مرت ذكرى رحيل نجيب الريحاني في 8 يونيو/حزيران الماضي، التاريخ الذي رحل فيه عام 1949. تذكرَته بعض صفحات الفيسبوك وقلائل من محبيه. استمعت إلى مذكراته بصوته، وسمعت مسلسله الإذاعي أيضًا، وأتذوق تفاصيل حياته وصراعاته، أشاهد له مسرحية أو فيلمًا، وبالكاد أفرق بين ذلك وبين حياته الحقيقية. أعجبت بصراحته وحزنت لسقطاته. أعي جيدًا أن مقالا واحدًا لن يكفي حياته.

الاسم نجيب إلياس ريحانة أو نجيب الريحاني، ممثل كوميدي، ولعل هذا ما لم يكن يحب أن يكونه فعلا؛ فلقد أحب الدراما أكثر. ولد نجيب في برد كانون الثاني/يناير 1889، تحديدا في اليوم الحادي والعشرين من الشهر، بحي باب الشعرية بالقاهرة. تزوج والده، إلياس ريحانة، من امرأة مصرية مسيحية وعُمِّد نجيب على يد الخوري يوحنا طواف.

وكالعادة فإن الصراعات قد ولَّدت لنجيب هذا الكم من الإبداع، فلم يستطع إكمال تعليمه من أجل أن ينفق على أسرته فقد توفي والده ولم يكن هناك من يتحمل الإنفاق غيره هو وأخوه.

كان نجيب الريحاني من نخبة من دخلوا الفن، تخلل الفن وتخلله بمبادئه الواضحة المختلفة في ذلك الزمن. اشتهر الريحاني بقدرته القوية على إلقاء الشعر العربي بالمدرسة؛ فقد تأثر، كما تأثر نجيب سرور، بأبي العلاء المعري. الصراحة وعدم الخوف والسخرية، كانت أسلوبا وليست صفات؛ ولعل هذا ما يظهره دوما في أفلامه ومسرحياته، بل وعندما سمعت مسلسله الإذاعي -والذي وجدته صدفة أثناء بحثي عن أي شئ يخص الريحاني- وجدته لا يختلف كثيرا عن أعماله.


الريحاني فنانا وإنسانا

أَحَب نجيب التمثيل منذ الصغر، ولكن كانت والدته حائلا بينه وبين تلك المهنة، فكانت ترى الممثل مجرد مشخصاتي، مهنة بدون أي شرف. وبناء عليه عمل في البنك الزراعي، وهناك التقى عزيز عيد، وأصبحا صديقين. وعزيز عيد هو مُخرج شاب مُحب للتمثيل. وسرعان ما عملا سويا وأخذا يترددان على دار الأوبرا. ولكن على عكس عزيز عيد، كان الريحاني لا يميل إلى الكوميديا بل الدراما، فلم يتوافقا حتى انفصل نجيب عنه. ثم يترك عزيز عيد عمله ليكوِّن فرقته الخاصة، فيترك نجيب عمله الآخر ويشترك معه في بعض الأدوار حتى ينتهي به الحال بفرقة أخرى ألا وهي فرقة سليم عطا الله. ومن حظه السيء أنه عندما مثَّل أول مسرحية له معهم، طغى في تمثيله على البطل، وهو المدير سليم عطا الله، ولقي نجاحا كبيرا، حتى أقصاه المدير.

ومن الجلي أن علاقاته النسائية كانت كثيرة وفاشلة وطفولية في معظمها. بدايتها كانت حبيبته مارسيل التي تركته لأنه لم يكمل شهادته، وفوجئ بزواجها من «المأمور البيه». وأكثرها فداحة علاقته مع زوجة مديره في العمل في شركة السكر بالصعيد؛ وتلك الفضيحة التي لاحقته عندما كان يتسلل إلى منزلها بينما كان زوجها في مهمة خارج المدينة، فسمعته الخادمة حتى علم الجميع وفُصل ورجع إلى القاهرة مشردًا، فقد كان يتنقل بين المقاهي صباحًا، وينام بجانب كوبري قصر النيل ليلا، ليرجع مرة أخرى للمقاهي. وعمل ببعض المسرحيات وكان المقابل لبنًا وبيضًا.

يرجع مرة أخرى إلي شركة السكر بدعوة من رؤساء الشركة نكاية في مديره، حتى فصل منها سنة 1914 مرة أخرى. فيعود ليكمل مسيرته المسرحية مع فرقة جورج أبيض، ومرة أخرى ونفس الموقف مع سليم عطا الله، لكن مع مدير مختلف، بمسرحية «صلاح الدين». يدخل جورج أبيض بشخصية ريتشارد قلب الاسد، بينما يكون أمامه نجيب الريحاني بشخصية إمبراطور نمساوي بلحية صِناعية لينفجر المسرح بالضحك مع التزامه بالنص تماما، ليُفصل مرة أخرى من الفرقة. يواجه ظروف صعبة مرة أخرى، حتى يصطدم في مرة بصديقه من فرقة عزيز عيد، ستيفان روستي، ليبدأ العمل معه في إحدى المسارح. ومع زيادة أجره، يبتكر الريحاني شخصية كشكش بك، وهي ما اشتهر به، وكَتب سلسلة مسرحيات لتلك الشخصية ولاقت نجاحًا كبيرًا.

أخرج عدة مسرحيات، وأنتج عدة شخصيات، وصعد نجمه سريعا حتى أنه لاحظ مجموعة من النساء تشاور عليه وتهمس؛ فيقول في مذكراته: «تعالي يا أُم توفيق (يقصد أمه) اسمعي. شوفي الأملة اللي فيها ابنك المشخصاتي .. الناس بتشاور عليه في الشارع».

من خلال ابتكار الريحاني لشخصية كِشكِش بك سلك محور الفكاهة والكوميديا، وعندما لاقى نجاحًا كبيرًا وأحبه الناس، أكمل الطريق فيه.


الريحاني وطنيا

تتسبب أحد أعمال الريحاني «حكم قرقوش» -كتبها صديق عمره بديع خيري- في غضب الملك فاروق، ويضطر الريحاني إلى الهُروب إلى الخارج خَوفًا من الاعتقال؛ حيث كانت تَحكي المسرحية عن حاكم ظالم يبطش بشعبه وينتشر الظلم والفقر بينهم. وتقول ابنته «جينا» أن الملك فاروق منح البكوية ليوسف وهبي ولم يمنحها للريحاني بسبب غضبه عليه بسبب آرائه الوطنية.

ذهب الريحاني في رحلة عروض إلى لبنان لزيادة إيراداته وهناك التقى بـ «بديعة مصابني»، ورَجع بها إلى مصر كواحدة من فرقته. وفي سنة 1921 تدهورت حالة الريحاني كثيرا ودخل في مشاكل مادية، وقد اختفى أخوه الأصغر وماتت والدته حتى أنه فكر في اعتزال المسرح حتى التقى بـ يوسف وهبي، وهنا رجع مرة أخرى، وأخد نجمه يصعد تارةً ويخفت تارةً أخرى. وتقل الإيرادات، فيضطر إلي السفر إلى أمريكا الجنوبية، وخيرته بديعة أنه إن أراد أن تذهب معه أن يتزوجها، وتقول ابنته جينا في إحدي البرامج أن الريحاني أحب بديعة وأنها لم تكن علاقة من أجل العمل فقط. ذهبا معًا وانفصلا بشكل جسدي -بدون طلاق- ومن ثَم تزوج من «لوسي دي فرناي»، وهي عضوة استعراضية بفرقته، وأنجب منها «جينا»، ولم يُكتشف ذلك حينها لأنه كان من الممنوع أن تتزوج امرأة ألمانية إلى غير ألماني، فادَّعت أنها متزوجة من ضابط ألماني، وكانت تتردد على مصر مع ابنته لقضاء بعض الوقت معه.

يرثي الريحاني نفسه قبل وفاته بحوالي 15 يوما، ويكتب:

مات نجيب؛ مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب. مات نجيب الذى لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب. مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق، ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح. مات الريحاني.. في 60 ألف سلامة.

يصاب الريحاني بالتيفود، ويطلب رئيس الوزراء، النحاس باشا، المصل من الخارج. بالفعل يُحضِر المصل، ولكن حالته كانت قد تفاقمت كثيرًا، يقال أن ذلك كان بسبب الإهمال الطبي؛ ليتوفى بجانب زوجته وابنته، ويحضر جنازته آلاف.

المراجع
  1. مذكرات نجيب الريحاني
  2. مسلسل إذاعي عن قصة حياة نجيب الريحاني كتابة محمود السعدني
  3. لقاءات ابنته «جينا» التلفزيونية
  4. تسجيل مع الفنانة بديعة مصابني