تنشّأت نوّيات العمل المقاوم العنفيّ، المسلّح، من ردّة فعل المجتمعات المنتفضة على القمع والتقتيل الوحشيّين المتصاعدين المتوسّعين، ومن إدراكٍ عميقٍ قارٍّ في ضمير السوريّين تغذيّه خبرات أليمة سابقة، وجارية، مفادها أنّ مثل هذا النظام لا حلّ له إلّا القوّة؛ حيث لا منافذ في النظام البليد لأيّ فاعل يريد أن يصلح أو يغيّر، ولا نقاط ارتكاز لأيّ عمليّة من داخله أو من خارجه قد تبتغي تبديله أو تعديله، ومن حالة «فزعات» حافزها أخلاقٌ مكنونةٌ في مجتمعات متماسكةٍ بناها التحتيّة والقبْليّة، من هول أنباء ومشاهد التنكيل الإرهابيّة الصادمة التي يسرّبها النظام، أو تتسرّب وتفضح، ليقمع ويُخضِع ويُهين، و«الفزْعة» هي النخوة والشجاعة والصدور للدفاع عن المُعتدى عليه دون رجاءٍ في منفعةٍ أو نوال.


(5)

إلى يومِ ظهور المقدّم حسين الهرموش شاهرًا بطولته وهوّيته، معلنًا انشقاقه عن جيش نظام الأسد، وعزمه حماية المظاهرات والدفاع عن المدنيّين، كما قال في بيانه؛ ظلّت ردود الفعل العنيفة على ممارسات القمع والقتل غير العاديّة وغير المسبوقة، والتي لا تصنّف بأيّ حال من الأحوال كممارسات فضّ تجمّعات، ولا قمع عاديّة ممّا يُتصوّر وقوعه حيال أوضاع مشابهة؛ ظلّت الردود متفرقّة فراديّة متوقّعة في سياق ثورة شعبيّة لا تتعرّض لمعشار هذا العنف، وظلّت الشعارات والمظاهر الاحتجاجيّة والاعتصاميّة تتحلّى بقدرٍ كبيرٍ، لا من ضبط النفس، بل من الفكاهة والفرح والغناء والمزاح، وهذا يعرفه أيّ واحدٍ عاش الحدث أو عايشه، أو يقرأ هذا النصّ، أو غيره، ويستمع لمئات آلاف الشهادات من سوريّين حول قصصهم مع الثورة، أو يزور موقع يوتيوب ليشاهد بموضوعيّة سيلًا من هذه المظاهر المعبّرة عن المشهد العام ذي الصبغة السابغة لمظاهرات العام الأوّل وحتى النصف الثاني من عام 2012، لا ليلاحق كالبوم والغراب ما يناسب ضميره السقيم الموافقِ لضمير سلطةٍ وإعلامٍ مثل سلطة وإعلام نظام الأسد.

وإذْ قد شعر نظام الأسد بفقدان هيبته على نحو مترقّ متناسب طردًا مع تدفّق الناس إلى الشارع، ما يشكّل حسمًا من سلطته بدايةً؛ فلقد عمل على تصعيد العنف كمعاوضة، معتمدًا في واقع الأمر على ذاكرة الخوف في رؤوس السوريّين من مفاعيل مجازر سابقة وسجون قائمة ومشاهد تعذيب قديمة، صعدّه تصعيدًا لينشطّ هذه الذاكرة، وأظنّ أنّ قيادات النظام وجدوا أنفسهم في مأزقٍ واضطرابٍ قلقيّ الطابع، أمامهم تجربةُ مصر وتونس والزمن المتغيّر، وخلفهم سيرة طويلة من المجازر والقمع منذ ما قبل مجزرة حماة، وهذا المأزق ليس قيميًّا، وإنّما يتمثل بالخيبة البدئيّة لاختراق حاجز الخوف السميك، وفشل شبكة المخابرات في الوقاية من التحرّك الكاسر للهيبة.

لا مجال للإسهاب هنا في معالجة المكانزمات المتعلّقة بهذا الموضوع، لكنّي أريد لأوضّح طبيعة استهلال واحدة من أشدّ المجازر توحّشًا في التاريخ، والمستمّرة منذ سنوات. وهنا، وإذ يبدو لي ما تذهب إليه حنّة آرندت في أنّ حضور العنف كليًّا يعني غياب السلطة رأيًا معتبرًا لجهة تفسير مأزق النظام، مع إضافتي لـ «عتبة» يكون تحتها تصعيد العنف وتعميمه يصب في تصليب وتوسيع السلطة، وفوقها يصير التناسبُ عكسيًّا، منحناه خفيف الإنحدار. هذا ربّما كان يتعلّق بصراع يعتمل في نفوس رؤوس النظام (ومستشاريه الإيرانيّين) وبين رؤوسهم، وظهر في الشهرين الأوليين على شكل فترات فتور في شدّة القمع وكثافة الرصاص الحيّ، لأنّهم شعروا، عن وعيٍ بما ورد أعلاه أو عن غير وعي، بكارثيّة أن يستخدموا قدرًا هائلًا من العنف ثمّ لا ينفع، لأنّ الزمن تغيّر، وجيل الثورة لا تستحوذ على تصوّراته تجارب الثمانينات لأنّه لم يخبرها إلّا كقصص يسمعها أفراد منه لمامًا.

الحقيقة أن العنصر الأسديّ ينظر للدولة، دولته، كوسيلة قمع وأداة عنف بيد «الطائفة» الحاكمة. فالإبادة التي توجه للمجتمعات المنتفضة قديمة المقدّمات.

في الوقت عينه كانت تدافع العنصر الأسديّ، بصرف النظر عن موقعه من هرم منظومة سلطة العائلة، رغباتٌ مسمومةٌ بالانتقام من مجرّد التحرّك والخروج، رغبات لعينة تعبّر أيضًا عن انتيابات من خوفٍ وقلقٍ وضعفٍ، وتترجم بانفعالات نفسيّة تتفرغ على أجساد المتظاهرين، وكان العنصر يسرّب فيديوهات لذلك، فيما يبدو أنّه توافقٌ لردع الناس، أو انفلاتٌ سلوكيٌّ فرديٌّ مضاف، هذا كان في المرحلة الأولى على أيّ حال، وكان بعض الذين يعتقلون في تلك الفترة يتعرّضون لضرب مبرّحٍ ومهين من عناصر في السجون ثمّ لجلسات تواصل وتوعية قصيرة للتعبير عن أنّ «القيادة» مسيطرة ومنضبطة، ثمّ يفرج عن نسبة غير قليلة. ولمّا لمْ تجدِ هذه الأساليب، وتوسّعت المظاهرات وتولدّت ردّات فعل عكسيّة من المجتمعات المنتفضة متمثلّةً في تجاوز الخوف؛ صار عنف النظام يتصعّد بقفزات لا علاقة لها بإمكانيّة السيطرة على الأوضاع.وفي مرحلة تالية، صار هذا العنف حسمًا من السلطة ولا شكّ، وكان يبدو أنّ صراعًا داخل النظام ودوائره الضيّقة يحتدم حول ضرورة الإفراط بالعنف إلى قدرٍ كبير أو أقلّ. وفي مرحلة ثالثة، أرى أنّ العنف صار انتقاميًّا مدمّرًا للسلطة والهيبة، وصارت تستحوذ على العنصر الأسديّ رغبةٌ منطفئةٌ غير هاجعة بالانتقام على أرضيّة من مشاعر خوف وقلق وكبر متراكبة من أشباح تُقتل ولا تموت.

الحقيقة أن العنصر الأسديّ ينظر للدولة، دولته، كوسيلة قمع وأداة عنف بيد «الطائفة» الحاكمة. فالإبادة التي توجه للمجتمعات المنتفضة قديمة المقدّمات؛ فالأسد الأب نظر إلى الناس العاديين على أنهم «كائنات اقتصادية ولم يخلقوا للسياسة»، كما قال هو نفسه، ولاحظ حنّا بطاطو.

وأنا من الذين يعتقدون أنْ لو كان نظام الأسد أقدر على ضبط عنفه في سياقات مفيدة لناحية إدارة شؤون ديمومة سلطته، مرفقًا ذلك بإجراءات غير عنفيّة؛ لكان حافظ على نفاذيّة أقوى وأوسع وأطول لسلطته خلال طبقات وفئات ومناطق، دون أنْ أستطيع الحكم على المدى البعيد، والذي أقترب في أمره من الرأي القائل بأنّ الثورة أطلقت حدثيّةَ تغير تنقل المجتمع وأنساقه إلى طور آخر. وفي هذا السياق أرى أنّ تدّخل إيران وروسيا، وفي المراحل المتقدّمة، كان يقدّم علاجًا فاشلًا نسبيًّا على هذا المستوى أيضًا، لأنّ هؤلاء أقدر على ضبط نفسهم والتفكير بطرائق عنف مفيدة في السلطة، حيث لا تستحوذ عليهم مشاعر النقص والخوف والقلق التي تعتري العنصر الأسديّ، العلويّ تحديدًا، والتي بدا أنّها ستودي بسلطتهم.


(6)

من غير الطبيعيّ أن لا يحرضّ العنفُ عنفًا مقابلًا، ولو أنّ غاندي في مذهبه اللاعنفيّ واجه غير بريطانيا التي كانت تتجنّب لأسباب عديدة استخدام مطلق العنف لتحصيل قدر ضئيل من السلطة، لو واجه ستالين أو هتلر؛ لما رحل الاستعمار ولوقعت مذبحة فظيعة.
حنّة آرندت

صار نظام الأسد، في عنفه الحاقد المترقّي توحشًّا وفقدانًا لموضوعه، موضوع سلطة الأسد، إلى حالة عنف موجّه إلى مجتمعات ومناطق كبيرة وواسعة خارجة عن سلطته، وصار هدف العنف الانتقام والإبادة لعلّ الانتصار في الحرب يعيده، ولو قوّة احتلال تستند على ما تبقى من موالي الأسد في هذه المناطق، وعلى مرتكزات الماضي البنيويّة والوظيفيّة. وحيال ذلك كانت هذه المجتمعات تنتج مقاوماتها، ومن طبيعة اندلاعها، كان العامل القادح لانتفاضة السوريّين الحادّة عنفٌ حقديّ «فاقد لموضوعه» معبرٌ عن طبيعة العقليّة السائدة في النظام؛ وهو اعتداء أجهزة المخابرات على أطفال واعتقالهم وضربهم وإهانة ذويهم حين طالبوا بالإفراج عنهم، وليس هذا اختصارًا لأسباب ثورة السوريّين كما يرى جماعةٌ، وإنّما هو تكثيفٌ لوصف طبيعة النظام وجوهره؛ وإلّا فإنّ الثورة متعددة عوامل الاندلاع، ومن العوامل المهمّة والرئيسة تشوّف السوريّين للحريّة وتشوقّهم للانعتاق من مثل نظام الأسد.

مثّل العنف بالغ الوحشيّة، والفاقد لموضوعه في سياق السلطة؛ واحدًا من أبرز العوامل المطلقة للثورة الواسعة غير القابلة للتراجع. وبهذا المعنى كانت المظاهرات الكبيرة الأولى، في وجهٍ من وجوهها، حالة مقاومة، توسّعها أخلاق «الفزعات». إنّ مثل هذا العنف الضاري كان يطبق على مجتمعات حال انتفاضها وهي تتذوّق حلاوة الانعتاق والحريّة بعد حالة حرمان لعقود، السعادة والرضى باديةٌ على وجوه الأفراد المتظاهرين، وهذا ما كان يولّد في نفوسهم مشاعر متوثّبة من الفرح ولواعج ملتهبة من الغضب، كانوا في واقع الأمر، وهذا ما لمسته في نفسي وعند غيري، لا يفهمون لماذا تواجه هذه «الحركة الطبيعيّة» بكلّ هذا العنف، ولا يتخيّلون مع الأيام تنكّسهم إلى طورٍ سابق، ولا خسارتهم هذه التجربة المتسّمة بإدراكهم الجديد لأنفسهم فرادى، ولمكانتهم كجماهير، كفاعل سياسيّ، ولشعورهم العارم بالعزّة والكرامة؛ وهذا كلّه طغى، على ما يظهر ، على إحساسهم القديم بانعدام القيمة والنفع، وعلى بلادة الحياة وتعوّقها تحت سلطة صمّاء خرساء بليدة وحاقدة تكمن فيها كرّاهية متنامية بلا انقطاع للأشياء وللأحياء، والتي لا تصبّ، أو قد لا، حتّى في صالح تغوّلها وتأبيدها.

هنا يمكنني القول بدرجة معتبرة من الوثوقيّة بإنّ نشوء حالة المقاومة العنفيّة، وإنْ كانت في المقام الأوّل ردّ فعل لاحقٍ متأخرٍ وغير متناسبٍ على عنف النظام، إلّا إنّها كانت تفعل فيها مفاعيل استباقيّة مردّها إلى وعي جمعيّ بطبيعة النظام الموصوفة والمخبورة، وإدراك لحقيقة أنّ مثل هذا النظام نظامٌ أصمّ لا يتغير وإنّما يسقط، أي أنّ حالة المقاومة، وحالة المقاومة المسلّحة، تغذّت من محفزّات سابقة كانت تلجمّها رغبة جامعة في سلامة الأمور ومراهنة اختباريّة الطابع على قيام النظام بأشياء من تلقاء نفسه، في حين تحفّز قمع النظام بتجارب قمع «ناجحة» سابقة وبمشاعر كراهية وحقد قادمة من الماضي، وبهواجس مخيفة قادمة من المستقبل، وهذا المركّب المرضيّ مثّل قائدًا لعنفه.

كان التظاهرُ، والسلميّ منه، والهتاف والغناء، صورةً مسيطرةً على صفحة المقاومة الأولى، وكما قد بيّنت، استمرّ هذا حتى وقت متقدّم نسبيًّا مهيمنًا وإنْ على نحوٍ منحسر، وخلال الطور الأوّل كان يترافق ذلك مع تصرفات من قبيل نصب الحواجز وإضرام النار في الإطارات واستخدام الحجارة والاشتباك بالأيدي والعصيّ، ومثل هذا يتطّلب قدرًا هائلًا من الشجاعة والإقدام نظرًا لما وصّفته آنفًا، وكما نعجب لبسالة الطليعة المتقدّمة في المظاهرة، أنّ المرء هنا لا يتوقّع غازًا مسيّلًا للدموع ولا رصاصًا مطاطيًّا ولا اعتقالًا مؤقتًّا، بل الرصاص الحيّ والإعدام الميدانيّ بطلقة بالرأس أو بالنحر، أو الضرب الوحشيّ القاتل بالعصيّ عبر تناوب فرق الموت الأسديّة على المتظاهر الأعزل، أو الاختفاء القسريّ في معتقالات الأسد سيئة السمعة، والاعتقالُ بالنسبة للسوريّ القتلُ، أو ما هو أشدّ؛ الموتُ تحت التعذيب؛ سجنُ تدمر وفرعُ فلسطين؛ أنّ المرء يتوقّع كلّ ذلك ويُقدِم…!. ولسبب لا أعرفه، وأتوقّعه بغيضًا، لم تُسمّ الانتفاضة السوريّة بانتفاضة حجارة، مثلًا، على نحوٍ تمجيديّ من قبل فئة من مثقفي العرب وأدبائهم وإعلاميّيهم.

إنّ مثل هذه الخلجات والخبرات، والتي عُبّر عنها بالأحاديث بين الناس وبالهتافات الغاضبة والشاتمة والحزينة والغنائيّة؛ كانت الفارز الأوّل لنويّات حمَلة السلاح الخفيف، والمحرّض لموجات الانشقاقات عن قوى الجيش والمخابرات والشرطة، فالتعطّش للحرية والتعبير عن النفس وشقّ الأغشية الكاتمة للأفراد والمجتمعات ترافقت مع الشعور بحاجّة ماسّة لحماية الفرد من وحشيّة الأسد، الفرد الذي يشعر بقوّته الجديدة نظريًّا وضعفه الماديّ بوقوفه عاريًا أعزلَ أمام دراكولا النظام المنفلت من كلّ القيود الإنسانيّة. وخلال الفئات والطبقات والوحدات الاجتماعيّة كانت تتمايز مثل هذه النويّات تحت ضغط القمع والقتل وما فيه من الحزن على فقدان قريب أو حبيب، والغيظ فالسعي لمحاسبة الفاعل عبر الحسم، إذْ أنّ النظام فاقد لأيّ وسيلة لمحاسبة المجرمين منه، وصار يُرى أنّ محاسبة، ولو فردًا واحدًا منه، ستسرّع من وتيرة خسارته لهيبته وأفراده، وانحلال الثقة به كـ «ذكرٍ قويّ» لحماية الطائفة التي يمثلّها والشبكات والطبقات والفئات المتجمّعة حولها.


(7)

إنّ نشوء حالة المقاومة العنفيّة، وإنْ كان في المقام الأوّل ردّ فعل متأخرٍ على عنف النظام، إلّا إنّه كانأيضا نتاج وعي جمعيّ بطبيعة النظام الموصوفة والمخبورة.
وقت طِلعتْ هاي الأحداث شفنا الظلم بعيّنا، ما حسنّا نسكت، تقتيل أطفال واغتصاب نساء وتهجير، من قرية لقرية. طلعنا ع الظلم، ونزلنا ببواريد الصيد لننهي الظلم.

محمّد قدوّر الشيخ، مقاتل من الثورة (وثائقيّ: أمل الرجوع – بنان للانتاج الفني)

وفي المشهد الاحتفاليّ الذي رافق انشقاق أفراد من الجيش والمخابرات والشرطة في الحالتين المصريّة والتونسيّة كانَ يسودُ اعتقادٌ أو شعور بين السوريّين بأنّه يمثل الفرحة بتوقّع تقوّض النظام نتيجة لتمايز انحيازات مؤسّسات فيه ومنه في سياق الأحداث الجديدة، وذلك بصرف النظر عن موقفنا الآن بعد ما تبيّن صيرورة بعض المسارات، ولم يكنْ هذا هو السائد بينهم حين التحديق عميقًا حيال ما سيحدث لاحقًا في سوريا، حيث أقدّر، بقناعة كافية، أنّ مظاهر الفرحة بموجة الانشقاقات الأولى، وإنْ خلقت أملًا خادعًا بقرب سقوط النظام، إلّا إنّها كانت في كنهها تعبّر عن فرحة بوجود أفراد يقولون أنّهم سيحمون المظاهرات، أي حشود الأفراد، مما يخلق شعورًا بالأمَنَة والأُنس في عالم موحش متوحّش، أكثر ممّا هو إحساسٌ بانحياز الجيش كمؤسّسة وبإمكانيّة دفعه النظام للسقوط، وربّما يعبر عن شعورِ فئة بانحياز أبنائها ممتشقين كلماتهم وأسلحتهم الخفيفة للذود عنهم بعد التطّهر من رجس النظام، وما في ذلك من تأسيس لحالة مقاومة ممكنة في حال المفاصلة.

كانت جماعات السلاح تقف على بعدِ حيّ أو حيّين من مكان التظاهر لتمنع اقتحامات فرق الموت من النيل من المتظاهرين ومن الناس عمومًا في المناطق المنتفضة، أو لتأخرّها ريثما يلوذ الناس ببيوتهم، وهذه الحالة استمرت فترةً طويلة في واقع الأمر، مع تصعيد دائم من نظام الأسد، في العدّة والعتاد، ومع ذلك كان الميل في البداية لتكتيكات الكمائن والغارات والضرب والانسحاب التي تستهدف أرتال الأمن والجيش التاركة مقرّاتها بهدف «تطهير» أو «تطويق» المناطق المنتفضة، وهذا له معنى، ثمّ للتحصّن في البلدات أو القرى أو المناطق أو الأحياء المنتفضة، وذلك في حالات معدودة، وخوض معارك «ضارية»، أكثر من مهاجمة مقارّ أمنيّة، أو قطع عسكريّة، وذلك حتى آواخر 2011.

صرنا إزاء تطوّر حالة مقاومة مسلّحة على نحوٍ متدّرج قافز، وإذْ أنّي أتوّسع في معنى المقاومة ومناطاتها، وأعتبر أنّها حالة تستغرق جميع الأنشطة والحركات. فحالة المقاومة هي عمليّة تخليق وتحفيز وتوظيف مقدّرات قوى أضعف تنظيمًا وتجهيزًا وناصرًا وأقوى إرادة في انتفاضتها على نظام طاغية أو قوّة احتلال بهدف الإخلال بالوضع القائم المرفوض، للوصول إلى إنهائه، وهي حالة منتجة لحركات وتنظيمات تبت مع هذا الوضع، وموجّهة لتصرفاتها.

كان سعي جماعة لتبنّي خيارات سلميّة صافية، وفي مرحلة متقدّمة من عنف نظام الأسد، بدلَ تقديم خطاب يقود العمل المقاوم، كان العامل الأوّل للافتراق السياسيّ العسكريّ الوخيم.

لكن اقتصاري هنا هو على المقاومة العنفيّة بوصفها التمظهر الأقصى بحثيّ الغرض، مع تأكيدي على أنّ الفشل النسبيّ الكبير في تنظيم المقاومة المسلّحة ترافق بفشلٍ على ذات المستوى في جوانب المقاومة الأخرى من حيث التنظيم، وهو بذلك أكثر تقصيرًا لأنّه جانبٌ البذل فيه أقلّ، وبتوصيفي حالة المقاومة لا أبتغي قصر شرعيّة الردّ العنفيّ على الدفاع، وإنّما لأبيّن أنّ الصراع يجري بين قوّتين بينهما فارق هائل في التسلّح والتسليح وفي بقيّة جوانب القوّة الماديّة، وإن كان لا بد من توضيح، فيمكن توصيف الشأن على النحو التالي: تشكلت أولى نويّات العمل العنفيّ بغرض الدفاع عن حوزة الواقع الجديد الذي خلقه العمل السلميّ، وبهدف ترك النسق الآخذ بالتشكّل ينمو، لكنّ الحرب التي أشعلها الطرف الآخر المتربّص والمستعد والمدجج؛ صارت بالعمل العنفيّ إلى حالة مقاومة مجتمعات لحماية وجودها البنيويّ على أرضٍ يكون لها فيها ثقلٌ سياسيّ ومعنى، أرضها، ثمّ صارت إلى حرب تحرّر، ومع تزايد تدّخل قوى كبيرة من الدول ومن منظّمات شبيهة بالدول (روسيا وإيران وحزب الله وملشيات عراقيّة وتنظيم الدولة) صارت حالة المقاومة حرب تحرير ضدّ احتلالات.

في ضوء كلّ ذلك فإنّ سعي جماعة لتبنّي خيارات سلميّة صافية، وفي مرحلة متقدّمة من عنف نظام الأسد ومصيره إلى عنف انتقاميّ ضد مناطق خارج عن سلطته، بدلَ تقديم خطاب يقود العمل المقاوم ويرشّده؛ كان العامل الأوّل للافتراق السياسيّ العسكريّ الوخيم في الحالة السوريّة.

وإذ الأمرُ ثورةٌ شعبيّة متعددة عوامل الاندلاع وغزيرة بؤر الانطلاق فجّرتها قوى كثيرة، هي في ماهيّتها عبارة عن حشود أفراد كبيرة آخذة بالانتظام، ليس ينظمها تنظيمات سياسيّة سابقة، ولا بناها الأوليّة، بسبب حالة التصحّر السياسيّ التي أنتجها نظام الأسد من خلال سياسات مدروسة ومثابرة، عنفيّة وغير عنفيّة؛ فإنّه يصعب عليّ تخيّل تطور سريع لحركة مقاومة جامعة، بما هي بِنى سياسيّة لها نُظُم داخليّة وأهداف موحدّة، ولا تطوّر تنظيمات سياسيّة مناهضة للنسق السياسيّ القائم، وبالتالي كنّا أقرب لحالة مقاومة فارزة لجماعات وفصائل وتشكيلات على المستوى العنفيّ، ولتيّارات وجمعيّات ومنظمّات وأحزاب وهيئات على المسارات الأخرى، وهذا كلّه أخذ بالتخلّق والتطوّر والتمايز تحت ضغط الحرب والإبادة، لا في رحم موفّر لشروط أكثر ملائمة.