تثير عمليات الاعتقال والتوقيف التي تنفذها الحكومة التركية عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة لعدد كبير من العسكريين ورجال الشرطة والقضاة والموظفين المدنيين، تساؤلات وانتقادات عربية وغربية حول أحقية الحكومة التركية المنتخبة بالقيام باعتقالات تجاوزت حدود المعقول مما يوحى بأنها فرصة لتصفية الخصوم. وكانت السلطات التركية عزلت وأوقفت آلافًا عن العمل تجاوز عددهم خمسين ألفًا إلى الآن، في إطار التحقيقات التي أعقبت المحاولة الانقلابية. فإذا كانت عمليات الاعتقال والإقالات داخل المؤسسة العسكرية مبررة بعد أيام فقط من المحاولة الانقلابية وفي ظل الخطر المحتمل لوجود محاولات أخرى من المنتمين لجماعة فتح الله كولن، أو ما يطلق عليها التنظيم الموازي، فإن البعض انتقد بشدة توقيف وعزل المدنيين المنتمين لجماعة كولن من أكاديميين ومدرّسين وقضاة حتى وإن لم يثبت تورطهم فعليًا في محاولة الانقلاب، فهم يرون أن التوقيف والعزل من المناصب لمجرد الانتماء لجماعة الخدمة منافٍ لمبادئ الحرية والديمقراطية، ولا يعطي الحق للحكومة التركية، وإن كانت منتخبة، في القيام بذلك!.

دعنا من تصريحات المسؤولين الغربيين في انتقاد الحكومة التركية في ظل تحيزهم وتعبيرهم الواضح عن خيبة أملهم في فشل الانقلاب وفي ظل ازدواجية موقفهم من إعلان حالة الطوارئ في كل من فرنسا وتركيا، رغم أن الأخيرة شهدت ما هو أخطر بكثير مما واجهته فرنسا وهو انقلاب عسكري دموي كاد يطيح بمستقبل البلاد وازدهار اقتصادها وأن يدخلها في سيناريو الحرب الأهلية، كما أن إعلان حالة الطوارئ في الحالة التركية تم بموافقة البرلمان بأغلبية من نواب حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية. ولنتحدث عن عمليات التطهير والاعتقالات من الناحية الأخلاقية ومن ناحية ما تقتضيه المصلحة العامة للشعب التركي لحماية حقه في الاختيار الحر لمن يحكمه.

جماعة كولن، أو ما يطلق عليه اسم «الكيان الموازي»، كانت حتى وقت قريب حليفًا لحكومة حزب العدالة والتنمية التي يقودها أردوغان، وكان لديها نواب في البرلمان، بدعم من حزب العدالة والتنمية. استطاعت الحركة التمدد داخل الدولة والوصول لمستويات مهمة في الوزارات، مكنت الجماعة من الدفع بكوادرها في المراكز الهامة في الجيش والوزارات خاصة الشرطة والقضاء والتعليم، وبدأت تظهر الخلافات بينهم وبين الحزب الحاكم بوضوح في ملفات مركزية ومصيرية، وبدأت الحركة من خلال كوادرها داخل الدولة بإعاقة تنفيذ الحزب لقراراته وإستراتيجياته التي تراها مخالفة لها، كان أهمها رفضهم لهاكان فيدان رئيس الاستخبارات؛ لأنه تخلص من العناصر المنتمين للتنظيم الموازي داخل جهاز الاستخابرات. وساءت الأمور عندما أصبح للجماعة حلفاء في الخارج، غير راضين عن السياسات الخارجية للعدالة والتنمية من مختلف القضايا الإقليمية والدولية، بمعنى أن هناك تآمرًا تكشّفت فصوله سابقًا ولاحقًا.


جذور العملية الانقلابية وما سبقها من صدامات

1- تمكنت الجماعة عام 2012 عن طريق المدعي العام “صدر الدين صاري قايا” الذي تبين فيما بعد أنه مرتبط بها من إصدار أمر باعتقال رئيس المخابرات العامة هاكان فيدان بتهمة إجراء اتصالات مع بي كي كي، للبدء بعملية سلام مع الأكراد، ووجهت له تهمة التفاوض مع أعداء الوطن، وتجاوز صلاحياته. وقد كانت محاولة جماعة غولن هذه عرقلة للمفاوضات التي يجريها، وبهذه العرقلة تخدم مصالح جهات خارجية تريد استمرار المشكلة الكردية. وقد أعلن رئيس الوزراء يومئذ رجب طيب أردوغان أن المفاوضات بدأت بأمر منه، وتم إصدار قانون لحماية مدير الاستخبارات من الاعتقال، وصدق عليه الرئيس جول.

2- شهد عام 2014 أول محاولة جادة للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية سميت بالانقلاب القضائي الناعم، حيث قام المدعي العام المنتمي للجماعة بإصدار أوامر اعتقال لـ 52 شخصًا من رجال أعمال وبيروقراطيين من بينهم ثلاثة من أبناء الوزراء في حكومة أردوغان (وزارات الاقتصاد والداخلية والبيئة). قام بتنفيذ أوامر الاعتقال عناصر من الشرطة تدين بالولاء للجماعة دون عِلم السلطات العليا بمن فيهم وزير الداخلية بهدف إحراج الحكومة واتهامها بالفساد المالي قبل الانتخابات البلدية. قام أردوغان بتغيير وزاري لإقالة الوزراء الثلاثة!، لكن وزير الداخلية بقي فى منصبه أيامًا قبل الإقالة قام خلالها بعزل كل عناصر الشرطة الذين قاموا بتنفيذ أوامر الاعتقال دون الرجوع للسلطات العليا، في عملية تطهير شاملة لجهاز الشرطة من جماعة كولن.

3- نشرت الصحف التركية في فبراير 2014 أخبارًا عن عمليات تنصت واسعة لاتصالات هاتفية أجراها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ورئيس جهاز الاستخبارات وعدة صحافيين وآلاف الأشخاص الآخرين من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين من الحكومة والمعارضة على مدى ثلاث سنوات، وذكرت أن الهواتف النقالة لهذه الشخصيات أخضعت للتنصت بناء على أمر من مسؤولين في الشرطة أو القضاء القريبين من جمعية الداعية الإسلامي فتح الله كولن.


بعض مما كشفته التحقيقات عن جماعة كولن

أما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، فأثبتت الأحداث والتحقيقات أن أفرادًا في مؤسسات عسكرية وغير عسكرية ضالعون في الانقلاب الفاشل، ونشرت الصحف اعترافات المعاون (يافارجي) لرئيس الأركان التركي بأنه عضو في التنظيم الموازي، وأكّد أنّه دخل إلى امتحان الثانوية العسكرية عام 1989، وأنّ عددًا من عناصر المنظمة قدموا له الأسئلة ليلة الامتحان، ثم ارتقى ليصل لرتبة معاون رئيس الأركان، وأنه تجسس على كل اتصالات رئاسة الأركان وأنه سلمها لمسؤولين مدنيين في الجماعة.

أما صحيفة «صباح» فقد نشرت فضيحة أن حركة فتح الله كولن (المصادر، 6) كانت تسرّب امتحانات القبول في الوظائف الحكومية التركية إلى أعضائها حتى تضمن نجاحهم وسيطرتهم على الجهاز البيروقراطي والوظائف الهامة في الدولة، وعرضت الصحيفة نفسها بعض الأدلة على تغلغل -ما يعرف- بالتنظيم الموازي في القوات المسلحة التركية، ونقلت اعترافات منسوبة إلى القائد السابق للتدريب بوحدات المشاة في الجيش التركي اللواء المعتقل فاتح جلال الدين ضياف قال فيها إنه أمضى عشر سنوات ينفذ تعليمات قيادة جماعة كولن خلال خدمته بالجيش، وإنه شارك خلال ذلك في لقاءات للجماعة داخل تركيا وخارجها.

كما عثر على أوراق مع القضاة المنتمين لجماعة كولن فيها خطط ما سوف يتم تنفيذه فى حالة نجاح الانقلاب؛ أي أن هناك تنظيم سري يسعي للسيطرة على الدولة بأساليب غير مشروعة، ويحاول عرقلة السلطة المنتخبة وفرض أجندته عليها. وأخيرًا حاول الانقلاب بالقوة العسكرية باستخدام أفراده المدنيين والعسكريين.


الرأي العام تجاه عملية التطهير

المؤشرات تقول إن أردوغان يحظى بتأييد واسع من المعارضة لتطهير مؤسسات الدولة من المنتمين للتنظيم الموازي، طالما اقتصرت عمليات التوقيف والعزل (وهي مؤقتة وفق القانون إلى أن تصدر المحكمة قرارًا) على من يثبت انتماؤه لها أو ضلوعه في المحاولة الانقلابية. أحمد هاكان، أشهر الكتاب الصحفيين المعارضين في تركيا، نشر مقالاً فى حرييت (المصادر، 1) قال فيه: «إن أهم ما كشفته المحاولة الانقلابية هو خطأ من كانوا يقولون بعدم صحة ما تدعيه الحكومة من تغلغل جماعة كولن في الجيش، وخطأ من لم يصدق حديث أردوغان عن وجود خلايا لجماعة كولن في كل مفاصل الدولة مستعدة للقيام بتصرفات انتحارية في أي وقت. وكشفت صحة القول بإن تركيا في حاجة إلى نضال طويل لأجل القضاء على هذه الجماعة».

فالاعتقالات والتوقيفات الجارية في تركيا عقب المحاولة الانقلابية هدفها الحسم النهائي حتى تتأكد الحكومة من انتهاء عصر الانقلابات العسكرية، وهي كسلطة منتخبة من حقها اتخاذ كافة الإجراءات ضد الانقلابيين ضمن القانون بعيدًا عن أي وازع انتقامي، وهو ما يحدث بالفعل. فحتى كتابة هذه السطور تم الإفراج عن 1200 جندي ممكن شاركوا فى الانقلاب بعد أن أثبتت التحقيقات أنهم خدعوا من قادتهم ولم يتورطوا في إطلاق النار على المتظاهرين. كذلك تم الإفراج عن أحد الصحفيين، أورهان كمال جينكيز الذي لم تكن لديه أي علاقة دينية بجماعة كولن، قد أفرج عنه بعد احتجازه لمدة ثلاثة أيام.

ورغم هذا الدعم الواسع لما تتخذه حكومة العدالة والتنمية من إجراءات ضد جماعة كولن، إلا أن البعض حذر من أن عمليات الاعتقال للمدنيين منهم، وهم محقون فى ذلك؛ فالانتماء لجماعة كولن ليس جريمة في حد ذاته لكن من حق الدولة التركية أن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية نفسها ضد أي أخطار مقبلة، وفي ضوء ما ترتب على فضيحة وصولهم للمناصب الهامة بطرق غير مشروعة بعزل من يثبت انتماؤه منهم وإقالتهم من مناصبهم. يؤيد هذا الرأي الكاتب العلماني علي بايرام أوغلو الذي كتب: «لا مفر من تخفيض درجات الموظفين الحكوميين الذين تتوافر حولهم شبهات جدية بأنهم أعضاء في جماعة كولن أو إقالتهم من وظائفهم، وإصدار تشريع بذلك سيكون في نهاية الأمر مسألة طبيعية. لكن هذا المنطق لا يمكن استخدامه في المقاضاة».

أما المنتقدون لضخامة عدد الموقوفين والمعتقلين خلال عمليات التطهير التي تقوم بها تركيا تجاه الانقلابيين، فهذه تذكرة بضحايا وجرائم انقلاب عام 1980 وهو واحد من أصل أربعة انقلابات حدثت في تركيا خلال نصف قرن، قام به الجنرال كنعان إفرين مع مجموعة من الجنرالات، وحصاد السنوات الثلاث لحكم إفرين ما يلي:

  • اعتقال 650,000 ومحاكمة 230,000 مواطن.
  • أصدار 517 حكمًا بالإعدام تم تنفيذ 50 منهم.
  • تم تسجيل 299 حالة وفاة بسبب التعذيب.
  • انتحار 43 شخصًا وقتل 16 أثناء هروبهم.
  • اعتبار الآلاف في عداد المفقودين.
  • إقالة 3654 مدرسا و47 قاضيًا و120 أستاذًا جامعيًا.
  • فرار 30 ألف من المعارضين والمفكرين وطلبوا حق اللجوء السياسي خارج تركيا.

يقول الكاتب مصطفى أيكول في مقاله فى المونيتور: «كانت مؤامرة انقلاب 15 تموز، كما يقال، أكبر اعتداء شهدته الدولة التركية منذ تأسيسها في عام 1932 .لم يحدث في أي انقلاب سابق أو في أي محاولة انقلابية أن قصف برلمان الأمة أو سحقت الدبابات المواطنين. وعلاوة على ذلك فإن رئيس الأركان، والاستخبارات الوطنية، وجميع أحزاب المعارضة الرئيسية، والاتجاه السائد في وسائل الإعلام العلمانية، وكثير من الصحفيين المعارضين لأردوغان، ومعظم المنظمات غير الحكومية تتفق جميعًا، وليس الحكومة فقط، على أن الانقلاب كان عملية دبرها أتباع كولن في محاولة أخيرة لإسقاط أردوغان، وأن هذا التوافق الوطني الموجود في تركيا لا ينعكس في وسائل الإعلام الغربية لأن كثيرًا من الصحفيين الغربيين يواصلون الاعتقاد بأن المشكلة الوحيدة في تركيا يجب أن تكون أردوغان».

المراجع
  1. Darbecilerin 10 salaklığı (مقال للكاتب أحمد هاكان في جريدة حرييت التركية المعارضة)
  2. Gülen ‘first recipient’ of leaked Turkish civil servant exam questions
  3. New wave of detentions in Gülen-linked KPSS mass cheating scandal
  4. إسماعيل باشا: تركيا.. صراع بين الحكومة والجماعة، الجزيرة
  5. المشهد التركي.. أسير خلاف أردوغان-كولن (مصر العربية)
  6. تحقيقات تكشف عن عمليات تنصت ضد زوجة رئيس الوزراء التركي
  7. صحف: عمليات تنصت طالت أردوغان