منذ أن قرر الإنسان الأول رفع سلاحه البدائي المرتجل من الهروات والعصي والرماح في وجه أخيه الإنسان، سواء للدفاع عن نفسه أو للاعتداء على الآخر لأي مطامع؛ تحولت صراعاته المسلحة إلى حروب، وتحولت الحروب إلى أنشطة غيرت وجه البشرية بالكامل، وبسبب تلك الصراعات المسلحة تطورت حاسة الابتكار لدى الإنسان بدافع البقاء أولاً، وبدافع التفوق على الخصوم، وربما كان الدافع في بعض الأوقات هو حاسة امتلاك القوة البحتة لترهيب الآخرين.

وبينما نتناول قصة تطور الأسلحة لا بد لنا أن نشير إلى حقيقة واضحة للجميع في عالمنا اليوم؛ وهي تفوق بعض أنواع الأسلحة على نظائرها برغم التشابه في تقنيات التشغيل، فالأفكار الأساسية للبندقية والمسدس وغيرها من الأسلحة القاذفة ثابتة منذ أن ظهر البارود، ولكن عناصر تفوق أسلحة على أخرى يرجع اليوم إلى عدة عناصر، منها جودة التصنيع والمواد المستخدمة في تصنيع الأسلحة وغيرها، ويمكننا التدليل على هذا بمقارنة الأسلحة الأمريكية بنظيرتها الروسية مثلاً؛ فنجد أن أغلب الجيوش المتفوقة تفضل استخدام السلاح الأمريكي على حساب الأسلحة الروسية أو الصينية المنشأ، وربما يجادل المتخصصون في مدى فاعلية هذه الأسلحة وتفوقها على نظيرتها، ولكن الخطوط العريضة والسمعة المنتشرة قد تفصل في الأمر لصالح السلاح الغربي في نهاية المطاف.

ولكن المثير في الأمر أن سُمعة السلاح الأمريكي المشهور بتفوقه اليوم لم تكن كذلك من قبل، بل إن أمريكا في بدايات القرن التاسع عشر كانت من أضعف مُصنعي الأسلحة عالمياً من حيث الخامات والابتكارات، ولكن مع تطور المارد الأمريكي إلى قوة عظمى، وثبات عقيدة السلاح والتسليح في أمريكا، وحروبها الاستعراضية الهادفة إلى الهيمنة؛ كل هذا جعل منها أمة شرهة إلى الزعامة والتسيد.

 وفي هذا الشأن كان فصل جديد من فصول استيلاء الأمريكيين على ما لا يخصهم –بالنظر إلى تاريخهم القائم بالأساس على الاستيلاء على القارة الأمريكية الشمالية وإبادة سكان أمريكا الأصليين- فيبدو أن هذه العقيدة الفكرية السياسية الأمريكية تبدو أشبه بعدَّاء يغش طيلة الوقت ويتخذ طرقاً مختصرة للفوز بماراثون التفوق الأممي؛ ومن هذه الفكرة نتناول كيف نهضت الأسلحة الأمريكية الخفيفة ثم الثقيلة على أكتاف تقنيات سبقتها بمراحل عديدة، وهي التكنولوجيا الألمانية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من سمعة وهيمنة في أسواق السلاح العالمية.

بداية الأسلحة النارية: أوروبا المتصارعة

تعيد أغلب مصادر التاريخ بدء استخدام وتصنيع الأسلحة النارية على نطاق واسع إلى أوروبا في القرن السادس عشر، في الحروب بين فرنسا وإسبانيا، وكانت قد استخدمت قبل ذلك البنادق البدائية على نطاق ضيق في البرتغال وإسبانيا. وكانت المسدسات والبنادق آنذاك بدائية التصميم والآلية، وتعمل بنفس التقنية الأولية التي ابتكرها الصينيون، وهم أول من ابتكر واستخدم السلاح الناري في التاريخ، وكان عبارة عن أسطوانة معدنية ذات هيكل خشبي تحشى بالبارود ثم بقطعة معدنية –غالباً كروية الشكل من مادة الرصاص ومنها جاءت تسمية الرصاصة– باستخدام قضيب معدني رفيع ثم يُضرب الزناد قطعة كبريتية في بداية الماسورة من الخلف لتحدث شرارة فينفجر البارود قاذفاً الطلقة إلى الخارج بقوة.

بندقية مسكيت الفرنسية إنتاج 1766

سميت هذه البنادق match lock أو بنادق الزناد الكبريتي، ثم تطورت بنفس الآلية ولكن طريقة إشعال تختلف، وهو من خلال استخدام الفتيل المشتعل بدلاً من الكبريت، وسميت بنادق Flint Lock أو الزناد الفتيلي.

ظلت تقنية الزناد الفتيلي تتطور وظهرت منها أنواع مثل بندقية الأرقيبوس Harquebus وبندقية المَسْكِيت Musket إلى حوالي القرن السابع عشر، ثم تغير التاريخ الحربي وتاريخ السلاح الناري بشكل كبير عندما ابتكر الألمان، وتحديداً المهندس وصانع الأسلحة الألماني (جوان نيكولوس فون دريس) بندقية Nadelgewehr أو بندقية الإبرة -نظراً لوجود إبرة في أجزائها تُستخدم لضرب كعب الطلقة بقوة لتفجيرها ثم إطلاقها- وكانت تستخدم أجزاء مميكنة للتلقيم والإطلاق.

توضيح لطريقة عمل بندقية الترباس ألمانية الأصل

واشتهرت أيضاً باسم بنادق الترباس Bolt Action rifle نظراً لآلية تلقيم ذخيرة تستخدم ذراعاً تعمل مثل ترباس الأبواب ، وعرفت عالمياً باسم بنادق القناص لدقتها ومدى رميها الطويل مقارنة بسابقتها، ولا تزال مستخدمة حتى اليوم في بنادق القنص نظراً لدقتها وارتفاع نسب الاعتمادية عليها، لكونها نادراً ما تُخفق أو تتعطل أو تواجه أية صعوبات تقنية.

الزخم الحربي الأوروبي إلى الأرض الجديدة

مع انتصاف القرن الثامن عشر بدأ الجميع في أوروبا يعي ما يحدث في القارة الأمريكية الشمالية من تطورات تحدث في «الأرض الجديدة»، وتدفق المهاجرون الحالمون بحياة جديدة وفرص أكبر في أمريكا الأرض الواعدة.

ومع موجات الهجرة انتقلت أيضاً الصناعات المتقدمة بمعايير هذا الزمان مع المهاجرين، ومع نهايات القرن الثامن عشر وفي أعقاب الحرب الثورية الأمريكية ضد بريطانيا ومستعمراتها شهدت الأسلحة الأمريكية طفرة في صناعات الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات التكرارية Repeating Arms، والتي اعتمدت على تقنية الأسطوانة الدوارة أو ذراع الرافعة Lever Action، ولكنها برغم تقدمها آنذاك وتوفيرها الكثير من الوقت المستخدم في التلقيم في المعارك، فإنها لم تكن بالقوة والدقة المناسبتين للمعارك الكبرى.

وفي الوقت الذي عمل فيه الأخوان الألمان بيتر وفيلهم «ماوزر» على ابتكار بندقية ماوزر الشهيرة في ألمانيا، كان الأخ الأصغر بيتر يساعد الأمريكان في «اقتباس» التصميم الألماني الشهير للبندقية لإدخاله في ترسانة الجيش الأمريكي بجوار بندقية «ونشستر» الأمريكية التكرارية الشهيرة التي عرفت بسرعتها، ولكن ليس بدقتها أو قوتها.

بندقية سبرينجفيلد الأمريكية ذات الترباس

ومع حلول القرن التاسع عشر كان الأمريكيون يعتمدون على التصميم الألماني الشهير لبندقية ماوزر، وصنعوا منها النسخة الأمريكية «سبرينجفيلد» طراز 1861، وبرغم أن العديد من المصادر تعيد التصميم الألماني الشهير إلى الأخوين الألمانيين ماوزر؛ إلا أنه اليوم تحاول العديد من المصادر إرجاع التصميم إلى بندقية «كراج» الدنماركية التي ابتكرت في منتصف القرن الثامن عشر؛ وهي محاولة واضحة لإخفاء الأثر «الألماني» على التطور الأمريكي، ولهذا أسباب ربما تتعلق بتحول ألمانيا لاحقاً إلى العقيدة النازية «الشريرة» التي تظل أمريكا حتى اليوم مُصرة على وضعها في إطار «أشرار التاريخ الذين هزمتهم أمريكا»، والذين ليس من اللائق أن يكون لهم الفضل في تقدمها اليوم، ولكن للتاريخ صفحات مخفية لا تُطالع كثيراً، من بينها الغش الأمريكي الصريح لمجهود الألمان؛ حتى إن كان في تطوير الأسلحة.

ما بين الحربين: التفوق الألماني الواضح

مع دخول أمريكا إلى خضم معارك الحرب العالمية الأولى كان الاعتماد الأول لتسليح جنود المشاة الأمريكيين على البنادق ذات الترباس المقتبسة من التصميم الألماني، وللمفارقة الطريفة كان كلا الجانبين (أمريكا وألمانيا) يستخدمان بنادق ماوزر الألمانية بعد أن أخذت ترسانة «سبرينجفيلد» الأمريكية ترخيصاً بتصنيعها من المنشأ الألماني لشركة ماوزر عام 1893.

وبينما ولدت المدافع الرشاشة الثقيلة على يد البريطاني هيرام ماكسيم والأمريكي ريتشارد جاتلينج؛ إلا أن نقلها إلى الجبهة الأوروبية كان أمراً صعباً تكتيكياً، ومن ثم استخدم الأمريكيون آنذاك مدافع براونينج الرشاشة التي يفتخرون بأنها ابتكار أمريكي تفوق على ابتكارات الألمان في مجال الأسلحة الخفيفة، ولكن قفزة الأمريكيين التكنولوجية العسكرية لم تكن إلا تطويراً للابتكار البريطاني الأصلي لهيرام ماكسيم.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا، تراجعت الصناعات العسكرية الألمانية عن «الابتكار» في الأسلحة، وإن لم تتوقف عن إنتاج أسلحة خفيفة قوية وعالية الاعتمادية، وفي السنوات بين الحربين العالميتين كان الروس ما قبل الشيوعية السوفيتية متقدمين في الابتكارات العسكرية، فظهر الرعيل الأول للبنادق الرشاشة المحمولة من طراز «فيدروف أفتومات»، والتي تعد أول بندقية آلية في التاريخ عام 1913، آنذاك لم يكن يستخدم الأمريكيون سوى بندقيتهم الآلية البدائية BAR من إنتاج براونينج.

بندقية BAR الآلية الأمريكية من إنتاج «براونينج»

ومع هبوب عاصفة الحرب العالمية الثانية، كان الألمان قد وقعوا تحت سيطرة الحزب النازي الذي اهتم في الثلاثينيات بتطوير القطاع العسكري بشكل متسارع، وابتكاري وعالي الدقة، وفي خضم المعارك بدأت كفاءة الأسلحة في الانكشاف، خاصة عندما استخدم الألمان بندقيتهم الآلية الشهيرة «ستورم جيفير 44»، والتي تعتبر الميلاد الحقيقي لكل البنادق الآلية الهجومية اليوم.

وبينما كان الأمريكيون في المعارك تلك –الضباط ذوو الرتب العالية فقط- يستخدمون بندقة تومسون الآلية الشهيرة أمريكية الصنع، كانت عيوبها تتضح في قلب المعارك، خاصة أن ذخيرتها من عيار صغير –كانت تحمل طلقات 9 مللي الخاصة بالمسدسات– وليست بالتأثير نفسه الذي تحدثه بندقية STG 44 القوية ذات العيار الأعلى وسعة خزنتها الأكبر. ولم يكن لدى الأمريكان حل آنذاك لمواكبة القوة الألمانية سوى استخدام البنادق الأمريكية نصف الآلية –كندية الأصل– M1 Garand والتي كانت تعطي نتائج قوية، ولكن ليس بالسرعة والدقة الألمانية.

البندقية الهجومية الرشاشة الألمانية STG 44 والتي ولد من تصميمها كل البنادق الآلية الهجومية الحديثة

ومع ارتفاع القوة الألمانية العسكرية، والتي يرجح بعض المؤرخين العسكريين أنها لم تكن لتسقط إلا بتحالف أقطاب متعددة ضدها وتكالبها عليها مثل الروس والبريطانيين والأمريكيين في آن واحد، خاصة أن أشرس معارك أمريكا كانت ضد اليابان؛ انتهى الأمر بهزيمة الألمان شر هزيمة في نهايات عام 1945، وبينما جاب الروس شوارع برلين كان الأمريكان يحتفلون بانتصار سري آخر؛ كان يتمحور حول الاستيلاء على مجهودات الألمان العسكرية. هذا الاستيلاء ربما يكون هو المفتاح الأساسي في سحق ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. هذه نبذة عن استيلاء الأمريكان على التفوق العسكري الألماني.

عملية مشبك الورق: الاستيلاء الأمريكي الذي غيَّر موازين القوى

في عام 1944 ومع احتدام المعارك بين الأطراف في الحرب العالمية الثانية، كانت الأجهزة الأمنية الأمريكية بالتعاون مع جهات سياسية حليفة في دول الحلفاء تبدأ عملية سرية عرفت لاحقاً باسمها الشيفري «عملية مشبك الورق»، وبدأت هذه العملية عندما نما إلى علم الأمريكان أن أبحاث الأسلحة السرية الألمانية وصلت إلى مراحل متقدمة وخطيرة بتطوير برامج للصواريخ بعيدة المدى، والتي تحمل رءوساً لها قدرات تدميرية لم تشهدها البشرية من قبل، وربما يكون الألمان في طريقهم إلى استباق الأمريكان في امتلاك أول قنبلة ذرية في التاريخ.

ومن خلال العملية السرية وفي أعقاب انهيار ألمانيا استطاع الأمريكيون وحلفاؤهم تجنيد مجموعة من علماء الصواريخ الألمان وجلبهم إلى أراضيها لاستغلال أبحاثهم المتقدمة التي وصلوا إليها تحت راية الألمان النازيين لتطوير هذه البرامج لحسابها، ووصل عددهم إلى 1600 عالم على رأسهم المهندس النازي «فيرنر فون براون»، استطاعوا تطوير ما يعرف اليوم بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى، ولشرح الأمر ببساطة يكفينا القول إنه قبل الصواريخ الباليستية كانت الصواريخ العادية تعمل بالآلية التقليدية نفسها للطلقة بتفجير شحنة بارود مكثفة فينطلق رأس الصاروخ إلى هدفه؛ أما الباليستسة والتي طورها الألمان –أبرزهم صاروخ V2- فتعمل بتقنية تشبه تقنية الطائرة؛ فتحتوى على خزان وقود يحترق لدفع الصاروخ إلى مسافات ويصيب أهدافاً محددة مسبقاً. 

صورة فريق العلماء الألمان الذين استقطبتهم أمريكا لتطوير برامج الصواريخ

وكان هذا البرنامج السري هو أحد أهم أسباب تفوق أمريكا لاحقاً في علم الصواريخ المتطورة والموجهة، بل كان البرنامج الذي يقوم عليه المهندسون النازيون هو النواة الأولى لتطوير تكنولوجيات مركبات السفر إلى الفضاء التي قامت وكالة «ناسا» ببنائها وساهمت في ربح سباق الفضاء بين السوفييت والأمريكان في نهايات الستينيات.

وبينما اضمحل الابتكار العسكري الألماني مع انهيار النازية وتحول ألمانيا إلى دولة محدودة القدرات عسكرياً؛ كان التنافس مع أمريكا يتحول إلى جهة أخرى استلمت الراية من الابتكار الألماني؛ وأكملت مشوار التنافس العسكري؛ وهم السوفييت وامتدادهم اليوم: الروس.

فالتنافس في أسواق الأسلحة العالمية الخفيفة والثقيلة اليوم يكاد ينحصر بين أمريكا وروسيا؛ حتى إن كانت الآلة الإعلامية الغربية تحاول ترجيح الكفة لصالح الأمريكان؛ إلا أنه حتى المواطن العادي اليوم يستطيع أن يخبرك بكل أريحية أن الأسلحة الروسية أيضاً تستطيع القيام بدورها بكفاءة مرتفعة. ولكن بعكس الأمريكان؛ لم يستولِ الروس بنسب كبيرة على تقنيات دول أخرى؛ بل كانت لهم الريادة في المجال العسكري في بعض الأحيان.