تشاهد بعين مرتقبه وعقل متشوق قطرات مشروب الكوكاكولا وهي تتساقط بسرعة فائقه في الكوب الكرتوني كبير الحجم، ثم تقدم إليك على صحيفة طعام تحتوى على شريحة من اللحم البقري مغلفة بالجبنة المذابة تسبح في صوص الكاتشب والمايونيز مع قطعة الخس والطماطم وسط قطعتين من خبز الكيزر، وبجانبهم البطاطس ذهبية اللون رشيقة القوام مزينة بحبيبات الملح.

تأخذ وجبتك في سرعة تفوق سرعة بحثك عن مكان خال بالمطعم، لتلتهم الأكل في دقائق معدودة حتى تتمكن من استكمال دورة الحياة اليومية في استعجال دائم وتأخر لا ينتهي، حيث يطاردك الوقت بينما تطارد أنت الحداثة.


أنت مجرد ترس في عجلة

المفكر عبد الوهاب المسيري

تعيش حياتك كترس في عجلة لا يعرف معني للإنسانية أو الخصوصية، كل ما يُهم يتلخص في اقتصاديات السوق من العرض والطلب. لتتحول تدريجيًا إلى جزء من لعبة الشركات الرأسمالية الكُبرى، حيث تقنعك بالسعي الدؤوب للحصول على أشياء لا تحتاجها واستهلاك كل ما ينتجونه بشراهه، فقط لتواكب العصر الحديث.

تعيش في منزل على التراث الحديث لا يحمل ثقافتك، في مجتمع عربي لا ترى منه شيئًا سوى في الأزقة القديمة والجوامع العتيقة التي تحولت لمزارات سياحية، لتكتشف أن التراث أصبح يعني القدم ومضاد للحداثة.

تلجأ الشركات إلى كتابة سعر المنتج 99 جنيهًا بدلا من 100 جنيهًا، فيدرك عقلك تلقائيًا أن سعر المنتج أقرب إلى ال90 بدلا منه إلى ال100 جنيه

تهرع بسيارتك المستوردة من محل عملك إلى محلات التسوق العالمية بالمولات الفخمة، لتشتري ملابس ذات طابع عالمي لا تعبر عن ثقافة شعب محدد، فالعالم كله عليه أن يرتدي نفس أنواع وأشكال الرداء التي تُتيحها الشركات العالمية لتناسب الجميع. وتدخل السوبر ماركت لتمسك بالتروللي بحجمه الكبير لتملأه بالمنتجات المختلفة، حيث نزوع الإنسان الطبيعي لملئ كل ما هو فارغ؛ وهو ما أستغلته أصحاب تلك المحلات وطوروا الوعاء البلاستك صغير الحجم الذى كان منتشرًا في بداية السوبر ماركت إلى التروللي كبير الحجم لتشتري أكثر.

كما أن طرق العرض صممت خصيصًا لتستولى على إبهارك، حيث ترى قطعة التيشيرت -كمثال-معلقه وسط مجموعة أخرى من القمصان والبنطلونات بألوانهم الجذابة مما يضفي على المنظر العام جمال مصطنع، فحين تشتري قطعة من الملابس تشعر وكأنك أشتريت ما رأيته من مشهد جميل، ولكن يخيب أملك مستقبلا.

هذا إلى جانب كتابة الأسعار بمنتهى الذكاء/الدهاء فبدلا من كتابة السعر 100 جنيه يتم كتابته 99 جنيهًا، فيدرك عقلك تلقائيًا أن سعر المنتج أقرب إلى ال90 بدلا منه إلى ال100 جنيه. وبالرغم من معرفتك لتلك الحيله إلا أنك مازلت تقع أسيرًا للإغواء الدعائي، ولا تقدر على مقاومته.


كيف غيرت أمريكا أوزان الشعوب؟

بقدر ما يعاني العالم من الجوع، يعاني من كثرة الأكل. أضف إلى هذا أن العالم قاسٍ في النظر إلى الشخص السمين. أنه عالم يسمّن الشخص، ثم يسيء اليه

باتريك ماكورميك في كتابه عن انتشار الأكل الأمريكي خارج أمريكا

خرجت أمريكا من حرب فيتنام منهكة القوة بعدما خسرت الكثير من مواردها، مما انعكس على المجتمع الأمريكي بالسوء حيث غلت الأسعار وتظاهرت ربات البيوت في عام 1971، فقرر نيكسون عقد عدد من الصفقات السياسية لحل الأزمة الاقتصادية الطاحنة ليضمن بقاءه في الرئاسة لفترة ثانية.

عين نيكسون «إيرل باتس» وزيرا للزراعة، وكان شعاره «محصول ضخم أو توقف المزارعين عن العمل».

واستطاع باتس أن يغير النظام الغذائي للأمريكان وأضاف إلى العالم دهون غير متوقعة، حيث حول المزارع الصغيرة إلى صناعة زراعية عملاقة من خلال زيادة الإنتاج، وبالتالي توفير أطعمة رخيصة بكميات غير مسبوقة مما يزيد من الإستهلاك.

هذا بالتزامن مع أبتكار اليبانيون عملية خاصة لتحويل بقايا الذرة -الواشكة على التعفن- لمادة تحلية اصطناعية رخيصة، لتستخدمها شركات التغذية كبديل للسكر غالي الثمن. وكانت تلك الخطوتين هما حجر الزاوية المسئول عن تغير النظام الغذائي بالمجتمع الأمريكي، والكنز الذي أكتشفته الشركات الرأسمالية لتعظيم مكاسبها والوصول إلى بطون كل شعوب العالم.

بتغير النظام الغذائي الأمريكي تغيرت أوزان الشعوب، حيث استبدلت الشركات العالمية السكر بمشروب الذرة في إنتاجها للمشروبات الغازية، ولم يلاحظ المستهلك فرقًا في الطعم، مما شجع الشركات لاستخدام الذرة في كافة منتاجتها الغذائية غير مكترثه لما يمكن أن يسببه من أضرار وبدانه؛ فتعرف الدم الأمريكي على هذا المشروب ولم تعد لديه قدرة على التخلي عنه.

فتكونت وجبة البرجر الأمريكية الشهيرة من: خبز مصنوع من الذرة ليدوم لفترة أطول، ولحم بقري مغذى على الذرة، وبطاطس تم قليها بزيت الذرة، وكاتشاب وصودا مصنوعان من الذرة.

يعطل سكر الفركتوز عمل هرمون «الليكتن» فلا يشعر الإنسان بالشبع ويستمر في استهلاك الطعام بما يفوق حاجته

أثبتت الدراسات العلمية أن سكر «الفركتوز» المستخدم في الكثير من الأكل والحلوى يُسبب البدانة، حيث يعطل عمل هرمون «الليكتن» المسئول عن تبليغ الدماغ الإنساني بالشعور بالاكتفاء، فعند تعطيل عمل الهرمون لا يشعر الإنسان بالشبع ويستمر في استهلاك الطعام بما يفوق حاجته. وأصبح مرض القلب بحلول السبعينيات الشاغل الأكبر للمجتمع الأمريكي، وكان السؤال السائد: هل يسببه السكر أم الدهون؟

وللإجابة عن السؤال ادعى «أنسل كير» وقتذاك أن الدهون هي السم القاتل، بينما السكر ما هو إلا مصدر للحصول على الطاقة. ولم يكتف كير بقناعته المضلة، بل زود الجنود الأمريكان في الحرب العالمية بوجبة غذاء تحتوي على 1200 سعرة حرارية لتمدهم بالطاقة. فبرأت السكريات وأصبحت الدهون هي العدو الأول للمجتمع الأمريكي.

لم يعارض كيز سوى صوت الباحث الإنجليزي «جون يودكين»، ففي 1972 أخذ ينظر لخطورة السعرات الحرارية المستمدة من السكر على صحة الإنسان ورشاقته، إلا أن نظريته لم تأخذ بعين الاعتبار بعدما تحالفت مصانع السكر بأمريكا وبريطانيا وشنوا هجومًا واسع ضده. وكسب كيز المعركة وكسبت الشركات زيادة استهلاك السكر المحبذ لمذاق الإنسان وبالتالي زيادة الاستهلاك، إلا أن مرور الزمن أثبت أن المجتمع الأمريكي لم يجن سوى البدانة المصحوبة بالأمراض الخطيرة بسبب السكر.


السكر فيه سم قاتل

لم تكن متعتك عند التهام الأكل المشبع بالدهون والسكريات بالأمر الخفي عن صانعي الأغذية، فالشعور بالسعادة المؤقتة في كل مرة تتناول فيها الطعام يرجع إلى ما يعرفه علم الأعصاب بـ «الاستجابة المتعية»؛ حيث الشعور الذي يسيطر على دماغ الإنسان عند يتناول طعام يحبه. هذا إلى جانب الإضافات الأخرى التي تتفنن شركات التغذية في إنتاجها لتجعل رائحة الطعام وحدها آسره للعقول. فيكون من لديه شهية مفتوحة وصعوبة التحكم في النفس ضحية تلك الشركات، وفي كثير من الأحيان يتحول إلى مدمن حقيقي لأطعمتهم.

وتولى جورج ماكوفن مهمة تغيير النظام الغذائي في 1977 في أمريكا، حيث وضع دليل استرشادي للمواطنين لتصحيح العادات الغذائية من خلال التقليل من استخدام الدهون والسكر والملح، إلا أن شركات التغذية وقفت له بالمرصاد واستخدمت نفوذها وحولت من حقيقة التقرير معلنة أن المشكلة الرئيسية في الدهون. وبدأت شركات الأغذية تقلل من إستخدامها للدهون بشكل رسمي ولكنها حولت الموقف إلى فرصة لزيادة أرباحها من خلال غزو السوق بالأطعمة قليلة الدسم، ولكن المشبعة بالسكر حتى يكون المذاق مقبول لدى المستهلكين. وبذلك تثبت الدراسات المختلفة أن الطعام الخالي من الدهون ليس بالضرورة صحي أو يجعلك تتخلص من وزنك الزائد.

كما استغلت الشركات هذا الموقف كفرصة لزيادة استهلاكها، حيث قدمت -للمنادين بمقاطعة الأكلات المشبعة بالدهون- محلات ومنتجات بديلة خاصة بالدايت -كمشروب كوكاكولا دايت للراغبين في إنقاص وزنهن-، فاستغلت الوضع ولم تخسر مستهلكيها بل قدمت لهم ما يناسبهم في وضعهم الجديد، كما أنتجت الأجهزة الرياضية الكهربائية والملابس المناسبة أثناء ممارسة الرياضات المختلفة.

وفي عام 2000 بدأت مشكلة البدانة تشكل حيز حيوى لاهتمام الباحثين، وأنتجوا الكثير من الدراسات الخاصة بأضرار السكر وكونه المسئول الرئيسي عن السمنة، مما أغضب مستخدميه من الشركات الكبرى وسعوا من خلال جماعات الضغط التابعة لهم بالتأثير على منظمة الصحة العالمية؛ لكي لا تصدر أي من التقارير التي تحدد نسب معينة لاستخدام السكر المسموح به، وهو ما سيجلب الكثير من الضرر لشركات التغذية التي تعتمد على السكر في زيادة عدد المستهلكين.

وقامت منظمة «السكر» بتوجيه تهديد مكتوب لمنظمة الصحة بحرمان الحكومة الأمريكية من التمويل البالغ 460 مليون دولار، مما أدى إلى سفر وزير الصحة آنذاك للمنظمة العالمية لتبني موقف مصنعي السكر والدفاع عنهم، وبالفعل أستطاعت الشركات العالمية أن تمنع ظهور أي من التقارير التي من الممكن أن تضر بمصالحها، فالطعام الصحي الخالي من الدهون والسكر يعد مغامرة تجارية غير مضمونه.


لست كسول ولكن شهيتهم للربح غول

تثبت الدراسات المختلفة أن الطعام الخالي من الدهون ليس بالضرورة صحي أو يجعلك تتخلص من وزنك الزائد.
نجحت شركات الأكل في توحيد ما نأكل. وتريد الآن غزو العالم وتوحيده باسم الأكل الأميركي، لكنها، قبل أن تفعل ذلك، غيرت صورة بلدنا، وشوهت مناظره بإعلانات ترتفع نحو السماء. وحولت التلفزيونات إلى معارض لكل أنواع الأكل والشراب. وزادت السمنة ومرض السكري وضغط الدم والكوليسترول. وتريد الآن أن تفعل نفس الشيء مع شعوب أخرى، تقع ضحية امبريالية ثقافية
إريك شلوسر، مؤلف كتاب «شعب الأكل السريع»

تشعر أنك تجلس في أحد المطاعم الأجنبية وبالأخص بنيويورك، لتعيش تجربة غير معتادة وربما لن تختبرها طالما ظللت عالقا في بلدك التي تريد أن تتركها لتعيش ببلد أكثر تقدم وحداثة، فينقل لك ماكدونالدز -على سبيل المثال- وجه للثقافة والحياة والأكل الأمريكي المنشأ.

فزج ماكدونالدز بطابع جديد على المجتمعات، طابع أمريكي متمثل في الحياة السريعة التي لا تتوقف لأي من الأسباب، فتقف أمام قائمة من الطعام لا يشوبها سوى قليل من الاختلافات، لتختار وجبة مكتملة الأركان، تدفع الحساب سريعًا ليُفسح المجال لغيرك، ثم تحصل على طعامك في دقائق معدوده وتأكل في وقت لا يزيد عن وقت إعداده ثم تخرج مسرعًا من المكان لتكمل يومك.

توفر مطاعم الأكلات السريعة العالمية قائمة واحدة من الأطعمة في كل من الدول التي تتواجد بها، فلا تهتم ماذا وكيف أعتادت أن تأكل الشعوب المختلفة، فهي تجعلك تحاكي نمطًا عالميا لطالما أبهرك في التليفزيونات وعلى مواقع الإنترنت المختلفة، لتخلق توحد الذوق وتجعله عام.

فتحاول شركات الأغذية العالمية أن تضفي ثقافة واحدة ببعد واحد على كل شعوب العالم، حتى لا يصبح أمامك أي حصون محلية تستطيع أن تحفظ ثقافتك بداخلها، فالصراع قائم على بقاء الاقتصاديات التي تفعل كل ما في وسعها لغزو عقلك بأسر ذائقتك حسب المعايير الاقتصادية العالمية. فمن السهل اتهام الأفراد بالخمول والكسل حيث اهتمامهم الدائم بالأكل والاستهلاك من دون الإنتاج، إلا أن شهية الربح لدى شركات الأغذية هي الغول الأكبر الذي يحاول أن يبتلع العالم أجمع في جوفه.

المراجع
  1. الطعام التقليدي والهولمة
  2. عصر الجماهير الغفيرة
  3. هؤلاء جعلونا بدناء الجزء الأول
  4. هؤلاء جعلونا بدناء الجزء الثاني
  5. هؤلاء جعلونا بدناء الجزء الثالث
  6. الإنسان والشيء .. آخر مقال للمسيري قبل رحيله
  7. Fast Food in Egypt
  8. Fast Food Globalization
  9. Globalization, Fast Food and the “Threat” to Local Culture