المواطن والمستثمر وبينهما شبح الدولار.

ليست مشكلة عملة أو سعر صرف فقط، بل هي مشكلة تنسحب على العديد من الهياكل الاقتصادية، كذلك ليست مشكلة جديدة بل قديمة متكررة بسبب أخطاء السياسات النقدية والمالية المتبعة في مصر منذ عقود طويلة، فكان لتحول الاقتصاد المصري نحو الخدمات والتخلي تدريجيًّا عن قطاعات مثل الزراعة – المولدة لمعظم السلع التي تستوردها مصر في الوقت الراهن – أثر كبير على فقد جزء كبير من الاحتياطات الدولارية التي أصبح لزامًا على الدولة توفيرها من أجل استيراد الغذاء من الخارج.


المواطن البسيط

ليس كل ما يضر المواطن هو أن الدولار أصبح يساوي ما يزيد عن تسعة جنيهات في السوق السوداء بفارق نحو جنيه وربع عن السوق الرئيسي، أو أن سعر الدولار في مصر أصبح أعلى من سعر اليورو، وليست مشكلة المواطن أن الحكومة ليس بمقدورها السيطرة على السوق السوداء، أو أن الجنيه المصري أصبح ذا قيمة متدنية للغاية أمام الكثير من عملات العالم النامي وليس المتقدم فحسب.

فمشكلة المواطن المصري مع الدولار الأمريكي أصبحت أعمق من ذلك بكثير؛ مشكلة تظهر في كل نواحي الحياة اليومية، تبدأ من شراء السلع الغذائية التي أصبحت ترتفع بشكل كبير في مصر فقط، في الوقت الذي تعاني فيه دول العالم الأخرى من «التراجع الشديد» في أسعار السلع الغذائية حتى بدأت دول مثل أوروبا وأمريكا تعاني من ويلات الانخفاض الشديد في قيمة السلع الغذائية والتي من شأنها أن تدخل تلك الدول في حالة من الركود الاستهلاكي. ليس ذلك فحسب، بل تزامن ذلك مع رفع الجمارك على عدد كبير من السلع المستوردة وفي ظل أزمة الدولار أصبح المواطن يدفع ضعف سعر السلعة المستوردة؛ ذلك لأن البائع أو المستثمر لن يتحمل ولو جزءًا بسيطًا من الزيادة في الجمارك أو في فارق العملة، وبالتالي يُحيل البائع تلك الزيادة إلى المستهلك النهائي للسلع.

في الوقت الذي تنهار فيه أسواق النفط العالمية، ما زال السعر مرتفعًا في مصر بسبب ضعف قيمة الجنيه المستمر أمام الدولار.

وبالنظر إلى سلعة أخرى كالبترول، ففي الوقت الذي تنهار فيه أسواق النفط العالمية حيث تراجعت أسعار النفط بأكثر من 70% في الأسواق العالمية، ما زال السعر مرتفعًا في مصر بسبب ضعف قيمة الجنيه المستمر أمام الدولار. ولم تستفد مصر من ذلك الانهيار في الأسعار باعتبارها دولة مستوردة للبترول، في حين استطاعت دولة مثل الهند، التي تعتمد على الخارج في توفير احتياجاتها من موارد الطاقة، من الأزمة النفطية بالدرجة التي جعلتها تحقق وفرًا كبيرًا في فاتوراتها الاستيرادية من النفط ليُترجم ذلك في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي لديها؛ ما يرشحها لقيادة الاقتصاد العالمي خلال الفترة المُقبلة.


الدواء والمرتبات

أزمة جديدة بدأ يُعاني منها المواطن؛ وهي توافر الدواء المستورد – الذي لا يوجد له بدائل في السوق المحلي – الأمر الذي دفع العديد من الأطباء في مصر إلى عدم وصف تلك الأدوية للمرضى من أجل تجربة مدى تأثرهم أو تأقلمهم على عدم توافر الدواء. لكن بإقرار الأطباء هناك أدوية حيوية تُستخدم لعلاج أمراض مزمنة مثل أدوية السيولة لمرضى القلب والضغط وأدوية الكوليسترول وكذلك علاج السرطان التي يؤدي نقصها إلى تدهور الحالة الصحية للمرضى. ورغم أن الدواء يكاد يكون هو السلعة الوحيدة المسعّرة جبريًّا في مصر، إلا أن نقص الدولار الذي أدى إلى نقص الكمية المتاحة من الأدوية المستوردة خلق سوقًا سوداء تباع فيها الأدوية الناقصة بأسعار مضاعفة عن سعرها الأساسي.

أما عن سعر صرف الدولار في الموازنة الجديدة للعام 2016-2017، فقد حددت الحكومة سعر صرف يساوي 8.25 جنيهات للدولار الواحد، انخفاضًا من 7.75 جنيه في الموازنة السابقة، ما يعني أن الحكومة ستخفض قيمة الجنيه بنحو 42 قرشًا عن مستواه الحالي، مع العلم أن هذا الرفع من شأنه أن يرفع الدولار إلى 10 جنيهات في السوق السوداء. يتبع ذلك عدد من السلبيات على رأسها انخفاض القيمة الحقيقية للجنيه المصري، ارتفاع فاتورة الواردات، ارتفاع أسعار السلع في السوق المحلي، انخفاض مستوى الدخل الحقيقي للمواطن بنحو 7% على الأقل بالتالي يقل مستوى المعيشة للمواطن، كذلك ترتفع قيمة مدخلات الإنتاج ما يزيد من تكلفة الإنتاج والاستثمار في مصر الأمر الذي يقلل من تنافسية الصادرات المصرية في الخارج على الرغم من تدني قيمة العملة.


المسافرون للخارج

وبالارتقاء قليلًا من المواطن البسيط الذي يعاني من أزمة الدولار في شراء السلع الأساسية، ننتقل إلى المواطن الذي لديه بعض الوفر المالي الذي يُمكنه من السفر للخارج لأي غرض كان، ففي تلك الحالة سيواجه مشاكل أخرى؛ أولها: أصبح المواطن مضطرًا لدفع مبلغ يتخطى 9 آلاف جنيه للحصول على ألف دولار في حين أن السعر الأساسي بالبنوك يقول إن على المواطن أن يدفع 7830 جنيهًا فقط، لكن دائمًا ما يدّعي البنك عدم قدرته على توفير الدولار وهنا يلجأ المواطن للسوق السوداء.

ثانيها: في حالة أن البنك قام بتوفير الدولار، فهنا نواجه القواعد الجديدة التي قللت منح النقد “الكاش” للعملاء عند السفر للخارج من ثلاثة آلاف دولار إلى ألفين فقط وبعضها إلى ألف دولار، مما يجبر المواطن إلى التعامل مع السوق السوداء. ثالثهما: وبافتراض أن المواطن تغلب على المشكلة واحد واثنين واستطاع السفر للخارج، هنا تظهر أمامه المشكلة الثالثة عند السحب من البطاقات في الخارج، فالبنك الأهلي – وهو أكبر البنوك العاملة في السوق – خفض حد السحب النقدي المسموح به أثناء تواجد العميل خارج مصر، إلى نحو 200 دولار يوميًّا.

كذلك رفع البنك العمولة على السحب النقدي من البطاقات الائتمانية في الخارج لتصل إلى 3%، بالإضافة إلى 3.5% فرق تغير عملة تضاف إلى سعر الصرف المعلن للدولار، بعدما كانت العمولة 1.8%، بالإضافة إلى 25 جنيهًا لكل عملية سحب نقدي.


الاستثمار الأجنبي

هناك ضبابية شديدة جدًّا بسبب عدم وضوح السياسات النقدية المتبعة من قبل الحكومة، ما دفع العديد من الشركات الكبرى العاملة في مصر إلى تحديد سعر صرف الدولار في موازناتها للعام 2016 بما يتراوح بين 9 و 9.5 جنيه للدولار الواحد. وقامت تلك الشركات بالفعل بزيادة أسعار منتجاتها قبل بداية العام الجاري 2016، بناءً على توقعاتها لسعر الدولار، وهو ما ينذر بـارتفاع كبير في معدلات التضخم خلال العام الجاري.

أزمة نقص العملة الأجنبية في السوق تفرض تحديات كبيرة أمام المستثمر في السوق المصري.

كذلك أزمة نقص العملة الأجنبية في السوق، تفرض تحديات كبيرة أمام المستثمر في السوق المصري، في ظل عدم قدرة المؤسسات المصرفية المصرية على توفير الاعتمادات الدولارية اللازمة لعمليات استيراد المواد الخام ومدخلات الإنتاج اللازمة لاستكمال العملية الاستثمارية.

ونجد هنا أن نقص الدولار دفع الحكومة المصرية لوضع شروط للمستثمر الأجنبي بضرورة الاعتماد على قدرته التمويلية الخاصة في توفير العملة الأجنبية. وذلك الشرط كان من أهم الأسباب التي أدت إلى إلغاء عدد من التعاقدات الأخيرة كإلغاء صفقة القطار المكهرب – الذي يربط بين مدينة السلام والعاشر من رمضان – التي كانت تتعاقد عليها الصين، وكذلك كانت أزمة نقص الدولار سببًا وراء انسحاب رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار من صفقة إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة.


أسباب الأزمة

للوقوف على الأسباب الرئيسية وراء أزمة نقص الدولار في مصر نستعرض العوامل التالية:

– تراجع تحويلات العاملين بالخارج بسبب تصنيف معظمهم كخلايا إرهابية، بالتالي هناك تخوف من تحويل أموالهم التي تلاحقها عمليات المصادرة من جانب الجهات الأمنية بالدولة.

– يوجد خلل هيكلي في الاقتصاد المصري، نتج عنه تآكل في قوى الإنتاج، وتزايد الفجوة في الميزان التجاري، والتي تبلغ أكثر من 6.5 مليار دولار في الوقت الراهن.

– مصر بعد أن كانت تصنف على أنها اقتصاد زراعي، حيث كانت الزراعة تمثل الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أصبح اقتصادها خدميًّا بالدرجة الأولى حيث تعتمد على إيرادات السياحة وإيرادات قناة السويس وهي إيرادات حساسة للتوترات السياسية والعوامل الخارجية أكثر من العوامل الداخلية، وبالتالي يعتبر مصدرًا غير مستدام لتوفير النقد الأجنبي.

– وضع الكثير من القيود على حركة السحب والإيداع للدولار تجعل من الأفضل للمواطن والمستثمر الحفاظ على السيولة خارج البنك حتى تصبح أكثر مرونة لاستخدامها وقت الحاجة إلى ذلك. كذلك بدأ العاملون بالخارج يرسلون الحوالات لذويهم بطرق غير مُقيدة عن طريق الصرافات أو الأصدقاء حتى لا تخضع للقيود البنكية التي تحول دون تقاضيها كاملة بالعملة الصعبة، الأمر الذي ينتج عنه نقص في قيمة التحويلات الدولارية لدى البنوك.

– الحلول الخاطئة التي تلجأ إليها الحكومة مما يفاقم من الأزمة، حيث تحاول الحكومة أن تغطي النقص في الدولار بالاقتراض من ودائع العملاء الشخصية في البنوك، ويعتبر ذلك أمرًا خطيرًا حيث يعطي مؤشرًا على عدم توافر دولارات لدى الحكومة، وهذا يدفع العملاء إلى سحب أموالهم خوفًا عليها، وهو ما سيفاقم الأزمة. هذا الأمر دفع عددًا كبيرًا من الخبراء المصرفيين بتوقع أن تتوقف مصر عن سداد ديونها نتيجة لهذه السياسة، مما قد يجعلها تعاني من خطر الدخول في حالة الإفلاس.

نهايةً، لحل أزمة نقص الدولار بمصر، أصبحنا بحاجة إلى رسم سياسة اقتصادية جديدة بشقّيها المالي والنقدي، مع الابتعاد عن الروشتات المستوردة من الخارج والتي عادة ما تنادي بتعويم العملة وفرض المزيد من القيود على المواطن والحركة الاقتصادية في البلاد. على أن يتزامن مع ذلك تبني سياسة واضحة تعتمد على تشجيع الإنتاج المحلي، خاصةً في وقت تمتلك فيه كافة الموارد اللازمة لتأسيس قطاعات زراعية وصناعية على قدر عالٍ من التنافسية، ذلك بدلاً من الاعتماد على القطاع الخدمي الذي يجعل مصر عرضة للتأثر بكافة التوترات السياسية حول العالم، وأبرز مثال على ذلك: فقدت مصر مليارات الدولارات من العائدات السياحية التي تراجعت بشكل كبير بعد حادث الطائرة الروسية الأخيرة.