شهد يونيو/ حزيران 2022 أول انتخابات تشريعية بعد أن فاز ماكرون بالولاية الثانية. التحالف الرئاسي الذي يقوده ماكرون، معًا، جاء في المرتبة الأولى. لكنه حصد 224 مقعدًا فحسب، ما يعني خسارة الأغلبية المطلقة، وأن الحكومة التي ستتشكل ستكون حكومة أقلية برلمانية، ستبقى مهددة بممانعة أحزاب المعارضة. المفاجأة الأكبر التي أظهرتها الانتخابات أن حزب التجمع الوطني، ممثل اليمين المتطرف، حصد نتيجة هي الأكبر في تاريخه.

تلك النتائج تقول إن ماكرون سوف يقضي 5 سنوات صعبة في الحكم. فلا هو قد حصل على الأغلبية المطلقة، 50% من المقاعد، مثلما كان الحال في الولاية الأولى. ولا استطاع حزب آخر أن يحصد الأغلبية التي تؤهل لحدوث المُساكنة السياسية. فالقانون الفرنسي يفرض أن تكون قيادة الحكومة لصالح الحزب الذي يفوز بالأغلبية البرلمانية، وفي حال اختلف الحزب الحاكم عن الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية، فسوف تُدار الدولة باثنين متناقضين، لكل منهما أيديولوجية. وحدثت تلك المعضلة في تاريخ فرنسا 3 مرات، مرتين في فترة حكم فرانسوا ميتران، والثالثة في عهد جاك شيراك.

حالة الانقسام السياسي التي دخلتها فرنسا بتلك الانتخابات التشريعية لن يقتصر تأثيرها على الداخل الفرنسي، بل سوف تمتد إلى الاتحاد الأوروبي بالكامل. خصوصًا أنه مع إعادة انتخاب ماكرون رئيسًا، توقع الكثيرون أن ينعكس ذلك على الانتخابات التشريعية، ما يمكنه من شق طريقه بأريحية وتمرير ما يريد من قوانين، وكذلك الالتفات إلى محاولات توحيد الاتحاد الأوروبي.

لكن كل ذلك غير وارد حاليًا، فاليمين المتطرف واليسار الراديكالي في فرنسا من المتشككين في أوروبا. ومن المحتمل أن يجبروا ماكرون على تعديل خططه الهادفة لاتحاد أوروبي أكبر وأكثر قوة. خصوصًا في ظل حالة التآلف الأوروبي التي حدثت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.

اليسار المتحالف بشق الأنفس

 وسوف تنقسم الجمعية الوطنية صاحبة الدور المهم في دعم السلطة التنفيذية إلى أربع مجموعات كبرى. خصوصًا حزب ماري لوبان، الذي كانت أقصى توقعاته أن يفوز بـ 30 إلى 50 مقعدًا، لكنه حصد 90 مقعدًا، 16% من البرلمان. بعد أن فاز الحزب بمقعدين و8 مقاعد في آخر دورتين من الانتخابات التشريعية. ربما يراهن ماكرون أن قراراته لن تُعطل بسبب انقسام اليمين المتطرف واليسار المتشدد. فكلاهما يمتلك القوة مجتمعين على زعزعة استقرار الحكومة، لكن القواسم المشتركة بينهما قليلة أيضًا، ولا يمكنها تشكيل حكومة وحدة أو حكومة ائتلافية.

ولا أحد يعرف هل سوف تستمر قوى اليسار في اتحادها أم لا. فقد استطاع جان لوك ميلانشون توحيد قوى اليسار بعد سنوات طويلة من الانقسام والخلافات أدت لقرب زوال اليسار من المشهد السياسي. جان لوك كان يطمح إلى الفوز بالأغلبية المطلقة لفرض اختياره رئيسًا للوزراء، لكنه لم يحققها، فقد فاز بـ 149 مقعدًا. وعلى الرغم من ذلك تمكن الرجل من وضع حركة فرنسا الأبية مع حزب الخضر والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، في جبهة واحدة. ما جعل كتلة اليسار الكتلة الأكبر نظريًا في البرلمان.

اللافت في الوضع الراهن أن النظام الانتخابي المكون من جولتين يهدف بالأساس إلى أن يصل إلى الجولة الثانية المرشحون الذين يحصلون على دعم شعبي كافٍ. وكان الناخبون غالبًا ما يصوّتون للخيارات الأقل تشددًا، ما يعطي أفضلية للأحزاب المعتدلة. فقد تجد ناخبًا من اليسار المعتدل يختار مرشحًا معتدلًا من اليمين. لكن هذه المرة كانت الأمور مختلفة، فالاختلافات الأيديولوجية كانت أكثر عمقًا.

وطبقًا للتعديلات الأخيرة فلا يمكن للرئيس الفرنسي استخدام البند الدستوري 49 إلا لمرة واحدة فقط. البند 49 هو البند الذي كانت تلجأ له الحكومات حين تريد تمرير قرار رغم إرادة البرلمان. بالتالي لم يعد بمقدور الحكومة فرض إرادتها على البرلمان. فسوف تضطر الأحزاب والحكومة إلى عقد توافقات مرحلية أو جزئية بين القوى المختلفة للحصول على أغلبية تسمح بتمرير أو عرقلة القوانين طوال السنوات الخمس القادمة.

سيناريوهات مُرة أمام ماكرون

التوافقات الظرفية ليست إلا حلًا ضمن حلول مختلفة يمكن أن يلجأ لها ماكرون. فالسيناريو الآخر هو أن يتحالف ماكرون مع حزب الجمهوريين، الذي حصل على 79 مقعدًا، لتخطي عتبة الأغلبية المطلقة. لكن هذا التحالف عليه أن يُقدم ضمانات للحزب الآخر، وأن يضمه للحكومة. في حين أن كريستان جاكوب، رئيس الجمهوريين، أكد أنه وحزبه سوف يبقون في صفوف المعارضة.

 فالحزب، الجزء اليميني الداخلي، يخشى من خسارة ما تبقى له من شعبية إذا انضم لصفوف الحكومة. ويفضل الابتعاد عن ماكرون حتى يتمكنوا من الحديث في أمور السيادة والهجرة والأمن القومي، وغيرها من القضايا التي جعلت الناخب اليميني يتجه لحزب التجمع الوطني بدلًا عن الجمهوريين. لذا فالتحالف معهم سيجبر ماكرون على التوجه بقوة نحو اليمين، والتخلي عن سياسة الوسطية التي يتبعها.

ويتبقى في جعبة ماكرون الحلول الأشد راديكالية، مثل حل الجمعية الوطنية. فمن حق الرئيس متى شاء أن يحل الجمعية الوطنية. لكن إذا حلّها فلا يمكن أن يحلها ثانية إلا بعد عام كامل. لكن حلها سيكون بمثابة الانتحار السياسي لماكرون. خصوصًا مع تصاعد الموجات المناهضة لماكرون. ويمكن لماكرون عمومًا أن ينتظر حتى يجد مبررًا منطقيًا لحلّها، مثل قيامها بتعطيل قراراته بشكل متعسف.

ويمكن لماكرون طبقًا للمادة 11 من الدستور أن يمرر كل قوانينه عبر استفتاء شعبي. لكن المعضلة أن التكلفة ستكون باهظة ماديًا وسياسيًا. أما السيناريو الأخير، هو استقالة ماكرون والدعوة لانتخابات رئاسية جديدة. لكن ماكرون سيضع نفسه في مأزق أن الدستور لا يسمح بتوليه لولاية ثالثة، لكن يمكنه التحجج بأنه لم يُكمل ولايته الثانية، لكنها ستكون حجة صعبة التصديق خصوصًا مع تصاعد العداء للماكرونية.

لن ينتهي البؤس السياسي

لا تساهم خطابات ماكرون في تخفيف ذلك العداء. فلمدة 8 دقائق تلفزيونية طلب ماكرون من الأحزاب أن تقدم له اقتراحاتها بعد 48 ساعة من عودته من بروكسل. المعارضة اعتبرت ذلك إنذارًا غير مقبول، بادرت الناطقة باسم الرئاسة لتبديد ذلك الشعور. لكن لم تكن المهلة الزمنية هي الإنذار الوحيد الذي أزعج المعارضة.

فقد قال ماكرون بأنه لن يحيد عن المشروع الذي اختاره الناخبون رئيسًا لتنفيذه. فالرجل يدعو اليمين واليسار للالتحاق به لتنفيذ مشروعه هو الخاص الذي فاز بالرئاسة، وليس على أساس فشله في حصد الأغلبية المطلقة في التشريعية. لهذا لم يكن مفاجئًا أن تأتي ردود المعارضة فاترة وغير متماشية مع ما يريد ماكرون.

لقد وضعت الانتخابات الأخيرة فرنسا أمام وضع لم تعرفه منذ 6 عقود. فقد باتت فرنسا أمام المجهول، لا أغلبية في الحكم أو المعارضة، فالبلد صارت منفتحة على شتى الاحتمالات. ذلك الوضع الذي صنعه ماكرون بنفسه، حين أراد تقويض ثنائية اليمين واليسار التي اعتادتها فرنسا، وأراد أن يلتف حول الأمر ببناء ثقل سياسي وسط، واستطاع ماكرون بالفعل تشتيت اليمين واليسار، لكنه لم ينجح في بناء قوة وسطية كافية لدعمه وتمكينه من الحكم.

تلك الفوضى السياسية التي ستعيشها فرنسا لسنوات قادمة تحتاج لدبلوماسية مرنة وأكثر انفتاحًا مما هو موجود حاليًا لتتجاوز حالة شلل المؤسسات التشريعية المحتملة. والنتيجة طويلة الأمد لسياسات ماكرون الراهنة، والصعود المضطرد لليمين المتطرف، وتراجع الأحزاب التاريخية مثل الحزب الاشتراكي، كل ذلك ينقل صورة مستقبلية لفرنسا مختلفة بعد سنوات من الآن.

فرنسا يحكمها اليمين المتطرف، لوبان مثالًا، وينقسم الشارع الفرنسي انقسامًا أيديولوجيًا عميقًا. وتفقد الأحزاب السياسية قدرتها على المناورة أو التوافق، فالانقسام الراهن سوف يجعل الأحزاب تتشبث بمواقفها الراديكالية أكثر فأكثر طمعًا في اجتذاب عدد أكبر من الناخبين، والحصول على عدد أكبر من المقاعد البرلمانية التي باتت قريبة من جميع الأحزاب والتكتلات أقرب من أي وقت مضى، ما يخلق أجواءً متوترة تهدد السلم العام والتعايش الأهلي.