أختبر الأشياء بصورة داخلية، نظرتي للعالم وللأشياء ليست طبيعية ولا علمانية، دائمًا ما أرى الأشياء باعتبارها إعجازية، بالنسبة لي كل عنصر يمثل معجزة، ونظرتي للعالم بشكل ما هي نظرة دينية، لكنها ليست طائفية أو جامدة، وأستغل تلك الطريقة في رؤية الأشياء داخل أعمالي.

ذكر ذلك الاقتباس على لسان المخرج الإيطالي الشهير بيير باولو بازوليني، في حوار تليفزيوني محتدم ردًّا على أسئلة من نوعية «لماذا تصنع أفلامًا عن قصص إنجيلية إذا كنت شخصًا ماركسيًّا»، يفصل بازوليني بين الدين كمفهوم جامد وبين الإعجاز اليومي الذي يراه في كل شيء، فمن المعروف عنه أنه غير متدين، على الرغم من نظرته القاسية أحيانًا إلا أنه شخص رومانسي يرى أن العالم مليء بالمعجزات، بالملائكة والشياطين، بالنماذج المخلِّصة، بإمكانية أن يحلق أحدهم في السماء بشكل إلهي، أو يمشي على المياه، عادة ما تقع تلك الأحداث السحرية على أطراف المدن، في مناطق منسية، تُحكى قصصها في مبادلة بين الواقع والخيال، لكنها تدمج السحر في الحياة اليومية بما يمكن وصفه بالواقعية السحرية، وهي أوصاف يمكن بشكل غير متوقع تطبيقها على أحد مسلسلات رمضان لهذا العام.

سطع نجم الكاتب «عبد الرحيم كمال» مع النجاح والتأثير الواسع لمسلسل الخواجة عبد القادر  2012 من بطولة يحيى الفخراني وإخراج ابنه شادي الفخراني، تبلورت فيه اهتمامات وأسلوب كمال، مسحة صوفية دينية تتقارب مع الواقعية السحرية، ونظرة رومانسية لإعجاز الحياة اليومية، حتى إن لم ينجح في تصويرها بشكل مقنع كل مرة، ورؤية حدية للخير والشر، فالحكايات التي يخلقها لا تتسم بالدقة المعاصرة لتناول  تلك المفاهيم بل تسترجع وضعًا حكائيًّا كلاسيكيًّا يشبه الحكايات الفلكلورية، التي تمثل شخصياتها مجازات واضحة لما هو خير أو شر في هذا العالم، تلا نجاح المسلسل أعمال أخرى لم تحقق الشهرة أو التأثير نفسه وتفاوتت جودتها، بين أعمال في مستوى الخواجة عبد القادر مثل دهشة أو أعمال ذات مستوى متوسط أو منخفض مثل القاهرة كابول، حتى خفت نجم كمال بل مل الكثيرون من تكراره للثيمات واللغة الصوفية المحسوبة التي اصطبغت بها ألسنة الشخصيات جميعها أيًّا كانت خلفيتها.

في موسم رمضاني متوسط، تبدأ فيه الأعمال بشكل مبشر ثم تنهار تحت ضغط العجلة والخلافات الفنية والرقابية، سطع نجم عبد الرحيم كمال من جديد، تم التداول شفهيًّا وإلكترونيًّا أن مسلسل «جزيرة غمام» من كتابته وإخراج حسين المنباوي هو العمل الأفضل في الموسم، انتقل ذلك الافتراض من شخص لآخر فاكتسب المسلسل جمهورًا مفاجئًا، منهم من كان من جمهور كمال والمعجبين بأسلوبه أو من يشاهد أعماله لأول مرة، كما اجتذب هؤلاء الذين ملوا تكراره لكنهم وجدوا في العمل تماسكًا نادرًا في موسم مهترئ، وقصة بسيطة على الرغم من غنى عناصرها الفنية والبصرية، لكن أصبحت بساطتها ورؤيتها الواضحة للخير والشر عنصر جذب للجمهور المرهق من القصص المعقدة التي تنتهي بشكل غير مرضٍ والأعمال التكرارية الموجهة، فما الذي جعل جزيرة غمام مختلفًا عن أعمال عبد الرحيم كمال  الأخيرة حتى مع احتوائه نفس سماتها دون تغيير؟

قصص تصلح للحكي قبل النوم

يُحكى جزيرة غمام بأكمله كمشهد استرجاعي flashback، يضعنا العمل في عالمه سريعًا، نرى جزيرة معزولة عن بقية العالم يعيش أهلها في تناغم نسبي، يحكم الجزيرة حاكم صارم لكنه عادل يدعى العجمي (رياض الخولي)، لكنها تُحكم أيضًا بشكل ديني ثانوي على يد الشيخ مدين (عبد العزيز مخيون)، الشيخ المبروك الذي يُعرف بأماراته وبصيرته، يموت الشيخ مدين ويترك تركته لثلاثة من تلاميذه تربوا وكأنهم أبناؤه طيلة عمرهم، وخفف ذلك عنهم يتمهم، هم محارب (فتحي عبد الوهاب) العالم الشرعي الذي يرى أن الحكم الديني هو هدفه في الحياة، ويسري (محمد جمعة) الذي يعلم ما تيسر من الشرع كذلك لكنه يتجه إلى التكسب عن طريق الأعمال التي تساعد النساء على ضبط حياتهن الزوجية أو الإتيان بالأزواج من الأساس، والأخير هو عرفات (أحمد أمين) الذي يدعي أنه لا يملك من العلم شيئًا لكنه يملك من البصيرة الكثير، هادئ ورقيق الصوت ويشبه الأطفال في براءته وربما سذاجته أحيانًا.

يهز استقرار الجزيرة مجيء غرباء على مركب قادمة من الجانب الآخر من عالمها، يعلوه قائد يدعى خلدون (طارق لطفي) وزوجته التي يسمونها «العايقة» (مي عز الدين) نظرًا لجمالها ودلالها، يظهر خلدون في مشهده الأول مثل سندباد سحري قادم من القصص الخيالية، تعلو وجهه ابتسامة شيطانية ويقود أبناء سفينته الأشبه بالغجر لإفساد سكان الجزيرة، ويبدو أن ذلك نمط يتبعونه في كل أرض يذهبون إليها فيهددون استقرارها، يرسم المسلسل شخصياته الأساسية بتمهل ووضوح، وفي وقت قصير يمكن رؤية الاتجاه الذي سوف تأخذه كل منها، فكل شخصية تمثل مفهومًا ما، الشر بيِّن والخير بيِّن ويبقى بينهما صراع أبدي يُحكى بآلاف الطرق على مر العصور، لكن جزيرة غمام اختار الطريقة الأكثر كلاسيكية وهي الحكي بصورته الأولية، وكأنه قصة إرشادية تُحكى برقة للأطفال قبل النوم أو مثل شعبي طويل يمكن الخروج منه بعبرة أو عظة، لكن الدقة في رسم الشخصيات شكليًّا وداخليًّا، وصناعة التفاصيل المكانية التي تجعل من عالم الجزيرة السحري عالمًا معاشًا هو ما يجعل تجاوز مباشرة الأفكار سهلًا، بل يسهل الانغماس الكامل في تلك الحكاية حتى إن بدت مألوفة وقديمة قدم الزمن نفسه.

طارق لطفي ومي عز الدين في جزيرة غمام
طارق لطفي ومي عز الدين في جزيرة غمام

التهديد الحقيقي الذي يقبع في أركان جزيرة غمام ويهدد بانزلاق العمل إلى منطقة غير محببة هو لي عنق القصة تجاه توجهات بعينها، خاصة بعد آخر أعمال عبد الرحيم كمال وأكثرها مباشرة القاهرة كابول، ففي عصرنا الحالي يسهل تتبع آراء وتوجهات الكتاب والفنانين نظرًا لسهولة التواصل التي خلقتها مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبح الكاتب يعبر عن نفسه بحرية أكبر مما تتسع لها البرامج التلفزيونية والمقابلات الصحفية، يمكن رؤية نوايا العمل للإسقاط على الحاضر والماضي القريب في لمحات متعددة، فهو بعد كل شيء ليس عملًا دقيقًا أو مبطن الأيديولوجيات، بل هو عمل واضح ومباشر، يخاطر المسلسل بنفسه حينما ينزلق إلى فخ الإسقاطات السياسية، بل يتهدد بأن يفقد كل ما جعله مشاهدة ممتعة ومتوازنة من الأساس، لكنه سرعان ما يتجاوز تلك الاندفاعات ويختار الإجابات الأكثر رقة وسحرًا فيُعلي قيمًا مثالية آتية من عصور النبوة والمعجزات على قيم العنف السياسي الذي يهددنا بالوقوع فيها باستمرار.

يوجد عنصر آخر يجعل من مجاراة العالم الواقعي السحري لجزيرة غمام سهلًا ومقبولًا، وهو وقوع الأحداث في ماضٍ بعيد في جزيرة تقع على أطراف الواقع يفصلها عن أي مجتمع آخر بحر فسيح يصعب رؤية آخره، فمن الممكن بسهولة أن تكون الحكاية كلها خيالًا تداولته الألسنة على مر الزمان حتى وصل إلى الحاضر، أو أن ذلك الواقع تم تضخيمه من قبل الأطفال الذين عايشوه، ومن الممكن أن يكون كله حدث بالفعل، كل الاحتمالات واردة، لأن الأطفال يملكون دورًا كبيرًا في القصة التي يحكيها العمل، هم عموده الفقري وقلبه النابض، فبعد كل شيء فإن المسلسل وعلى الرغم من اختياره بطولة جماعية لا بطل فيها، إلا أن شخصية عرفات الشبيهة بشخصية طفل كبير هي محوره، فهو نبي الجزيرة ومخلصها.

كل شيء يمثل معجزة 

نوعي المفضل من البشر هم الذين لم يكملوا تعليمهم بعد الصف الرابع، أناس بسيطون وعاديون للغاية، وتلك ليست كلمات فارغة أقولها، أقول ذلك لأن الثقافة البرجوازية على الأقل في بلادي تفسد وتدنس البشر وتنزع عنهم النقاء، بينما الجهلاء أو ذوو التعليم المحدود يملكون سموًّا محددًا يُفقد حين التعرض لثقافة محدودة، لكن يمكن إيجاده مجددًا في مستوى مرتفع جدًّا من الثقافة، أما الثقافة العامة المتوسطة فهي مفسدة على الدوام.

في الحوار التليفزيوني نفسه يُسأل بازوليني عن النوع المفضل لديه من البشر، فيجيب بتلك الإجابة التي من الممكن أن يتم اتهامها بالسطحية، لكنها متسقة مع رؤيته الإعجازية للعالم، يمكن استدعاء تلك الرؤية للنقاء البشري في القرويين وفي هؤلاء الذين يملكون قدرًا محدودًا من التعليم في جزيرة غمام، في صورة الأطفال الذين يملئون إطارات العمل، أجساد صغيرة في جلابيب رمادية أو أغطية شعر ملونة، يمثلون كل ما هو نقي وأصيل، يملكون سموًّا من الذي يقصده بازوليني، والأهم من ذلك فإن عرفات على الرغم من تخطيه مرحلة الطفولة لا يملك القدرة على التواصل بشكل واضح ومباشر إلا معهم، لا يفهمه دون عوائق غيرهم ولا يجد راحته إلا في ذلك الشاطئ الفسيح الذي يحده البحر وتضيئه الشمس من كل اتجاه، يستخدم المسلسل تباين تلك الصورة المضيئة مع المشاهد الداخلية المضاءة بشكل باروكي قاتم ليجعل مشاهد عرفات والأطفال فسحة من النور والبراءة.

مشهد من مسلسل جزيرة غمام
مشهد من مسلسل جزيرة غمام

يكرر عرفات على مسامع الأطفال أنهم هم أفضل مخلوقات الله، إن كل واحد فيهم يمثل معجزة صغيرة بذاته، وهو ما يستدعي رؤية بازوليني للعالم كذلك باعتبار كل حدث يومي هو معجزة، وأن الأشياء ليست بالجماد الذي نتصوره، خاصة في عوالم رأسمالية قاسية، يمثل عرفات مزيجًا متنوعًا من الإسقاطات الدينية الإنجيلية والقرآنية والأسطورية بشكل عام، يملك قدرات فوق بشرية على الرغم من فقدانه المهارات الاجتماعية الأساسية، يعبر الأسوار ويتخطى الأبواب المغلقة، لكنه لا يستطيع الشجار أو أخذ حقه من ظالميه، يبدو شخصًا عاديًّا قابلًا للوقوع في الخطأ، بل الوقوع تحت سطوة الإغواء الشيطاني القادم بشكل مباشر من خلدون والعايقة التي تمثل نموذجًا أشبه بمريم المجدلية، التي على الرغم من خطاياها تملك قلبًا نقيًّا وقدرة على التغيير.

تناول عبد الرحيم كمال نموذج الشخص الورع الصوفي من قبل في الخواجة عبد القادر في شخصية الشيخ عبد القادر، لكنه بعد ذلك العمل أصيب برغبة في كتابة لغة خاصة لشخصيات عامة، ربما لذلك استعاد بجزيرة غمام جمهوره لأنه اختزل رغبته في استعراض الأفكار الصوفية على شخصية تملك تلك الأفكار بالفعل، وهي شخصية عرفات، في حين تنوعت أساليب الكتابة بين الشخصيات الأخرى، لكنها لم تفقد شعريتها وميلها لنبذ الحوار الواقعي لصالح حوار أكثر مسرحية لكنه متسق مع طبيعة الحكي الكلاسيكية، وتندمج موسيقى شادي مؤنس الفلكلورية الشجية مع تلك الحوارات فتزيدها شعرية.

ما يجعل جزيرة غمام عملًا متميزًا بجانب الكتابة هو الإخراج الدقيق من حسين المنباوي ومدير تصويره إسلام عبد السميع، الذي يتراجع ذكر اسمه مقابل اسم عبد الرحيم كمال الأكثر شهرة، لكن جزيرة غمام لم يكن ليملك التأثير نفسه إذا لم يتولَّ إخراجه مخرج يستطيع جعل العالم المكتوب عالمًا مرئيًّا، بل كان سينقلب إلى خطبة إذاعية، لكنه تحول بسلاسة إلى عمل بصري بجانب كونه عالمًا حكائيًّا، عالمًا غنيًّا بتفاصيل تجعله معاشًا بالكامل، مزيجًا بين الخيال والواقع، يستغل الجماليات الزمنية للفترة من إضاءة الشموع ونور الشمس الطبيعي، يجعل من كل مشهد عابر مشهدًا يمكن الوقوف عنده وتأمله، يمكنك في المشاهد الحوارية تأمل المجهود المبذول لتصوير انعكاس شعلة من النار في عين أحدهم، أو كيف يقع الضوء على الأوشحة الصعيدية أو كيف تضاء درجات سلم درجة تلو أخرى حينما تهبط فتاة جميلة ممسكة شمعة مشتعلة، كل تلك التفاصيل الدقيقة تجعل من جزيرة غمام عملًا متوازنًا بصريًّا وكتابيًّا ويمكن الاستمتاع به على أكثر من مستوى.

مشهد من مسلسل جزيرة غمام
مشهد من مسلسل جزيرة غمام

جزيرة غمام هو أحد أفضل أعمال الموسم الرمضاني الحالي وأكثرها تماسكًا واكتمالًا، يملك نصيبه من العيوب بالطبع مثل العجلة أحيانًا في كتابة حلول للصراعات وفي المباشرة الزائدة التي يمكن أن تنفر البعض، لكنه في النهاية يحقق شيئًا أصبح نادرًا في الأعمال الدرامية المعاصرة، وهو حكي حكاية بسيطة بأفضل شكل ممكن.