فاز ليستر سيتي بالدوري الإنجليزي الممتاز للمرة الأولى في تاريخهم خلال موسم 2015/16، كانت مفاجأة مدوية في كل الأرجاء الرياضية بالطبع، لكنها كذلك كانت مؤثرة على الأرقام المالية. ارتفعت أسهم النادي بنحو 63%، وزادت قيمة المدينة الاقتصادية لحد فاق أي تخيل، لدرجة جعلت ما فعله «رانييري» ورجاله يدخل في حيز الدراسات الاقتصادية، كمثال حيوي على كل العلامات التجارية المستضعفة أو الصغيرة والتي تسعى لأكل السوق، كما فعل ليستر مع الدوري الإنجليزي.

كان هناك طرف يشاهد تلك الأحداث بعين الدراسة، طرف ما معنوي يُعرف باسم التسويق، والذي يُعد هو الفارس الأول في جيش الدوري الإنجليزي الممتاز ضد الدوريات الأخرى، والسبب الرئيس في تمييز تلك البطولة عن نظرائها في إسبانيا وفرنسا وألمانيا، يمكن وصف ذلك الطرف المعنوي باسم «فرانكشتاين» الخاص بكرة القدم. وفي إنجلترا، تتعاظم قيمة ذلك الـفرانكشتاين إلى حد بعيد.

البيضة أهم أم الفرخة؟

في إحدى روايات الكاتبة الإنجليزية «ماري شيلي»، حكت عن كيميائي يُدعى «فيكتور فرانكشتاين» والذي اخترع كائنًا غريب الأطوار عن طريق إحدى تجاربه. بدأ ذلك الكائن حياته الأولى كشيء ذكي ومُساعد لمُخترعه، لكن بمرور الوقت، تحول إلى وحش يصعب ترويضه.

اختلط الأمر على الأغلبية، فباتوا يربطون اسم فرانكشتاين بالوحش الذي دارت حوله رواية الكاتبة الإنجليزية، في حين أن الحقيقة هي أن ذلك الاسم إنما هو المُخترع وليس الوحش أو المسخ، السؤال الحقيقي في تلك المُعضلة هو: أيهما أهم للآخر؟ هل لولا ذلك الوحش ما ذُكر اسم فرانكشتاين ولا اختراعاته من الأصل، أم أنه لولا القيمة العلمية لذلك العالم لما وجد الوحش بالمرة؟

يمكن وضع نفس المُعضلة فيما يخص التسويق وكرة القدم في العموم، لكن بتخصيص حالة الدوري الإنجليزي تكون الأرقام أكثر وضوحًا. بتتبع مسيرة التسويق وتأثيره خلال البطولة بإنجلترا، تشعر بأنها دائرة مفرغة، الأموال تؤثر على مقدار قوة الفرق فتسمح بالحفاظ على قوة ذلك الدوري، ومن ثم حسن تسويقه عالميًا بما يجلب الأموال للحفاظ على قوة الفرق.. إلخ.

برؤية سطحية للغاية، يمكن أن تشعر بأن الاقتصاد مدين لكرة القدم، حيث هي البيئة الخصبة التي لم ولن تجد غيرها يحتوي على نفس الفرص لتسويق أي سلعة أو منتج بكل الطُرق الممكنة، مع وجود ضمانة كافية لإيصال حملتك التسويقية لأقصى عدد تتخيله من الجماهير المُستهدفة.

يقول «هاري لانج»، مدير التسويق بشركة «Pinnacle»، والمُختصة بالمُراهنات بكل أنواعها، إنك إن قمت بتأسيس شركة تحمل شعار نادي ستوك سيتي تختص في القروض العقارية أو الرهن العقاري، فإنك ستجد المدينة بالكامل تتهافت على ذلك السوق، وسيتحولون جميعًا لصيادي منازل، على حد وصفه.

لكن برؤية أكثر تعمقًا، تكتشف أن التسويق يُحقق لكرة القدم ما لن تستطيع فعله اعتمادًا على مواردها الخاصة فقط. لسوء الحظ، إذا نبشت في تاريخ عدة أندية تتربع الآن على قمم الدوريات في بلدانها، ستكتشف أن لها باعًا طويلاً من سوء الإدارة فيما مضى، التاريخ يشرح ذلك بقوة، وأن المعيار الحقيقي للاستدامة الطويلة لا يتوقف فقط على مدى قوة هذه الفرق، وفي ذلك الشأن لن نحتاج لذكر أمثلة غائبة عن الوجدان مثل ليدز يونايتد مثلًا أو بلاكبيرن، لكن يكفي ذلك اسم ميلان الإيطالي لتعرف أن التاريخ والبطولات وحدهما لا يكفيان أبدًا.

قنبلة ليستر سيتي الموقوتة

يوفر الوحش الذي ابتكرته كرة القدم المال الوفير، وبنفس الصيغة التي ذكرها هاري لانج، فإن كرة القدم كطفل يطلب من أبيه نقودًا أكبر بكثير مما يقدر هو على دفعها، وبتطور الزمن تزداد طلبات الإنفاق شدة، كلما زاد الخطر المُحيط باللعبة.

حذر «أندريا أنيلي»، رئيس رابطة الأندية الأوروبية، من خطر انخفاض شعبية كرة القدم بالنسبة للأجيال الجديدة، وهو ما دفعهم للسعي نحو التفكير في بطولات جديدة تُحقق متابعة عالمية على نطاق أوسع، وذلك لجذب نوعية مختلفة من الجماهير، غير المُعتاد عليها من بُلدان مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا والبرتغال وهولندا.

يَعتبر أنيلي انخفاض تلك الشعبية غير خاضع لنمو شعبية رياضات أخرى، ولكن بسبب ألعاب الفيديو التي تجذب الشباب الصغار بعيدًا عن متابعة كرة القدم. وهنا تأتي المُهمة التسويقية، حيث أدرك المختصون جميعًا أن الوصول للمشاهد، والذي هو عصب هذه اللعبة، لم يعد مقتصرًا على البث التليفزيوني العادي، بل يتطلب الأمر سعيًا أكبر.

وفي ذلك الشأن، سعى الاتحاد الإنجليزي للحد من ذلك الخطر، عن طريق عدة مسالك، كان أهمها إبرام صفقة مع شركة «فيسبوك» لبث مباريات الدوري بالكامل، في بلاد كمبوديا ولاوس وتايلاند وفيتنام، وذلك بدءًا من عام 2019 وحتى 2022، في صفقة تبلغ قيمتها حوالي 200 مليون جنيه إسترليني.

ما يُعد خفيًا على الأكثرية، هو أن فوز ليستر سيتي بالدوري الإنجليزي الممتاز في عام 2016، كان بمثابة القنبلة الموقوتة والتي تُهدد عديد مخططات التسويق لتلك البطولة على المدى البعيد.

بنظرة مبدئية، اجتذبت أحداث ذلك الموسم أي متابع لمشاهدة تلك القصة الدرامية التي نُسجت في بلاد الإنجليز، لكن بعد انتهاء الموسم بكل مراسمه، حتى بالجولة التي أخذها فريق الثعالب حاملًا معه الكأس الغالي، طرأت فكرة واجبة، وهي: كون فريق بهذا الضعف، كان ينافس على الهبوط قبل رفعه اللقب بعام واحد فقط، ينجح في إنهاء البطولة كبطل، يعني بالضرورة وجود ضعف على الأصعدة الأخرى خلال ذلك الموسم، وبفحص أكبر، تكتشف بالفعل أنه موسم أنهى فيه تشيلسي البطولة في المركز العاشر، ليفربول في المركز الثامن، ومانشستر يونايتد في المركز الخامس.

ناهيك طبعًا عن ضعف كافة الأطراف الأخرى والتي لا تصنف ضمن فئة الستة الأفضل في إنجلترا. ما يعني ضرب أحد أهم مميزات الدوري الإنجليزي في مقتل، وهي تنافسية 6 فرق على لقب واحد، مع مزاحمة من أطراف أخرى قوية من المنطقة السفلى في الترتيب، وبالتالي قرب حدوث مشكلة قد تُهدد التسويق الواسع لتلك البطولة.

لم نحتج لانتظار طويل حتى تتأكد النبوءة، بعد موسمين من فوز الثعالب باللقب، حطم مانشستر سيتي الرقم القياسي في عدد النقاط التي يحققها فريق في الدوري الإنجليزي بنسخته الحديثة: 100 نقطة من 114 نقطة مُتاحة، ذلك بالإضافة إلى تحطيم رقم آخر استمر لمدة 15 عامًا، وهو سلسلة الفوز المُتتالي التي كانت باسم أرسنال بـ14 فوزًا متتاليًا في عام 2002، حيث نجح «بيب جوارديولا» في كسر الرقم مرتين، أولًا بـ15 فوزًا متتاليًا، ثم 18 فوزًا متتاليًا، وذلك في ظرف 3 سنوات فقط!

لكن، هل يمكننا اكتشاف سبب توقف سلسلة أرسنال عند 14 فوزًا فقط؟ في الواقع، إن كسر هيمنة فريق أرسنال خلال تلك الفترة كان يحتاج لأكثر من إيقافه عن الفوز، بل كان يحتاج أن ينهزم ذلك الفريق الذي عُرف بالفريق الذي لا يُهزم، والواقع أن المباراة الأولى التي هُزم فيها الـ«جانرز» بعد 49 لقاءً دون هزيمة، كانت تملك من الأحداث ما يحمل إجابات غريبة تستحق التوقف عندها.

معركة البوفيه

نجح أرسنال في الفوز باللقب الذهبي للدوري الإنجليزي، أي إنهاء المسابقة بالكامل دون هزيمة واحدة، خلال موسم 2003/04، لم يتوقف النجاح عند تلك المحطة، بل استمرت قوتهم لأول 9 مباريات من الموسم الذي تلاه، عن طريق تحقيق الفوز في 8 مرات وتعادل وحيد فقط، قبل مواجهة البطل المُخضرم «أليكس فيرسجون».

تعد سلسلة 49 لقاءً متتاليًا دون هزيمة، إنما هي إهانة في حق كل الفرق الإنجليزية التي اعتادت ألا يسيطر عليها نادٍ واحد لكل هذه المُدة، وكان يجب إيقاف ذلك بأي طريقة ممكنة.

أُسندت إدارة اللقاء للحكم «مايك رايلي»، والذي تم عقاب المُدير الفني الفرنسي «أرسين فينجر»، فيما بعد على إثر التشكيك في ذمته وميوله، لكن الحقيقة أن كم الأخطاء التي وقع بها الحكم الإنجليزي خلال اللقاء، كانت تدفع للشكوك فعلًا، وأكثر هذه الشكوك كان في رغبة الإدارة الإنجليزية، سواء رابطة الأندية المحلية أو حتى الاتحاد نفسه، في كسر هيمنة أرسنال تلك من أجل الحفاظ على سُمعة البطولة.

https://gfycat.com/kindfavorableflyingfish
أحد الأخطاء التي ارتكبها لاعبو مانشستر يونايتد ضد أرسنال دون تدخل حكم اللقاء

وبعيدًا عن كم الأخطاء التي وقع فيها حكم هذه المباراة بالتحديد، والتي أقيمت في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2004، فإن بعد ذلك التاريخ بحوالي 15 عامًا، وفي نفس الشهر، نجح نفس الفريق، مانشستر يونايتد، في إيقاف سلسلة فوز مستمر لفريق آخر، وهو ليفربول، والذي كان بصدد تحطيم رقم مانشستر سيتي بـ18 فوزًا متتاليًا، بعيدًا عن الأداء التحكيمي نفسه، الحديث الآن عن مدى رغبة إدارة الكرة الإنجليزية في تكرار مثل هذه الإنجازات.

للتسويق رأي آخر

يقول «يورجن كلوب» إنه لم يكن يُدرك أن فريقه بصدد تحطيم رقم قياسي بـ18 فوزًا متتاليًا، وذلك إذا كان نجح في تحقيق الفوز على مانشستر يونايتد في ملعب «أولد ترافورد»، وهو ما لم يتحقق حيث انتهى اللقاء بالتعادل الإيجابي بهدفٍ لمثله، ويؤكد المدرب الألماني أن تلك الإحصائية قد سمع عنها فقط في المؤتمرات الصحفية ليس إلا، وهنا مربط الفرس.

تعتبر الأقلام الصحفية في إنجلترا هي أحد أقوى أسلحة التسويق في هذه البطولة، فتارة تقوم بتنجيم اللاعبين الشباب، وتارة تقوم بالهجوم على النجوم الكبار، الأهم إحداث حالة من الجدل تدفع الجماهير نحو الفضول لمتابعة الأحداث التالية للحدث الذي يُثار.

قبل أن يستمر أرسنال في الفوز لمدة 14 مباراة، فإن الرقم السابق كان بنهاية القرن التاسع عشر على يد إيفرتون، بـ12 فوزًا وكان على مدار موسمين وليس موسم واحد، أما خلال موسم واحد فقط، فلم ينجح أحد قبل أرسنال في أن يستمر لأكثر من 11 فوزًا متتاليًا، وكان باسم توتنهام في موسم 1960/61. الحديث هنا يدور عن أحد أكثر الأشياء التي تستند عليها الصحافة الإنجليزية، وبالتالي إدارات التسويق هناك، في نشر سمعة هذا الدوري، أن لا بطل واحد هُنا.

حملت السنين الأخيرة أنباء غير سارة لإدارات التسويق الإنجليزية، فأولًا، مانشستر سيتي يُحطم سلاسل فوز واحدة تلو الأخرى، ومن ثم يملك فرصة للفوز باللقب المحلي للمرة الثالثة على التوالي، فرصة حقيقية وليست محض خيالات، ومن بعده يأتي ليفربول وهو قادر على فعل نفس الشيء، فيما يخص سلسلة الفوز، الأكيد أن تلك الحقائق تتعارض بالكامل مع صحة الدوري الإنجليزي القوية التي يُعتمد عليها في تسويقه للخارج.

وإذا ما وضعنا مباراة أرسنال ومانشستر يونايتد في عام 2004 نصب أعيننا، يمكننا أن نتوقع أحد احتمالين: إما استمرار تلك الهيمنة الإنجليزية بشكل يؤثر على تسويق البطولة، أو حدوث تدخل حقيقي من وحش فرانكشتاين يحول دون استمرار ذلك.