منذ اللحظات الأولى لمقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد، سلطت المحطات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة الضوء على شخص الضحية واسمه، في سابقة تبدو استثنائية في سياق تغطية جرائم العنصرية وانتهاكات الشرطة العديدة ضد المواطنين ذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو تحول معه فلويد إلى أيقونة اختصرت سجلاً حافلاً من الاضطهاد والمظالم للعنصر الأسود والأقليات في أمريكا.

تجتمع في حدث مقتل فلويد عدة عناصر، كالتي اجتمعت في حدث مقتل خالد سعيد في مصر، ومحمد البوعزيزي في تونس، اللذين تحولا إلى شرارة الثورة المصرية والتونسية، ومن ثم الربيع العربي وثوراته التي أطاحت وهزت استقرار العديد من الأنظمة السياسية في المنطقة.

فهل سيولد هذا الحدث «أثر الفراشة» ذاته في الولايات المتحدة الأمريكية، ويكون بمثابة القطرة التي ستفيض كأس المظالم العرقية المترعة هناك؟

أمة سوداء وأمة بيضاء

يقول رضا هلال الكاتب الصحفي المصري الذي أقام لفترة في الولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه «تفكيك أمريكا» الصادرة طبعته الأولى في القاهرة عام 1998، إن التفرقة العنصرية بين البيض والسود كانت دومًا معضلة الحلم الأمريكي، الذي دشنته وثيقة «إعلان الاستقلال» ، ودستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تؤكد نصوصه على أن جميع البشر يولدون متساويين، وأن خالقهم منحهم حقوقًا ثابتة منها حق الحياة والحرية والبحث عن السعادة.

منذ البداية، كان من الواضح أن العنصر الأسود في الولايات المتحدة، ليس معنيًا بتلك المواد الدستورية التي تقرر المساواة بين جميع البشر، حيث قضت المحكمة العليا الأمريكية في عام 1857 أن السود غير مخاطبين بوثيقة إعلان الاستقلال التي كفلت مبدأ المساواة بين جميع البشر، إذ قال قاضي المحكمة العليا إن السود عند وضع الدستور والموافقة عليه، كانوا يعدون كائنات من مرتبة دنيا تنحدر إلى مستوى ليس لهم فيه أي حق يلزم المواطنين البيض باحترامه، وقال القاضي أيضًا إن المحكمة العليا تتقيد بأحكام الدستور الذي يضمن للمواطنين حقوقهم في الملكية التي تشمل حق ملكية الأراضي وحق ملكية العبيد.

رغم هزيمة الولايات الجنوبية في الحرب الأهلية، التي اندلعت بسبب خلاف تلك الولايات مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن بقيادة الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن حول قضية إلغاء العبودية، إلا أن مشرعيها بعد ذلك، أصدروا قوانين تفرغ مضمون التعديل الدستوري الـ14 و الـ15 من دستور الولايات المتحدة الأمريكية، التي تضمن حقوق المواطن الأسود في المحاكمة القانونية وفي التصويت والانتخاب.

يقول هلال إن التعديلات الدستورية وأحكام المحكمة العليا في أمريكا استهدفت «المساواة» بين السود والبيض، لكن الهدف ظل هو المساواة مع الفصل، ما ظهر بوضوح في أحكام المحكمة العليا الأمريكية عام 1896، التي حكمت بأن السود والبيض ينبغي أن يكونوا منفصلين ولكن متساويين، وقد استمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1954 الذي شهد إلغاء التمييز العنصري في المدارس.

لم ينهِ قرار المحكمة العليا بإلغاء الفصل العنصري في المدارس، مظاهر التمييز العنصري الأخرى السائدة في كل مكان، إذ ظل الفصل قائمًا في الحافلات والمطاعم والحانات. وفي هذا السياق، حدثت الكثير من المواقف المذلة تعرض لها المواطنون السود؛ وعلى إثرها انطلقت احتجاجات حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج، التي ظلت تتصاعد حتى أدت إلى صدور قانون الحقوق المدنية الأمريكية في عام 1968، وهو العام نفسه الذي شهد مصرع كينج إثر حادث اغتيال.

رغم صدور قانون الحقوق المدنية الذي حقق المساواة القانونية بين المواطنين السود والبيض في الولايات المتحدة، ما تزال آثار الفصل العنصري مستمرة في أمريكا حتى اليوم، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وما يزال السود ينعزلون في مناطق وأحياء خاصة على امتداد الولايات المتحدة، كحي«هارلم» الشهير في نيويورك، ومونت كلير (نيوجيرسي)، ورستون (فيرجينيا) ويونيفرستي بارك (الينوي).

يمتد الفصل أيضًا من الجيتو السكني إلى الوظائف، حيث يعمل السود بنسبة كبيرة في الوظائف الأقل أجرًا. وتمثل إحصائيات الوفاة في الولايات المتحدة جراء الحوادث والأمراض الفيروسية كمرض الإيدز في تسعينيات القرن الماضي، سبعة وثلاثة أضعاف على التوالي نظرائهم من البيض.

كما يقدم رضا هلال في كتابه عددًا من الإحصائيات القضائية من عام 1993، تعطينا لمحة عن مستوى العنف القائم بين السود والبيض، الناجم عن أوضاع التمييز التاريخية في أمريكا، إذ بلغت جرائم العنف العنصري 627759 جريمة، بينها 481470 جريمة اعتداء، 174955 جريمة سرقة، و20304 جريمة اغتصاب.

جماعات متطرفة من كل لون

تعد جماعة الكوكلوكس كلان (KKK) أبرز الجماعات العنصرية المؤمنة بتفوق وسيادة العرق الأبيض في أمريكا. تأسست تلك الجماعة من خلال مجموعة من الضباط الكونفدراليين السابقين في ولاية تينسي عام 1866 عقب نهاية الحرب الأهلية.

عناصر من جماعة الكوكلوكس كلان العنصرية
عناصر من جماعة الكوكلوكس كلان العنصرية

مارست جماعة الكوكلوكس كلان عنفًا منهجيًا ومنظمًا ضد الأقليات في الولايات المتحدة، بخاصة ضد الأمريكيين من أصل أفريقي، ما تسبب في حملة كبيرها ضد أنشطتها التي تراجعت بشدة في سبعينيات القرن التاسع عشر، بعد حملة الرئيس الأمريكي أوليسيس جرانت عليها.

رغم حظر أنشطتها، ورغم الملاحقات القانونية التي تعرضت لها تلك المنظمة من قبل السلطات الفيدرالية، تحولت جماعة الكوكلوكس كلان في التاريخ الأمريكي المعاصر إلى فكرة لا تموت، وصارت بمثابة جماعة أم فرخت مختلف جماعات العنصرية المؤمنة بسيادة وتفوق العرق الأبيض في أمريكا.

على صعيد المواطنين الأمريكيين من أصل أفريقي، نشأت عنصرية سوداء مضادة، كان أبرز تجلياتها حركة «أمة الإسلام» التي نشأت في ديترويت ميتشيغن بولاية شيكاغو الأمريكية، التي كان من أبرز رموزها الزعيم الأمريكي الأسود الشهير مالكوم ماكس قبل أن ينفصل عنها ويتحول إلى الإسلام السني.

عقب اغتيال مالكوم إكس في عام 1965، تأسست جماعة تدعى حركة‏ «الفهود السود» (Black Panther) تؤمن بالعنف وتتبنى فكرة حمل السلاح للدفاع عن المواطنين السود ضد عنف الشرطة الأمريكية.

عناصر مسلحة من جماعة الفهود السوداء في أمريكا
عناصر مسلحة من جماعة الفهود السوداء في أمريكا

رغم وجود الكثير من نجوم الغناء والتمثيل والرياضة في الولايات المتحدة من ذوي البشرة السمراء، ووصول (باراك أوباما) أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي إلى سدة الحكم هناك،ما يزال التوتر هو السمة الرئيسية في العلاقة بين السود والبيض على الصعيد الاجتماعي، ونقطة الضعف القاتلة في البناء الاجتماعي والسياسي لأمريكا، وكأنها لعنة أبدية لميراث العبودية التاريخي في الجنوب الأمريكي.

جورج فلويد: القطرة التي أفاضت الكأس

في عام 2013، بعد تبرئة الشرطي جورج زيمرمان في حادث إطلاق النار على مراهق أمريكي من أصل أفريقي (Trayvon Martin) في فبراير 2012، ظهر هاشتاج #BlackLivesMatter على وسائل التواصل الاجتماعي، اندلعت على إثرها احتجاجات واسعة، خرجت من بعدها إلى حيز الوجود، حركة BlackLivesMatter أو «حياة السود مهمة»، كشبكة لا مركزية ينعدم فيها التسلسل القيادي الهرمي.

مع تكرار انتهاكات عناصر الشرطة الأمريكية ضد المواطنين السود، ومع تكرار الاحتجاجات عقب حوادث العنف العنصري المختلفة، لعبت حركة BlackLivesMatter دورًا مشهودًا في الاحتجاجات، ومن ثم تحولت إلى ما يشبه حركة حقوق مدنية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.

لا يمكن فهم طبيعة الحركة الاحتجاجية الواسعة التي اندلعت بعد مقتل فلويد أيضًا، في سياق المشكلة العرقية المزمنة في الولايات المتحدة وحسب، ولكن يجب كذلك أن نضع في عين الحسبان حالة الاستقطاب السياسي الحاد في المجتمع الأمريكي خلال فترة إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب.

فمنذ المعركة الانتخابية الشرسة في عام 2106 بين ترامب وهيلاري كيلنتون، انقسم المجتمع السياسي الأمريكي انقسامًا عموديًا على نحو غير تقليدي، وتحول المجال العام في الولايات المتحدة إلى ساحة معركة إعلامية وقضائية وسياسية، شهدنا وقائعها من خلال التراشقات المستمرة بين ترامب ووسائل الإعلام الرئيسية في البلاد، ومن خلال تحقيقات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، ومن خلال محاولة عزل ترامب الفاشلة عبر الكونجرس.

والآن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واندلاع جائحة كورونا، التي انقسم فيها اليمين واليسار في أمريكا حول سياسات التعامل معها إلى درجة نزول متظاهرين مؤيدين لترامب حاملين السلاح في شوارع بعض مدن الولايات الأمريكية، جاء مصرع فلويد، ليفجر كل الخلافات والتناقضات الكامنة بين اليمين الشعبوي والديني والمحافظ، وبين يسار الحزب الديموقراطي ومجموعات الصوابية السياسية وحركات احتجاجية مثل BlackLivesMatter.

يبقى السؤال متروكًا لكي تجيب عنه الأيام والأسابيع المقبلة: هل سيحتوي النظام السياسي الأمريكي ثنائي الحزب (الديموقراطي/الجمهوري) الأزمة الراهنة داخل الإطار السياسي والآليات السياسية التقليدية في الولايات المتحدة، من خلال الانتخابات الرئاسية القادمة بين دونالد ترامب والمرشح الديموقراطي جوزيف بايدن، أم ستخرج الأمور عن السيطرة، وتتحول الاحتجاجات المستمرة حتى يومنا هذا، إلى حرب شوارع دموية متعددة الأطراف، قد تغير وجه الحياة السياسية والاجتماعية على أرض الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد؟