ما إن بدأت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا حتى تكاثرت الأنباء التي استعرضت تفاصيل تلك الحرب؛ مشهد لدبابة تخترق نقطة حدودية، أو صاروخ روسي يدمّر مبنى سكنيًا، أو امرأة أوكرانية تتحدّى جنديًّا روسيًّا مدججًا بالسلاح. لم تكن هذه الهجمات الوحيدة التي تعرّضت لها كييف من موسكو، وإنما نالت نصيبها من حربٍ أخرى بلا رصاص شهدها الفضاء السيبراني فور وقوع الغزو.

في اليوم الذي اجتاحت فيه الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية شنّ قراصنة روس هجومًا إلكترونيًّا مكثفًا على العديد من الهيئات الحيوية الأوكرانية مثل البنوك وشركات الاتصالات والطاقة مؤسسات تزويد الأوكرانيين بالإنترنت، إحدى هذه الشركات هي «Ukrtelecom»، التي تقدّم خدمات تقنية للجيش الأوكراني.

وبحسب فوربس، فإن الهجمات الروسية أدّت إلى «قطع عميق» في تواصل الأوكرانيين ببعضهم، مشيرة إلى أن المسؤولين الأوكرانيين يكافحون الآن للتخفيف من أضرار هذه الهجمات.

وبالطبع فإن الجميع يؤمن بقدرة روسيا الهائلة على تنفيذ هجمات سيبرانية جبّارة قد تشل قطاعات كبرى في العالم، تأثرًا بتجربتهم السابقة في الانتخابات الرئاسية قبل الماضية، والتي اتّهمت أجهزة أمنية أمريكية روسيا بالتدخّل الإلكتروني في مسارها وتأمين النصر لترامب. وأيضًا في 2015م، حينما شنّت روسيا هجومًا سيبرانيًّا على أوكرانيا عطّلت بموجبه بعض أجزاء الشبكة الكهربائية للبلاد.

وحتى الآن تشغل فلسفة «الهجمات الإلكترونية» حيزًا كبيرًا من النقاش بين أروقة السياسيين والعسكريين، فعندما تقصف دولة ما دولة أخرى بقنبلة أو تقوم بغزوها فإنها تقوم بأضرارٍ مباشرة وواضحة لا لبس فيها تقتضي الرد بالمثل أو أكثر، وهو ما درجنا عليه من أشكال الحروب الكلاسيكية المعتادة.

أما في حالة الفضاء الإلكتروني غير المحدود، فالإنترنت بلا سيادة، وعادة ما يتقن القراصنة التخفي وراء هويات مستعارة، كما أن هجماتهم -وإن كان تأثيرها عميقًا- فإنها لا تخلّف قتلى وجرحى ودمارًا ماديًّا ما يجعل التفاعل معها -سلبًا أو إيجابًا- أمرًا ليس محل إجماعٍ حتى اليوم، وهي المعضلة التي يواجهها العالم بشأن حرب روسيا وأوكرانيا.

الصين متهمة

نشرت «التايمز» مذكرة استخباراتية أوكرانية ادّعت أن الصين ساهمت بجهد بنّاء في هذه الحرب غير الملموسة، بعدما تولّت بكين بمفردها مسؤولية الهجوم على 600 موقعٍ تابع لهيئات عسكرية أوكرانية، أبرزها وزارة الدفاع.

هذا الهجوم بلغ ذروته يوم 23 فبراير الذي تهاوى فيه عدد ضخم من المواقع الإلكترونية الأوكرانية متأثرة بالضربات السيبرانية «المجهولة» التي حطّمت جدران حمايتها بلا رحمة، وفي اليوم التالي مباشرة غزت روسيا أوكرانيا.

ورغم أن الأمن الأوكراني نفى صحة هذه الأنباء فإن كرة القش استمرت في التداول داخل أروقة الصحافة الغربية بعدما تبارَى المحللون في تفنيد تلك المزاعم، معتبرين أن المحاولات المُبلغ عنها تتوافق مع التكتيكات السيبرانية الصينية التي تعتمد على استغلال نقاط الضعف في جدران حماية المواقع.

الدعم الصيني لروسيا في عملية الغزو -بأي شكل- لطالما أثار واشنطن، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن لتحذير نظيره الصيني من «عواقب وخيمة» حال تبيّن تقديم بكين دعمًا ماديًا لروسيا خلال الحرب.

وتستند هذه المخاوف على العلاقات الوثيقة التي تجمع بين البلدين، وآخر مظاهرها اللقاء الذي جمع بين قائدي البلدين في فبراير الماضي وأكدا فيه أن «الروابط بين البلدين لا حدود لها».

وفي هذا الإطار امتناع الصين عن انتقاد روسيا بشكل علني عقب وقوع الغزو، واكتفائها ببيانات مطاطة تدعو فيها لتغليب لغة الحوار والحل الدبلوماسي.

روسيا تشتكي أيضًا

المفارقة، أنه وبينما يتحسّس العالم قلبه خوفًا من الهجمات الإلكترونية الروسية، أعلنت موسكو عن تعرّضها لهجومٍ إلكتروني واسع المجال.

وفي 29 مارس أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا أكدت فيه تعرّض «مؤسسات الدولة ومرافق البنية التحتية الحيوية لضرباتٍ قوية باستخدام وسائل تقنية متقدمة».

أتى هذا الهجوم في أعقاب تحريض وُصف بأنه «غير مسبوق» دعت فيه كييف قراصنة العالم إلى تشكيل «قوات إلكترونية هجومية» وإلحاق أكبر أضرارٍ مُمكنة بالمواقع الروسية.

واحتفى عدد من المنصات الإعلامية الأوروبية باستجابة العديد من المتطوعين لهذه الهجمات من شتّى أنحاء العالم، بعدما استعرضت نماذج شتّى لمبرمجين من الدنمارك وهولندا وإستونيا وفرنسا خصصوا جزءًا ثابتًا من يومهم للهجوم على المواقع الروسية، وعلى رأس المستجيبين لتلك الدعوة تجمّع القراصنة المجهول Anonymous، الذي ارتبط اسمه بعددٍ كبير من الهجمات الإلكترونية المؤثرة والذي أعلن أنه بات في حالة حرب مع روسيا.

أمريكا ترتعد

في نهاية شهر مارس، حذّرت شركة جوجل من محاولات روسية لاختراق شبكات تابعة لحلف الناتو وجيوش عددٍ من دول أوروبا الشرقية. تحذير جوجل لم يكن حافلاً بتفاصيل كافية عن هذه الهجمات لكنه حمل مؤشرًا خطيرًا عن رغبة وقُدرة روسيا على توسيع رقعة الحرب السيبرانية.

وتتخوف أمريكا من أن يمتد هذا التوسع ليشملها ذاتها، بعدما كشف موقع «فورين بوليسي» أن الروس يستعدّون للرد على العقوبات الأمريكية بهجمات إلكترونية ضخمة تستهدف قطاعات الطاقة والمال، وحذّرت المنصة -نقلاً عن خبراء- من أن مئات الأهداف الأمريكية ممكن أن تكون ضحية للقراصنة الروس، وهو ما يستعدي اتباع خطط طوارئ مكثفة لتخفيف الأضرار المتوقعة حال وقوع ذلك الهجوم.

كما نقلت «فورين بوليسي» عن خبراء تقنيين أمريكيين أن شركات أمريكية تعمل حاليًا في أوكرانيا لمنع القراصنة الروس من اقتحام الشبكات الأوكرانية وسرقة المعلومات منها.

وتنسجم هذه الخطوة مع الإجراءات التي بادرت الولايات المتحدة لتنفيذها منذ أكتوبر 2021م حين أعلنت تعاونًا خاصًا مع أوكرانيا لتعزيز دفاعاتها الإلكترونية وتقوية أساسات البنية التحتية الرقمية في عموم البلاد الصفراء.

كما تلقّت هذه الجهود دعمًا إضافيًا مما يُعرف بـ”فريق التدخل الأوروبي السريع»، الذي يتكوّن من 12 خبيرًا في الأمن الإلكتروني مجهزين بأدوات متطورة لاكتشاف التهديدات السيبرانية والقضاء عليها.

وهو ما حسّن من قُدرات الأوكرانيين على مقاومة الغزو الإلكتروني الروسي -هذه المرة- بعد سنوات كان اختراق القراصنة الروس لشبكات المؤسسات الحيوية الأوكرانية مجرد نزهة.

وبرغم كل هذه المعارك الإلكترونية فإن الكثير من خبراء الأمن السيبراني حول العالم اعتبروا أن روسيا لم تستخدم كل قدراتها الإلكترونية بعد، معتبرين أن بوتين لو قرّر إعلان الحرب السيبرانية على العالم بكل ما يمتلكه من موارد فسندفع جميعًا الثمن باهظًا.