاد الألماني «كلاوس شواب» مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي. طرح الكتاب فكرة الثورة الرابعة من وجهة نظر تقنية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الأفراد والمجتمعات. أما كتاب «الثورة الرابعة – كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني» للكاتب «لوتشيانو فلوريدي» أستاذ فلسفة وأخلاق الإعلام في جامعة أكسفورد، فقد ناقش الكتاب الثورة الرابعة من وجهة نظر فلسفية، وكيف أثرت على واقعنا المادي والفكري وتغير فهمنا لذواتنا، فهي ثورة ثقافية شاملة مدفوعة إلى حد كبير بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

لماذا الرابعة؟

كلا الكاتبين اختار الترتيب الرابع للثورة، ولكن كل منهما كان له تفسيره المختلف للثورات الأربعة. فكلاوس شواب كان يرى أن الثورة الأولى هي تحول أوروبا وأمريكا من مجتمعات ريفية إلى مجتمعات صناعية قائمة على صناعة الحديد والنسيج، صاحبت ظهور المحركات البخارية وتطور النقل بالقطارات. أما الثورة الثانية، فهي ظهور الطاقة الكهربائية واستخدامها في الصناعات الضخمة مثل الحديد والصلب. الثالثة هي الثورة الرقمية والتي بدأت منذ عام 1980، واستمرت في التطور لسنوات، والتي كانت تمهيدًا للثورة الصناعية الرابعة، والتي بنيت على أساس الثورة الرقمية، حيث أصبحت التقنية جزءًا لا يتجزأ من المجتمعات حتى وصلت إلى جسم الإنسان.

هذه الثورة لم تغير مهام عملنا وطرق الاتصالات بيننا فحسب، وإنما غيّرت هويتنا وملامح مجتمع بأسره.
كلاوس شواب

أما لوتشيانو فلوريدي، فكان له تفسير ونظرة مختلفة للثورات الأربعة، فيرى أن الثلاث ثورات العلمية الأولى، أثرت في تغيير العالم الخارجي، كما أنها غيرت في مفهومنا بشأن من نكون، أي فهمنا لذواتنا. فالثورة الأولى، عندما نشر نيكولاس كوبرنيكوس أطروحته عن حركة الكواكب حول الشمس «دوران الأجرام السماوية»، والذي أثبت فيها أن الشمس مركز الكون وليس الأرض، وهذا جعلنا نعيد النظر في مكاننا ودورنا في هذا الكون. أما الثورة الثانية، عندما نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع»، والذي أثبت أن الإنسان ليس مركز المملكة البيولوجية، وأن جميع سلالات الحياة تطورت على مر السنين من أسلاف مشتركة عن طريق الانتخاب الطبيعي. أما الثورة الثالثة، فكانت على يد سيجموند فرويد والذي حطم فكرة أن الإنسان يتحكم في محتويات عقله، فقد دفع فرويد بأن العقل هو لا شعوري يخضع لآليات دفاعية، مثل الكبت، وكثيرًا ما يقوم العقل ببناء الروايات المنطقية لتبرير أفعالنا.

وأخيرًا الثورة الرابعة، هي عندما ابتكر بليز باسكال الآلة الحاسبة، وكان هذا لمساعدة والده في الحسابات المرهقة، التي تقتضيها وظيفته كمشرف على الضرائب، والتي كان لها تأثير هائل على تاريخ الآلات الحاسبة، وعلى غوتفريد لايبنتز عالم الرياضيات والفيلسوف الألماني الشهير والذي ابتكر النظام الثنائي الحديث والذي يعتبر أول عالم في مجال الحاسب وواضع نظريات المعلومات.

أين نحن ذاهبون؟

مما لا شك فيه، أن الحياة دائمة الاتصال بالإنترنت حولت المجتمع بعمق وبصورة لا رجعة فيها، والذي لا يزال في المرحلة المبكرة من تطوره إلى مجموعة من التحديات، وقد ناقشها الكاتبان كل من موقعه وزاوية رؤيته المختلفة.

 فقد ناقش فلوريدي الجانب الإنساني والفلسفي منها في ظهور جيل مفرط بالانشغال بالذات، يجتهد يوميًا لبناء هويته الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، يبث في تدفق مستمر وجهات نظره الذاتية وأذواقه الشخصية وتفاصيل حياته الخاصة، وحتى تجاربه الحميمة.

كان هذا بداية ظهور مصطلح التأريخ المفرط والبيانات الضخمة، بسبب كمية البيانات الكبيرة جدًا المخزنة، التي تظهر بقوة في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، والتي يقوم 70% من الناتج المحلي الإجمالي على السلع غير المادية ذات الصلة بالمعلومات، وكان نتيجة ذلك، ظهور قوانين وأخلاقيات تنظم العلاقة بين المستخدمين والشركات، لحماية خصوصيتهم وبياناتهم  والبنية التحتية لهذه المعلومات، وتأثيراتها على البيئة، والتي ناقشها الكاتب بعمق على مدى فصول الكتاب بأسلوب فلسفي سلس وبسيط. 

في المنتصف تقريبًا، بين بداية التأريخ وحتى الآن، كان أفلاطون بصدد محاولة فهم التغيرين الجذريين: ترميز الذكريات من خلال الرموز المكتوبة، والتفاعلات التكافلية بين الفرد ودولة المدينة. وفي غضون خمسين عامًا من الآن، قد ينظر أحفادنا إلينا على أننا آخر الأجيال التأريخية التي نظمتها دولة، ليس باختلاف كبير عن الطريقة التي ننظر نحن بها إلى قبائل الأمازون باعتبارها آخر مجتمعات ما قبل التأريخ عديم الدولة.

أما  كلاوس شواب، فقد استعرض أهم التقنيات التي تقود هذه الثورة، وأيضًا ناقش الآثار السلبية والإيجابية لهذه الثورة على الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على الفرد والمجتمع، ومدى تأثير هذه الثورة على نمو الاقتصاد العالمي والإنتاجية واستبدال العامل البشري بالتكنولوجيا، وظهور وظائف جديدة واختفاء أخرى، والمهارات المطلوبة لوظائف المستقبل، ومدى تأثير كل هذا على معدلات التوظيف، بالنسبة للدول المتقدمة والنامية.

أيضًا يتحدث عن ظهور شركات قادرة على الدمج بين التكنولوجيا الرقمية والمادية والبيولوجية، على سبيل المثال شركة أوبر، التي استخدمت تكنولوجيا تحديد المواقع والدفع الإلكتروني، فعن طريق برامج الموبايل استطاعت تقديم خدمات النقل والتوصيل، والتي قدمت مفهومًا جديدًا، من ملكية السيارة إلى فقط استخدامها عند الطلب. 

وكلما فكرنا في كيفية تسخير ثورة التكنولوجيا، درسنا أنفسنا والنماذج الاجتماعية الأساسية التي تجسدها هذه التقنيات وتمكنها، وزادت فرصتنا في تشكيل الثورة بطريقة تعمل على تحسين حالة العالم.

كما سلط الضوء على التغييرات التي ستحدثها الثورة الصناعية الرابعة على إدارة الدول، من إعادة تعريف كيفية عمل المؤسسات العامة والخاصة، خاصة – الحكومات – على التكيف و إعادة اختراع أنفسهم ،عن طريق إيجاد طرق جديدة للتعامل مع مواطنيهم والقطاع الخاص، كما تحدث عن تغير طبيعة النزاعات بين الدول، والتي تحولت من صراعات بين جيوش إلى صراعات إلكترونية، تؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة. كل هذا وأكثر، ناقشه شواب على مدى صفحات هذا الكتاب ذي المحتوى الثري بالمعلومات والتقارير الاقتصادية المهمة. 

وأنا أرى أن الكتابين قدما صورة متكاملة، لما ينتظرنا من تحديات للفرد والمجتمع في المستقبل القريب، وما ينبغي أن نخطط له حتى نتكيف مع هذه البيئة الجديدة الناشئة، ونتغلب على كل هذه التحديات، وأنت عزيزي القارئ بعد قراءة هذه السطور أين ترى دولتك بين هذه الثورات، وما الذي يجب علينا فعله حتى نكون مستعدين لهذه الثورة الرابعة.