فوساكو شيغينوبو، اسم صعب التذكر ولا يحرك في ذاكرة أجيال التسعينيات أو الألفية أي شيء. لكنه كان يعني الكثير لجيل السبعينيات والثمانينيّات. فوساكو التي عادت لواجهة الإعلام العالمي والعربي منذ أيام، بعد إطلاق سراحها، تلّقت ترحيبًا خاصًا من حركة شباب فلسطين، ووصفوها بأنها رفيقة الشعب الفلسطيني مدى الحياة. كما حرصت فوساكو أن تكون أولى إطلالتها بعد الخروج من ظلمات السجن الذي امتد لعشرين عامًا وهي مرتدية الكوفية الفلسطينية الشهيرة.

العجوز البالغة من العمر 76 عامًا عام 2022، كانت المؤسس، والزعيم، لمجموعة يسارية عُرفت عالميًا باسم «الجيش الأحمر». الهدف من المجموعة كان القيام بعمليات هجومية في كافة أنحاء العالم دعمًا للقضية الفلسطينية. كما كانت السيدة تهدف إلى إحداث ثورة اشتراكية عالمية من خلال أعمال هجومية في مختلف الدول. وللهروب من فخ الكلمات فإن الأعمال الهجومية تُوصف أحيانًا بالإرهابية، وأخرى بالنضالية، وتارة بالثورية.

والدها كان رائدًا في الجيش الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن بعد الهزيمة اليابانية والخراب الذي لحق بالدولة، أصبح الرائد بقالًا لا يستطيع أن يوفر الغذاء لأسرته. وُلدت فوساكو في تلك الأزمة الطاحنة، في نفس الشهر الذي أعلنت فيه اليابان استسلامها. شغلها الأبرز هو كيفية النجاة لليوم التالي، هي ووالداها و3 إخوة آخرين. خصوصًا من كون اليابان في تلك الفترة كان مسرحًا للاضطرابات السياسية بسبب حرب الولايات المتحدة في فيتنام، وقيام الحكومة اليابانية بالموافقة على بقاء الجيش الأمريكي في اليابان طوال فترة الحرب.

لم يكن الأمر يشغلها حتى بلغت العشرين من عمرها، في تلك السن الصغيرة صادفت اعتصامًا في إحدى جامعات طوكيو. كان الاعتصام بسبب ارتفاع الرسوم الدراسية في الجامعة. قضية كانت تؤثر عليها بشكل مباشر خصوصًا أنها كانت تعمل في شركة متعددة الجنسيات، كيكومان.

الشركة منحتها عملًا نخبويًا من شأنه أن يؤمن لها مسارًا سهلًا للانضمام لنخبة اليابان المتعلمة والغنية. لكن كان هدفها من العمل هو الحصول على المال اللازم لاستمرار تعليمها في الجامعة. ونجحت في ذلك بحصولها على شهادة مزدوجة في الاقتصاد السياسي والتاريخ.

لا شيء بعيد عن السياسة

عرفت حينها معنى الحركات اليسارية، والنضال الاشتراكي. انخرطت مع الحركات الاحتجاجية لمدة 5 سنوات داخل اليابان. وعرفت زنجاكورن، رابطة الجمعيات الطلابية التي اهتمت في بدايتها على قضايا طلاب الجامعة والفقر وحقوق العمال. لكن لاحقًا تحولت زنجاكورن لليسار الراديكالي. كان الشكل الجديد للجمعية رافضًا للتعاون بين اليابان والولايات المتحدة. كما صار مناهضًا للإمبريالية والرأسمالية.

الحب أساس مشترك … رفاقنا هم العائلة.
من كتاب «قررت أن ألدك تحت شجرة تفاح»

وفي الخامسة والعشرين قررت أن تغادر البلاد، بعد أن أسست جماعتها المسلحة، وترقت داخل صفوف الجيش الأحمر وأصبحت رئيسة مكتب العلاقات الدولية. بينما كان النضال الياباني مركزًا على الوجود الأمريكي في فيتنام، تعرّفت فوساكو على قوميّ عربي في اليابان. ومنه تعرّفت على القضية الفلسطينية وفهمت الصراع العربي الإسرائيلي. لهذا قررت أن تكرس حياتها للنضال لصالح القضية الفلسطينية.

من اليابان إلى لبنان عام 1971. ومن هناك أصبح الجيش الأحمر الياباني متحالفًا ومرتبطًا مع الفلسطينيين في المقاومة المسلحة ضد إسرائيل. ووجهت السيدة نداءها لزملائها في اليابان وغيرها بالتطوع للنضال بجانب الشعب الفلسطيني في أي مجال يستطيعونه.

فبجانب دورها العسكري فقد عملت فوساكو أولًا في مجلة الهدف، في مكتب العلاقات العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان غسان كنفاني، رئيس تحريرها آنذاك. تمكنت عبر وجودها في ذلك المكان أن تنقل الصورة كاملة لنشطاء اليابان، ما ساهم في دعم ياباني كبير للقضية الفلسطينية. وكانت حلقة الوصل بين المتطوعين اليابانيين الذين يذهبون لفلسطين وبين من يستضيفونهم من فلسطين.

الجيش الأحمر يعادي إسرائيل

فكانت فوساكو بذلك مدخلًا عظيمًا استطاعت القضية الفلسطينية أن تنفذ منه لليابان. فجاء الأطباء اليابانيون لمعالجة الناس في مخيمات اللجوء في لبنان. وقام كتّاب اليابان بالكتابة عن شخصيات فلسطينية مثل غسان كنفاني، وترجموا أعمالهم.

 وبذلك بات الجيش الأحمر وأنشطته الإنسانية والأيديولوجية عدوًا لدودًا لإسرائيل. لم يعد الجيش يخيف إسرائيل فحسب، بل صارت كلمة الجيش الأحمر لها وقعها المزلزل في كافة دول العالم. فقد نشط الجيش في عمليات هجومية، إرهابية، من طراز جريء غير تقليدي. فبدأ باختطاف الرهائن، ووصل إلى اختطاف الطائرات. ويُعتقد أن فوساكو هي العقل المدبر وراء الهجوم الدامي على مطار اللد في إسرائيل عام 1972. حدث الهجوم باستخدام الرشاشات والقنابل اليدوية، وأسفر عن مقتل 26 شخصًا، وإصابة 80 آخرين.

ضلوعها في هذا الهجوم يرجع لوجود رفيقها وزميلها في الجيش الأحمر، كوزو أوكاموتو، في ذلك الهجوم. كوزو أصيب بالرصاص الإسرائيلي في تلك العملية، ما مكّن قوات الاحتلال من اعتقاله. وظل سجينًا حتى عام 1985 حيث أُطلق سراحه في عملية تبادل أسرى بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية. لا توجد المزيد من المعلومات حول كوزو حاليًا، ويُقال إنه لم يزل مستقرًا في لبنان، ولا توجد أنباء عن مكان إقامته أو خبر عن وفاته، لكن المؤكد أنه لا يزال على قائمة المطلوبين بالنسبة للحكومة اليابانية.

بعد هجوم اللد بثلاث سنوات أعلن الجيش الأحمر مسئوليته عن الهجوم على القنصلية الأمريكية في العاصمة الماليزية كوالالمبور. نفذت الجماعة عددًا من الهجمات الصغرى، لتعود للواجهة بعملية كبرى عام 1988 عبر تفجير سيارة تابعة لكتيبة عسكرية أمريكية في إيطاليا. وحتى بعد اختفاء الجيش وزعمائه عن المشهد العلني فقد ظل العديد من اليابانيين يدعمونه سرًا.

ثلاثون عامًا تحت الأرض

بعد هجوم إيطاليا، توارت الجماعة عن الأنظار. اختفت فوساكو تمامًا، لم يعد يصدر عنها تصريح أو تتحمل مسئولية عن عملية. ظلت في مخبئها قرابة 12 عامًا، قيل إنها كانت تعمل فيهم عاملةً في شركة لصناعة صلصة الصويا. وفي عام 2000 ألقت السلطات اليابانية القبض عليها، بعد إجمالي 30 عامًا من الاختباء في الشرق الأوسط.

حُكم على فوساكا بالسجن 20 عامًا منذ عام 2006. الحادثة التي أصدرت المحكمة قرارها بناء عليها لم تكن السيدة مشاركة فيها، لكن المحكمة رأت أنها من نسقت العملية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد أصدر الإنتربول مذكرةً باعتقالها بعد أن قال الرهائن زورًا بأنها كانت من ضمن الثلاثة الذين تواجدوا في مقر السفارة. ورغم أن الرهائن سحبوا شهادتهم لاحقًا، فإن الإنتربول تمسك بمذكرته واستمر في ملاحقتها.

 العملية المقصودة كانت حصار السفارة الفرنسية في هولندا. في تلك العملية اقتحم ثلاثة مهاجمين من الجيش الأحمر سفارة فرنسا، واحتجزوا السفير و10 موظفين كانوا متواجدين في السفارة لحظة الهجوم. استمر الاحتجاز لـ 4 أيام، أصابوا فيهم ضابطي شرطة. وقررت فرنسا في النهاية الرضوخ لمطالبهم بإطلاق سراح أحد أفراد الجيش الأحمر، وفي المقابل فكّ الثلاثة حصارهم عن السفارة. ثم التقى العضو المُحرر مع الخاطفين الثلاثة وحصلوا على طائرة نقلتهم لسوريا.

لم تكن محاكمة فوساكو عادلة تمامًا، فلم يقدم الادعاء أي دليل على ارتباطها بأي من الجرائم المنسوبة لها. واعتمدت المحكمة بشكل أساسي على شهادة اثنين من الجيش الأحمر أدانا فيها السيدة. لكن الشاهدين أكدا أمام المحكمة تعرضهما للتعذيب لانتزاع تلك الاعترافات.

اعتذار للإنسانية

بعد عام من اعتقالها أعلنت السيدة حل الجيش الأحمر من داخل محبسها. ثم في عام 2008 تم تشخيصها بسرطان الأمعاء والقولون. تدهورت حالتها الصحية، وخضعت للعديد من العمليات الجراحية، توقع العديدون وفاتها على إثر الإصابة لكنها صمدت حتى قضت فترة عقوبتها كاملة. وفي عام 2017 وجهت فوساكا رسالة إلى مجلة يابان تايمز قالت فيها إن جماعتها لم تحقق أهدافها، وإن نهاية الجيش الأحمر كانت نهاية قبيحة، على حد وصفها.

في شهور سجنها الأولى كتبت فوساكو على أوراق كانت تجدها في الزنزانة حكايات عنها وعن ابنتها، ماي شيغينوبو. فقد تزوجت من قيادي عسكري في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أثناء وجودها في لبنان. أنجبت منه بنتًا سمتها ماي، نسبة إلى شهر مايو الذي حدثت فيه عملية اللد.

كتبت تلك الأوراق كأم فحسب، وصفت فيها حياتها مع ابنتها، التي كانت في الغالب حياة سريةً بعيدًا عن أنظار الجميع. نُشرت تلك الأوراق في كتاب عام 2001 تحت عنوان، قررت أن ألدكِ تحت شجرة تفاح. وكان الكتاب هو باكورة الكتب التي بدأت بنشرها من السجن.

وظلت تتواصل مع العالم الخارجي عبر ابنتها، لكن لم تحظَ بتغطية إعلامية كافية حتى لحظة خروجها الأيام الماضية. وآخر ما قالته للعالم كان لحظة خروجها من السجن. اعتذرت عن الإزعاج الذي تسبب فيه اعتقالها للكثير من الناس. وقالت أيضًا بأنها وجيشها ألحقوا الضرر بأشخاص أبرياء لا يعرفونهم عبر إعطاء الأولوية للمعركة، مثل احتجاز الرهائن.