ذهب ابن خلدون قديمًا في تعريفه للعمران إلى أنه مجمل ما نتج عن النشاط الإنساني، وبذلك يكون العمران هو المحصلة التي تتجمع من مجموعة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تتغير هذه العوامل بتغير الزمان والمكان، ويتغير معهما طبائع ونشاطات الإنسان وجماعته المكونين للمجتمع.

تختلف العوامل المؤثرة في العمران وتوجيه حركته من حيث الترتيب، من مكان إلى مكان، وزمان إلى زمان، فقد تنشأ المدينة نتاج حراك اجتماعي، وتطور بتطور هذا الحراك، وقد ينشأ هذا المجتمع نتيجة حراك اقتصادي أولًا ويتطور بتطوره، وهكذا. وبتتبع تواريخ المدن والمجتمعات العمرانية والعوامل التي أثرت في تشكيلها، نجد أن العامل السياسي في أغلب الأحيان هو المحرك الأول لحركة العمران وتشكيل عناصره، وقد يكون هو المسبب في خلقه أو انعدامه.

لقد ظهر تأثير العامل السياسي وتحكمه في توجيه حركة العمران منذ القدم، وانعكس ذلك على تشكيل المدينة الإسلامية، خاصة تلك المدن التي أُنشئت بعد التوسع في حركة انتشار الجيوش الإسلامية في عهد الخلفاء للغزوات الخارجية، فقد لعبت القرارات السياسية للخليفة دورًا محوريًّا في نشأة الأمصار في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكذلك نشأت عواصم وبلدان جديدة في عهد الحكومات الإسلامية المتتالية، نتيجة قرارات سياسية لنقل العاصمة ومقر الحكم إلى مكان آخر غير الذي هو فيه.

فنظرًا إلى حالة الحروب المستمرة التي عاشها المسلمون الأوائل، كانت الحاجة ضرورية لإقامة مستوطنات يقطنها الجند، وأحيانًا رغبة الجند في الانتقال إلى مكان حضري غير بيئة الحرب، نظرًا لحركة الإنسان الدائمة الساعية نحو التحضر، في الكثير من الأحيان تحولت هذه المستوطنات إلى مدن ومجتمعات عمرانية، ما زال الكثير منها موجودًا حتى الآن، وقد كانت القرارات السياسية للخليفة هي المحرك لشكل وتخطيط التجمع المطلوب إقامته، بدءًا من اختيار الموقع المناسب مرورًا بمحاور امتداداته العمرانية المستقبلية، ثم تقسيم وتوزيع الاستخدامات داخل التجمع، وتنظيم حركة السكان وشق الطرق، ومناطق إقامة الثكنات التي يسكنها الجند، حتى الأسوار المحيطة بهذا التجمع.

وكانت هذه القرارات نتيجة لمراسلات بين قائد الجيش والخليفة في مقر الحكم، هذه المراسلات التي تصف بالتفصيل الموقع المراد إقامة المباني عليه، وتضاريسه والعوامل البيئية والجغرافية، وكان قرار الخليفة يأتي أحيانًا عكس رغبة الجند وقائدهم في الانتقال إلى مجتمع عمراني جديد أو إقامته، وإلزامهم الصحراء وحياة التقشف، كي لا يعتاد الجند على رغد العيش.

البصرة: مدينة العرب الأولى خارج الجزيرة

تعتبر مدينة البصرة أول المدن التي شيدت خارج شبه الجزيرة العربية، وذلك عام 14 هجرية، بناءً على قرارات سياسة بعد مراسلات قائد الجيش عتبة بن غزوان والخليفة عمر بن الخطاب. فقد ذكر البلاذري أنه عند دخول الجيش بقيادة ابن غزوان إلى الخربية، وهي إحدى المناطق التي نزلها الجيش قبل تمصير البصرة، أرسل ابن غزوان إلى عمر بن الخطاب يعلمه بدخولها، ويطلب منه إقامة مدينة يسكنها الجند، فرد عليه عمر أن اجمع أصحابك في مكان واحد وليكن قريبًا من الماء والمرعى، واكتب إليَّ بصفته.

وترجع موافقة الخليفة على إقامة البصرة إلى رغبته في الحفاظ على حياة الجنود، فقد ذكر ابن خلدون أن وفدًا من الجيش وصل إلى عمر بن الخطاب وقد تغيرت ألوانهم، فسألهم فقالوا: وخومة البلاد غيرتنا، فعلم عمر أن الموضع الذي نزلوه غير ملائم لطبيعة حياتهم التي اعتادوها، فلما كتب إليه ابن غزوان أني وجدت أرضًا كثيرة القصبة، في طرف البر إلى الريف ودونها مناقع ماء فيها قصباء، فرد عمر أن هذه أرض نضرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب، ووافق أن يتخذها الجند أرضًا للسكن، لكنه اشترط أن يكون البناء بالقصب كي لا تتغير طبيعة الجند. وبعد ثلاث سنوات، نشب حريق فقضى على القصب المبنية به البصرة، فأرسل أبو موسى الأشعري، وقد تولى إمارتها، إلى الخليفة يستأذنه أن يعيد بناءها بالطوب اللبن، فأرسل إليه الخليفة الموافقة، واشترط ألا يزيد المبنى عن ثلاث حجرات، وأن لا يتطاول في الارتفاع.

وقد اشترط الخليفة في اختيار موقع المدينة أن يكون موقعًا استراتيجيًّا لا يفصل بينه وبين مركز القيادة في شبه الجزيرة العربية طبيعة جغرافية، حيث يسهل وصول الإمدادات العسكرية إلى الجيش بسهولة، حيث تظهر في المكاتبات أن ابن غزوان في بادئ الأمر اختار موقعًا يحده الماء، فأرسل إليه الخليفة أن اختر موضعًا آخر يكون النهر أمامه والصحراء خلفه.

الأمر نفسه تكرر مع عمرو بن العاص الذي أراد أن يتخذ الإسكندرية عاصمة للدولة. ذكر ابن الحكم أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغًا منها، همَّ أن يسكنها وقال مساكن قد كفيناها، وأرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه بذلك، فسأله الخليفة هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ فلما علم أن النيل إذا جرى سيفصل بينه وبينهم، كتب عمر إلى عمرو بن العاص إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف، وبذلك ترك عمرو بن العاص الإسكندرية واتجه إلى تأسيس الفسطاط.

بغداد: العاصمة الأمنية

ونذكر مدينة بغداد التي أقامها الخليفة المنصور، ثاني خلفاء الدولة العباسية 145 هجرية، والتي كان تأسيسها قرارًا سياسيًّا في المقام الأول، وحصنًا استراتيجيًّا، وظهر ذلك في مخططها العام وأسوارها المحيطة بها، ويرجع الفيلسوف مسكويه سبب إنشاء مدينة بغداد إلى الحرب التي دارت بين الخليفة العباسي وطائفة الراوندية، وهم طائفة ذات أصول فارسية ومعتقدات من الحضارات القديمة، تطورت هذه المعتقدات حتي اعتقدوا بحلول روح الإله في نسل علي بن أبي طالب، حتي وصلت هذه الروح إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وبذلك عبدوا المنصور ورأوا فيه الإله، فخرج المنصور لقتالهم حتى قضى عليهم عام 141 هجرية.

 وبحسب مسكويه، فإن هذه الحرب التي استمرت فترة من الزمن شكلت تهديدًا كبيرًا على المنصور الذي كان يسكن الهاشمية بجوار الكوفة، فكرهها المنصور وكره أهلها، وأراد أن يحصن نفسه في مدينة بعيدة وآمنة، خرج ليختار موقعها بنفسه، وقد اختار المنصور موقع مدينة بغداد وأشرف على بنائها، حتى ذكر الطبري أن الخليفة جمع المهندسين وطلب منهم تخطيط المدينة وعرضها عليه، ثم طلب منهم أن يرسموا هذا المخطط بأطواله الحقيقية بالرماد على الأرض وأن يوضحوا مداخل ومخارج المدينة، ففعلوا ما أراد، ثم دخلها المنصور وتجول بها، ثم أمر أن تنثر على هذه الخطوط بذور الكتان المغموسة بالنفط وأن تشعل فيها النيران، كي يتمكن من رؤيتها وتتضح معالمها.

إذن قد كان للقرار السياسي بالغ الأثر على شكل وحركة نشأة وتطور المدينة الإسلامية في العصر الأول، الذي لم يمكن أن يتخذ فيه أي قرار يخصها إلا بالرجوع أولًا إلى الحاكم، الذي يضع العديد من العوامل السياسية والاستراتيجية والعسكرية والقبلية في حساباته قبل اتخاذ القرار، وكانت تقوم المدينة داخليًّا على أسس اجتماعية قبلية، فيتم تقسيم الأحياء داخلها وفقًا للقبائل التي ستسكنها.

إذن فكلما كان القرار السياسي أكثر وعيًا، ومتسمًا بالمرونة والتشاركية، كانت المدينة أطول عمرًا، وأكثر نفعًا لساكنيها، الأمر ليس مرتبطًا بالمدينة الإسلامية فقط، بل إن أثر القرارات السياسية على العمران في علاقة طردية مع الزمان، فكلما اتسعت حركة التطور العمراني، احتاج القرار السياسي إلى دعائم أكثر تشاركية ووعيًا.