هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمَّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًّا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

نقيق الضفادع

في الصيف يصبح صوت الضفادع صاخبًا في صمت الليل، يأتي من البرك المحيطة بحقول الأرز التابعة لمدرسة الزراعة، أمام العمارة الجديدة التي أسكنها. يبدو الصوت، في سكون الليل عميقًا كأنه يحفر جحورًا في الظلام، يزداد وضوحًا كلما مضى الليل. أحيانًا تصمت ضفدعة كنت أتابع نقيقها، أتخيلها تترك مكانها ذاهبة إلى بركة أخرى؛ ملبية نداء التكاثر الذي يلبس ثوب الحب.

كثيرًا ما يتصادف مرور سيارة في تلك اللحظة بالضبط، تدهسها.

في الصباح، في طريقي إلى العمل، أرى على الطريق جسم ضفدعة متيبِّسًا تمامًا، وقد سوَّته إطارات السيارات بالأرض، فاقدًا أي حس ببهجة التزاوج، لكنه ما زال يحمل أثر نقيق ليالي الصيف؛ رغبةً في الحب، الذي أدى إلى موته، كما يحدث أحيانًا للمتيمين من العشَّاق.

لن تترك لي شيئًا

اضطررت هذا الصباح إلى دخول مبنى السنترال. مرضت أختي والصداع يدق رأسها بيد الهاون كما تقول. دُرت بها على الأطباء، وحتى الآن لا يتعرَّفون على المرض.

لم أدخل هذا المبنى منذ زمن بعيد، في الحقيقة سقط من وعيي، اقتصرت مشاعري به على الدهشة من التحديثات الشكلية التي يُزيِّنون بها مظهره الخارجي. أفكر وأنا أمرُّ في شارع البحر في النزعة المظهرية التي تسيطر على البلد؛ تزيين المداخل، دهان الأسوار، وضع نافورات في الشوارع، أفكر: إن كنت تحاول أن تُداري خرابًا فإنك تُحيطه بسور لامع وتزرع عليه زهورًا.

كان المبنى يتحول إلى مكان آخر، وأنا أرى السقَّالات ترتفع على جوانبه، ومساحات من سطحه المدهون بالجير تتحول إلى أحجار لامعة، ويدهنون الأبواب باللون الأسود الوقور، ويزيِّنون المداخل، ويرفعون كشك العساكر ذوي اللباس الأسود ويستبدلونهم بعسكري عجوز.

وفي الوقت الذي انتشرت فيه التليفونات المحمولة والكبائن على نواصي الشوارع، لم يبقَ من المكان إلا كونه مكانًا للتحصيل؛ مكانًا لدفع الفواتير، وأسقطت ذاكرتي عنه تلك الليالي التي ربطتني به؛ تلك الليالي قضيتها فيه، مُنتظرًا المكالمات الدولية، في محاولة -لم تتم- للسفر إلى خارج البلاد.

وقفت في الطابور أسيطر على خجلي عندما يأتي عليَّ الدور لكي أدفع الفاتورة؛ فعليَّ أن أنطق اسم أختي بصوت واضح، بثبات، غير عابئ بالتفسيرات الضمنية لرجل يدفع فاتورة باسم امرأة؛ فالموظفون المتشبثون بأناقة موظفي البنوك لا يعرفون ما دار بيني وبين أختي، طول تلك السنين، من نزاعات مميتة على بقايا ما تركه لنا أهلنا، وشقتنا في الشارع الرئيسي، والتي آلت إليها في النهاية متهمة إياي بالتبديد.

لقد فقدت ثقتها فيَّ تمامًا، حتى التليفون لم تتركه باسم الأب، بل غيَّرته باسمها. أصرَّت أن تفعل ذلك لقطع أي حبل يربطني بما مضى، قائلة إنني أضعت كل الفرص التي أُتيحت لي، وأنها لن تترك لي شيئًا … لن تترك لي شيئًا.

11 ديسمبر 2011

خرج مُبكرًا في الصباح كما اعتاد. عبر الشارع باتجاه الكورنيش، بخطوات متوازنة، بعد أن تأكَّد من بعد السيارات القادمة. توقَّف لحظة، محسوبة بدقة، لينظر إلى ماء النيل. شمَّ بعمق رائحة الماء الذائبة في النسمات المتبقية من الفجر. ضباب يحوم حول الكوبري. نَسبه إلى ضعف بصره. بعد دقائق كان يسير فوق الكوبري بنفس الخطوات المنتظمة.

في المنتصف بالضبط توقف، نفس اللحظة السابقة، لينظر إلى ماء النيل. هذه المرة بطريقة طولية، حتى يشبع وجدانه بمنظر النهر.

الماء مخضِّر قليلًا. فكَّر:

هؤلاء الشباب يتدربون على التجديف عكس التيار.

راقب المركب، تبتعد والمجاديف تلمع، طالعة، نازلة. عايش النهر فترة طويلة حتى إنه يدرك بحدس اتجاه التيار، رغم البصر الكليل.

خطى إلى الناحية الأخرى، باتجاه بائع الجرائد. أمسك صحيفة اليوم، ولمح التاريخ. الأحد 11 ديسمبر 2011. فكَّر:

وُلدت في نفس اليوم منذ مائة عام. ماذا يعني هذا؟ لا يعني شيء؟ لا شيء.

جاء مجموعة من الشباب يحملون قارب تجديف. الوجوه متوترة مستثارة، يلوح فيها قدر من الانتظار. فكَّر:

ربما حدث أمر ما. ربما. لم تعد هناك تلك المسحة الداكنة على الوجوه، وتلك النظرة الحائرة. لقد رحلت منذ خمس سنوات تقريبًا، لقد تغيَّر شيء.

ابتسم لنفسه:

ربما كان وجودي مُعطِّلًا.

وانطلقت ضحكة مُجلجلة، طالما أعقبت قفشاته اللاذعة.

سار في طريقه إلى المقهى مُصطحبًا عددًا كبيرًا من الجرائد، ليعرف ماذا حدث في غيابه، خلال تلك السنوات الخمس.

وجه

ركزت انتباهي على وجه أمي وهي تلعب مع «مرام» بنت أختي. تميل وتقول: «مرام … بت يا مرام». قرطها الريفي يهتز مع حركة رأسها، وانتباهها مُركَّز على البنت الصغيرة التي تتطلع إلى وجهها في دهشة.

ابتسامة خافتة كانت تتلاشى من عينيها وهي تصمت للحظة قصيرة في مواجهة الملامح المندهشة للبنت الصغيرة، ثم تعود لتكسو الملامح من جديد.

ترفع رأسها تجاه النافذة المفتوحة وتقول بصوت هامس: «مش قادرة آخد نفسي». وتعود لتكرر نفس الكلمات وهي تميل تجاه البنت التي تمد أصابعها الصغيرة تجاه القرط.

بعد موتها بعدة أيام كنَّا نستعرض صورها، وجاءت «مرام» تزحف. قالوا لها: «فين ستك؟» أشارت إلى الوجه الباسم داخل الصورة، وتطلعت إليهم.

لن يكون الحدث بالنسبة لها غير غلالة من روائح وأشباح مضت بلا رجعة. لن يكون في ذهنها غير ملامح باهتة لامرأة ريفية. ربما لن تتذكر علاقة القربى. ربما جاءها الوجه في الأحلام دون أن تستدل عليه. ستقول عندما تروي حلمها: «زارتني في المنام امرأة ريفية عجوز». لكن ربما تحن إلى شخص يميل عليها ويقول بنفس الطريقة: «بحبك يا مرام».

تعذيب

كان ذلك في الصباح – قبل أن يأتي موظفو الأرشيف – قال وهو يعدل النظارة:

واحد مات اليوم في سجن وادي النطرون، عمره 28 سنة، من المعادي، مات من التعذيب، وتقرير الطب الشرعي هبوط حاد في الدورة الدموية. التقرير يذكر أيضًا أنه ابتلع لفافة بها أقراص ترامادول وحشيش. عادي، أشياء تحدث، أكثر من هذا يحدث، بلاد شاسعة لا بد أن الأقدار فيها متنوعة، ثم ماذا يعني واحد؟ هناك ملايين «الوحايد»، لا يهم، يروح ويجيء غيره.

كان يقول هذا شاردًا، غير قادر على السيطرة على حزنه. موت ابنه في عز الشباب يهون أمام أهوال التعذيب وانتهاك البشر.

لا شيء يهم الآن غير الطعام والشراب والتناسل، فهنيئًا لنا ببهجة الحياة الأرضية، يمكن أن توصلنا أيضًا إلى معرفة السر الخفي خلف كل هذا، وربما أضفت معنًى على حياتنا، يجب على المرء أن يبتعد عن أي شيء مُحزِن، عندما يكون مثلي يرى العالم ضبابيًّا وفي طريقه لأن يفقد بصره، ويسمع رفيف أجنحة ملك الموت.

لا بد أن أبتعد عن الحزن، كما يقول لي الطبيب زوج ابنتي؛ الحزن مثل الصدأ. لا … لا … مثل الخلِّ، إن أصابك تحلَّلت، يحوِّل روحك إلى «مخلل».

كان في هذا الصباح مُضطربًا، يجلس على المكتب المقابل في غرفة الأرشيف المكتومة. نظارته مُغبَّشة الزجاج، يبذل محاولات مضنية ليداري بلل الدموع في عينيه، ويُنظِّم الملفات على مكتبه خجلًا من أنه لم يتمكَّن من التحكم في عواطفه وفاض قلبه بما يحمل في صباح حار رطب قبل أن يمتلأ الأرشيف بالموظفين.

تهديد

تصبح الحياة فجأة ضيقة، الهواء قليل يُوشك على النفاد. الإحساس بالتهديد سائل في الفضاء.

يمكن للمرء أن يفحص المشهد ببطء: العمارة الجديدة على ناصية الشارع ترتفع. صوت مطارق نجارين المسلح عالٍ، مجوَّف، يرن في الهواء، يطيِّر أحيانًا عصفورًا مُضطربًا يسكن جريد نخلة وحيدة في فناء المدرسة.

الشيخ محمد السبَّاك، هناك، ينفج كاوتش الدرَّاجة ويرفع يده بالسلام باسمًا. في الشرفة امرأة عجوز تطمئن على الغسيل، تفحصه بيدها وتعدل أماكن بعض القطع، وتنظر بعيدًا حيث يظهر ضوء الظهيرة في فروع شجرة الكافور بجوار السور.

يمكن للمرء أن يفحص المشهد مرة أخرى، وأخرى، كأنه سوف يعثر على المكان الذي ينبعث منه الإحساس بالتهديد، أو الثقب الذي نفذ منه الهواء، أو سيجد فجأة في ذهنه اسم ذلك المعدن الغامض الذي امتص الأشعة من الحياة وتركها مُعتمة خالية من المعنى وغير قابلة للعيش.

أصبح الملك لله

صوت خفيض لراديو يذيع القرآن، يأتي من نافذة الطابق الأرضي في أول بيت على اليسار. كانت هناك حضانة للأطفال على اليمين، أصبح مكانها عمارة كبيرة. في منتصف الشارع، في بيت من طابق واحد، كانت تسكن سيدة عجوز، تُوقِف منْ يمر وتسأله عن الساعة، وتتبادل معه الحديث. في خلفية بيتها كانت هناك نخلة تطرح بلحًا أصفر. في الأسابيع الأولى من دخول المدارس نتسلَّل ونجمع البلح الساقط من سباط النخلة. لم تعد الآن. في نهاية الشارع كان هناك ساحة واسعة استعملت جراجًا للسيارات.

راح كل ذلك. بيوت … بيوت. عمارات عالية … عمارات عالية. ومع ذلك يظل الضوء حيًّا صافيًا في السادسة صباحًا، له لون فضي، وصوت القرآن كما كان منذ ثلاثين عامًا عندما كان جدي يجلس بجوار النافذة يفتح الشيش ويقول بصوت خافت: «أصبحنا وأصبح الملك لله».

أيام الغارات

أيام الغارات كانوا يدهنون زجاج النوافذ بزهرة الغسيل الزرقاء. بعض الناس كانوا يلصقون غلاف الكراريس الشفاف الأزرق، كان الصمت مُجسَّمًا، كثيفًا، حتى إن كل صوت يمكن سماعة بدقة، كل حركة في البيت لها رنين، وفي الشتاء يوقظنا صوت الريح. كنَّا نشعر أن السماء قريبة، ربما لأنها مكان الخطر المحتمل، أو لأن البيوت كانت لا تتعدى ثلاثة طوابق.

عندما أفكر في تلك الأيام أشعر بأن الدنيا كانت واسعة وساكتة، حتى إن نداء بائع الليمون وعلى ظهره القفة ما زال حيًّا: «شفا يا ليمون». وعلى بعد عدة شوارع كنَّا نسمع النداء المُختصر القصير كأنه نذير: «بكيا»، حتى نتبيَّن فيه الحس المرِح لرجل الأشياء القديمة. كلام النساء من النوافذ كان مسموعًا: سؤال عن الأحوال وعن الأكل وعن الأولاد وعمَّا يحدث على الجبهة.

بعد فترة تنشف زهرة الغسيل، يتسلَّل أحدنا إلى سياج النافذة وبإصبعه يكتب اسمه، فيظهر واضحًا وسط تلك الزرقة، ومن خلال حروف الاسم يمكن متابعة ما يحدث في الشارع. كان التلصُّص من خلال الكلمة التي محت اللون الأزرق له طعم مختلف، لا يعطي رؤية كاملة للشارع لكنها رؤية شيقة، له تقريبًا نفس الحس الذي أتذكر به تلك الأحداث بعد أربعين عامًا، كأن النقص هو ما يمنح التذكر جاذبيته.