في نهاية الأغنية الختامية لفيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، برز صوت ينادي على خلف (محمد هنيدي) ليخبره بحسرة أن فيرزاتشي مات. الفيلم تم إنتاجه عام 1998 بعد شهور قليلة من موت جياني فيرزاتشي، وكان المجتمع المخملي، مجتمع الموضة والفن، ما زال في صدمته من المشهد الدموي لإمبراطور الأزياء فيرزاتشي مضرجًا بدمائه على أبواب قصره الأبيض.

القصر الذي كان كعبةً لعارضات الأزياء الراغبات في أن تقع عين فيرزاتشي عليهن، بات مسرح جريمة تملؤه الشرطة والأساطير. الشرطة جاءت لتحقق في حادثة القتل الغريبة لمصمم أزياء عالمي، من المستبعد تمامًا أن تكون له عداوات مع أحد. أما الأساطير فبدأت في نسج خيوطها حول القصر الملعون.

في سنوات الكساد العظيم بُني القصر، تناقض غريب يُضفي أسطوريةً على القصر. لأن أولدن فريمان قرر التقاعد ولمّا يبلغ الثلاثين من العمر والاكتفاء بالتمتع بثروة أبيه الطائلة. في إحدى رحلاته زار قصر كريستوفر كولومبوس فوقع في غرامه، فقرر استنساخه في ميامي. وبالفعل تم الاستنساخ لكن سمّاه فريمان قصر كاسا كازورينا، تيمنًا برواية سومسرت موم الشهيرة تحت شجرة الكازورينا.

لم يتمتع فريمان بتحفته الفنية طويلًا، ومات عام 1937. اشتراه رجل ثري وحوّله لفندق طوال نصف قرن، ثم اشتراه رجل آخر كفندق كذلك. أقامت فيه دونتيلا فيرزاتشي أثناء إحدى حملاتها الإعلانية في ميامي، وأثناء زيارة أخيها لها خطفه الفندق فاشتراه بضعف ثمنه وحوّله لقصره الخاص مرة أخرى، وأضاف عليه لمساته الخاصة، وألحق به فندقًا مجاورًا هدمه وشيّد مكانه حمام سباحة وحديقة.

ديانا تخشى مصيره فتلقاه

جياني فيرزاتشي، فيرساتشي، إيطالي المولد، ورث عن والديه حب التاريخ الإيطالي وصناعة الملابس، عمل ضمن العديد من خطوط الإنتاج لعلامات تجارية شهيرة فلاقت أفكاره نجاحًا وقبولًا، وصنع لنفسه مركزًا مرموقًا في عالم الموضة، حتى أغراه النجاح بإنشاء علامته الخاصة.

عام 1978 فتح أول متجر خاص له، لفت النظر سريعًا بخلاعة تصميماته، أو جراءتها، على حسب إن كنت تصفها من منطق المُعجب بها أو الكاره لها. لكن المُتفق عليه أن فيرزاتشي كان يتعمد أن تكون تصميماته كاشفة ومثيرة للجدل. حتى جرى القول في عالم الموضة إن جورجيو أرماني يصمم ملابس الزوجات، أمّا فيرزاتشي فيصمم ملابس العشيقات.

توسعت علامته التجارية فدخلت عائلته بالكامل في شراكة معه، وبدأ كل منهم في تدشين خط إنتاج وتصميم خاص، في المجوهرات وفي أدوات المنزل. أما فيرزاتشي شخصيًا فظل مخلصًا للملابس وتصميماتها، وأهم ما عُرف به أنه يستخدم عارضات الأزياء للدعاية لملابسه، ويعتبرهن أساس التقديم الجيد للملابس، لهذا كان فيرساتشي أكثر المصممين بحثًا عن العارضات.

وبالتنقيب في تاريخ أبرز أسماء العارضات تجد أن غالبيتهن قد بدأن حياتهن في مجال عرض الأزياء مرتديات تصميمات فيرزاتشي.

ولم تكن عارضات الأزياء فقط من أحببنه بل حتى النساء اللواتي ارتدين تصميماته، وعلى رأسهن الأميرة ديانا، التي نعته بأن موته قد دمرها، وأن فقد ذلك المصمم العظيم والموهوب أمر حزين. ونقلت الروايات عن دودي الفايد، صديق الأميرة، حين كانا في رحلتهما في البحر الأبيض المتوسط أنها قالت له إنها تشعر أنه سوف يحدث لها مثل ما حدث لفيرزاتشي، وبعد أسبوع فحسب من حضور جنازته لقيت الأميرة مصرعها في حادث السير الشهير.

كونان العائش في نسخته من الواقع

أندرو كونان، شاب وسيم يراقب القصر، اعتاد فيرزاتشي أن يلمحه بين الحين والآخر، لكن الأكيد أن فيرزاتشي رآه في آخر لحظة له. كونان شاب ذكي، يمتلك معدل ذكاء مرتفع مكّنه من حفظ الإنسيكلوبيديا، كتب دائرة المعارف كاملة، وتخرج في مدرسة خاصة لا يدخلها إلا الأثرياء كمنحة تفوق لفرادته. كان كونان من أقل التلاميذ ثراءً في تلك المدرسة، فحاول التأقلم مع تلك الحقيقة بإخفائها، أخبر زملاءه أن والده مليونير إسرائيلي.

في تلك المدرسة أيضًا يبدو أن كونان اكتشف أن ميوله الجنسية مثلية. عائلته المتدينة رفضت الأمر، فغادر إلى سان فرانسيسكو ليلتحق بالجامعة. بدأ منحنى الشاب الواعد في التدني، فغادر الجامعة مطرودًا بعد عامين فقط، واتجه لاحتراف ممارسة الجنس. وارتبط بعلاقة بنورمان بلاشفورد، ثري خصص راتبًا لكونان وسيارة ومنحه رحلات لمختلف دول العالم. لكن عام 1966 سحب بلاشفورد كل تلك الامتيازات، فعاد كونان للانحدار، لكن كان انحداره سريعًا هذه المرة.

خرج كونان من عالم الأثرياء مطرودًا، فحاول الدخول فيه مرة أخرى عبر استغلال اسم فيرزاتشي. ردد كونان في أكثر من محفل أن فيرزاتشي صديقه الحميم. لم يصدق أصدقاؤه تلك القصة، فبدأ كونان معركته الخاصة في إثبات وجود علاقة تجمعه بفيرزاتشي.

لم يذكر فيرزاتشي اسم أندرو في أي محفل، ولم يثبت أن الاثنين قد التقيا قبل لقائهما الأخير. فالرواية تقول إنهما تقابلا في ملهى يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، ثم انتهى اللقاء بخروجهما في موعد غرامي إلى أوبرا سان فرانسيسكو. أما الرواية التي روتها عائلة فيرزاتشي للشرطة تقول إن الاثنين بالفعل كانا في الأوبرا في ذلك التاريخ، لكنه كان لقاءً عبر المصادفة، وأن فيرزاتشي تذكر كونان لأنه رآه أكثر من مرة أمام نافذة منزله فحسب.

جريمة قتل قادت لأربع جرائم

ما يحاول المحققون إثباته أو نفيه هو وجود علاقة حميمية بين الاثنين، لكن لا يهم فكونان قد قرر أنه تربطه علاقة بفيرزاتشي، وأن فيرزاتشي قد تنكر له. وظل كونان غاضبًا طوال 7 سنوات مع عدم اعتراف فيرزاتشي بذلك، وظل طوال تلك السنوات السبعة يتعرض للاستنكار كل مرة يسرد فيها قصة علاقته مع فيرزاتشي.

لذا في 15 يوليو/ تموز 1997، بعد 5 أيام فحسب من رجوع فيرساتشي لقصر ميامي، التقى به كونان وأطلق عليه بضع رصاصات لتنهي حياته. فر كونان من الشرطة، وبصعوبة وصلت الشرطة إلى مكان اختبائه لتجد سيارةً حمراء فيها ملابسه، وبضع أوراق من صحف مختلفة. تلك الصحف كان تحكي عن جرائم قتل مختلفة، الرابط المشترك بينها أن كونان هو من ارتكبها.

قبل مقتل فيرزاتشي بأسابيع عثرت الشرطة على جثة ضابط بحري. التحقيقات أثبتت أن الضابط شاذ جنسيًا وكان على علاقة بأندرو كونان لعدة أعوام، لكن قرر الضابط إنهاءها. وبسبب مطاردات كونان قرر الضابط الانتقال لولاية جديدة، وبالفعل انتقل إلى مينيسوتا، لكن لحقه كونان وقتله، وعثرت الشرطة على الجثة في شقة ديفيد ماديسون، الذي كان هو الآخر عشيقًا لكونان.

ماديسون وكونان لم يُعثر عليهما، فاعتبرتهما الشرطة شريكين في الجريمة. لكن بعدة عدة أيام من قتل الضابط عثرت الشرطة على جثة ماديسون مصابة بعدة طلقات ودون أي آثار للمقاومة على شاطئ بحيرة راش في مينيسوتا.

في اليوم التالي مباشرة لعثور الشرطة على جثة ماديسون عثرت على جثة عملاق العقارات لي مجلين، البالغ 72 عامًا آنذاك. أصدقاء كونان قالوا إنه تحدث لهم عن ابن لي مجلين، وأنه أحد أصدقائه الحميمين. لكن العائلة نفت أن يكون ابنهما متربطًا بكونان بأي صورة، لكن تحقيقات الشرطة قالت إنه لا آثار عنف أو اقتحام للمنزل، ما يعني أن كونان كان صديقًا إما للأب أو الابن.

سرق كونان سيارة خضراء من سيارات الأب وانطلق بها. وبعد 5 أيام من تلك الحادثة وجدت الشرطة جثة لعامل في مقبرة في نيوجيرسي، 45 عامًا. وبالطبع ربطت الشرطة كونان بالحادث خاصةً حين اختفت سيارة العامل حمراء اللون، وحلّت محلها سيارة خضراء بنفس مواصفات سيارة عائلة مجلين. تلك السيارة الحمراء هي التي عثرت عليها الشرطة سابقًا بها ملابس كونان وبضع قصاصات من الجرائد.

ذهبت تحقيقات الشرطة إلى وصف كونان بالنرجسية المفرطة أو بجنون الارتياب، وأنه عاش في أوهامه عن علاقاته بهؤلاء المشاهير. واستدلت على ذلك أن الشهرين الفاصلين بين آخر جريمة له وبين قتل فيرساتشي قد قضاهما بصورة طبيعية مستخدمًا اسمه الحقيقي، ومتحدثًا عن علاقاته بالقتلى. وذهبت الرواية الأخرى أن كونان كان مصابًا بالإيدز واكتشف أن أيامه معدودة لذا قرر الانتقام من عشاقه السابقين جميعًا.

وستظل الحقيقة غير معلومة فقد مات جميع أطرافها، القتلى والقاتل. فقد أطلق كونان الرصاص على رأسه بنفس البندقية التي استخدمها لقتل ضحاياه، أثناء حصار الشرطة له بعد عملية بحث اُعتبرت أكبر عملية بحث في التاريخ، بسبب الرّجة التي أحدثها مقتل مصمم شهير مثل فيرزاتشي.