منذ أيام كتبت منشورًا على صفحتي على Facebook «هل أنت أب عصبي، هل أنتِ أم عصبية؟ تفتكروا إيه الأسباب اللي بتخلينا عصبيين مع ولادنا؟ وإزاي نتعامل مع ده؟» وفوجئت بحجم التفاعل الذي يفوق المعتاد، فانتبهت كم هي مشكلة صعبة وشائعة، فغالبًا ما ندخل -نحن الآباء- عند الانفعال على أبنائنا في دائرة مفرغة من الشعور بالذنب، الذي يجعلنا نشعر بمزيد من التوتر والغضب، وهو ما يشعرنا بدوره بالذنب، وهكذا.

تختلف أشكال التعبير عن هذا الغضب من شخص إلى آخر، فمنا من يصيح أو يصرخ، ومنا من يصفع الأبواب، ومنا من يسب أو يقول كلامًا جارحًا، ومنا من يضرب. لن أتحدث في هذا المقال عن أضرار سرعة الانفعال على الطفل، لأن من يشعر بالذنب ليس به طاقة لقراءة ذلك، فهو يعلم أن ما يفعله خطأ ولكنه ربما لا يعرف كيف يضبط انفعالاته أو يجد صعوبة في ذلك، ولأن بداية حل أي مشكلة يكمن في الوعي بها.


فما هي الأسباب التي تجعلنا سريعي الانفعال مع أبنائنا؟

1. صعوبة التربية

فالمسئولية عن طفل بكل تفاصيله مرهقة، والأطفال يأتون بسلوكيات ضاغطة على الأعصاب ومثيرة للغيظ حتى وإن كانت طبيعية، وحتى إن كان الوالدان متفهمين لذلك، كالبكاء، والعناد، وكثرة الأسئلة، وتضييع الأدوات في المدرسة، والشجار مع الإخوة، والتصرف بطيش مع الطفل الأصغر، إلى جانب ضغوط الدراسة والمذاكرة إلخ.

من صعوبات التربية أيضًا أن الطفل لا يولد بـ«كتالوج»، فنحن نحاول فهم أبنائنا واكتشاف الطرق المثلى للتعامل مع المواقف المتجددة التي تلقي بها في وجوهنا رحلتنا معهم. كما أنه لا يوجد وصفة سحرية تصلح مع كل الأطفال، ولا يوجد وصفة سحرية تجدي مع الطفل نفسه دائمًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن أطفالنا يمثلون مرآة لنا، مما يضعنا في مواجهة قاسية مع ذواتنا عندما نرى أبناءنا يتصرفون بالطريقة التي نكرهها في أنفسنا.

2. عدم فهم نفسية الطفل

عدم إدراك نفسية الطفل وطبيعة المرحلة التي يمر بها بسبب سنه أو لظروف يتعرض لها كميلاد أخ جديد أو المرور بخبرة مؤلمة. على سبيل المثال، في سن معينة تكون أكثر كلمة يقولها الطفل هي «لا» وهذا له أسباب لا علاقة لها بتحدي الوالدين وتعمد استفزازهما. عندما لا يفهم الوالدان ذلك قد يدخلان في صراع قوي مع الطفل مما يؤدي إلى سوء سلوكه وتعقد الأمور، ومن ثم إحساس الوالدين بالعجز والتخبط.

قد ينتج عن عدم الفهم هذا أيضًا، معاملة الطفل على أنه بالغ، فنتوقع منه أن يقدر الظروف والعواقب، وأن يطيع الأوامر من أول مرة، وأن يتصرف بشكل مقبول، فلماذا يصر على وضع يده في مقبس الكهرباء وقد أخبرته أن هذا خطر، ولماذا لا يرتدي ملابسه سريعًا حتى لا نتأخر، وكيف تخبرني ابنتي التي لم تتجاوز المرحلة الابتدائية أنها تحب زميلها في الفصل؟! عندما تكون توقعاتنا من أبنائنا غير واقعية، نشعر بالإحباط والغضب.

3. ضغوط الحياة

كثرة المسئوليات والتحديات كمشكلات في العمل، أو توتر العلاقة بين الزوجين، أو مرور أحد أفراد العائلة بأزمة، أو الأحداث العامة وغلاء الأسعار، إلخ. كل هذا قد يدفعنا إلى الغضب لأقل سبب، أو سرعة الانفعال في مواقف نستطيع في المعتاد أن نضبط فيها أنفسنا. قد تكون تلك الضغوط مؤقتة، ولكن المشكلة الأكبر عندما تكون تلك الضغوط هي الأصل في الحياة.

4. الإحساس بعدم الكفاءة

إحساس الوالدين بعدم الكفاءة في التربية والعجز عن التعامل مع المواقف المختلفة التي تواجههم مع الطفل، إما لضعف الثقة بالنفس أو لقلة الخبرة أو العلم. إن جزءًا كبيرًا من الغضب الذي نصبه على أبنائنا يرجع إلى أننا بشكل لاواعٍ نعاقبهم على تذكيرهم إيانا بإحساسنا بالفشل. على سبيل المثال، يمثل بكاء الطفل لبعض الآباء مؤشرًا على فشلهم وليس على احتياجاته.

5. الإرهاق

عدم الحصول على القسط الكافي من النوم والراحة يجعل الإنسان متوترًا سيئ المزاج، وتسهل استثارته لأقل الأسباب.

6. تحمل الأم المسئولية طوال الوقت

تحمل الأم مسئولية الأطفال طوال الوقت وافتقادها لوقت خاص تمارس فيها هواية أو عملًا تحبه. وقد يعود ذلك إما إلى عدم ثقتها في أن أحدًا سيقوم بالأشياء بالكفاءة التي تنشدها، أو العيش بعيدًا عن الأهل فتفتقد من يساعدها، أو عدم استعداد الزوج للتعاون اعتقادًا منه بأن التربية مسئولية الأم وحدها، أو لانشغاله الشديد في العمل.

7. السعي إلى الكمال

الرغبة في أن نؤدي كل شيء على أكمل وجه (التربية، والعلاقة بالزوج، وأعمال المنزل، والعمل خارج المنزل إلخ). يظهر ذلك أيضًا في رغبتنا أن يسير كل شيء وفقًا لخططنا، وأن يقوم الأبناء بالسلوكيات الصحيحة أو يلتزموا بالقواعد طوال الوقت مثل غسل الأسنان، وترتيب الغرفة، وتناول الطعام الصحي إلخ. ولأن الكمال مستحيل، فإننا بسعينا إليه نضع أنفسنا تحت ضغط الشعور المستمر بالتوتر والذنب والفشل.

السعي إلى الكمال أيضًا يجعل توقعاتنا من أنفسنا غير واقعية. فقد تكون معلمًا ناحجًا أو قارئًا في التربية، فتشعر بالخزي عندما تخطئ في حق أبنائك أو تقصر في تنفيذ الأنشطة معهم.

8. تدخل الآخرين

التدخل في تعاملك مع طفلك بشكل مغاير لأسلوبك وقناعاتك في التربية واستخدام أساليب تراها خاطئة، كأن تكسر الجدة القواعد التي تتبعها مع طفلك، أو ترغب في أن يكون الطفل نظيفًا دائمًا وتفرض عليه قيودًا كثيرة مما قد يضع عليكِ ضغطًا ويشعرك بالارتباك.

9. اختلاف طبيعة الطفل عن طبيعة الوالدين

هناك ما يسمى بالأنماط المزاجية Temperament traits. فقد ذكرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال أن بعض الأطفال طبيعتهم سهلة حيث يمكن توقع سلوكهم ويتعاملون مع الخبرات الجديدة بشكل إيجابي. على الجانب الآخر، هناك أطفال يتسمون بحدة المزاج وعدم التكيف مع المواقف الجديدة بسهولة. هذا على سبيل الإجمال، فهناك 9 أنماط مزاجية للطفل تتعلق بدرجة تركيزه، ومزاجه العام، وطريقة تعامله مع الخبرات الجديدة إلخ. وعندما تختلف طبيعة الطفل عن باقي أفراد الأسرة، فهنا يكون التحدي خاصة عندما لا يكون الوالدان متفهمين لهذا الاختلاف وسببه.


والآن كيف نتغلب على العصبية ونصبح أكثر هدوءًا؟

الغضب شعور طبيعي، وليس المطلوب ألا نغضب ولكن أن ندير غضبنا ونعبر عنه بطريقة سليمة.

1. لاحظ نفسك لتعرف المواقف والأوقات التي تكون فيها عصبيًا. عن نفسي مثلًا، فإنني أتحول عندما أكون مرهقة إلى شخصية أخرى. إذا كنت مثلي فحاول التغافل عن بعض أخطاء أبنائك في مثل هذه الأوقات، والاستعانة بشخص آخر يتعامل مع الأبناء، والانتهاء مما يجب القيام به مع الأبناء قبل الوصول إلى تلك المرحلة.2. افحص القواعد التي تلزم بها نفسك وأبناءك ولاحظ الأفكار التي تدور في رأسك قبل اللحظة التي تنفجر فيها، واستبدلها بأفكار أخرى صحيحة ومنطقية. أمثلة: «هو تعبان، أو دي طبيعة سنه، هو مش قصده يستفزني/ مش معنى إني غلطت إني وحش وفاشل/ سنانه مش هتسوس لو عدى يوم من غير ما يغسلها/ أنا الكبير ودوري أحتوي الموقف/ من حقي أغضب بس المهم هتصرف إزاي/ عياطه مش معناه إني وحش/ أنا مش أم مهملة عشان مش قادرة أو ماليش مزاج ألعب معاهم النهارده، احنا بشر/ مش لازم كلامي يمشي دايمًا عشان يحترمني إلخ».3. اعمل على حل المشكلات التي تسبب لك ضغطًا نفسيًا، والتنفيس عن مشاعرك السلبية عن طريق الاستعانة بالمتخصصين أو الالتحاق بمجموعات النفسي، أو التحدث مع صديق حكيم ومحل ثقة. 4. احرص على الحصول على قسط كافٍ من النوم والراحة، وللأم: اسعي وراء أحلامك ولو بخطى بطيئة، واهتمي بأن يكون لكِ وقت خاص تسترخين فيه أو تمارسين هواية، وبأن يتحمل زوجك مسئوليته في تربية الأبناء والعناية بهم قدر الإمكان، فهذا مهم ليس لكِ فحسب بل لأبنائكما أيضًا. كذلك، اطلبي مساعدة الآخرين في العناية بالأبناء أو القيام بأعمال المنزل. 5. توقف عن السعي إلى الكمال، فهذا يريحنا ويريح أفراد أسرنا. إننا بشر، والخطأ في حقنا حتمي وطبيعي ومقبول مهما كانت درجة علمنا وخبرتنا. تقبل في بعض الأحيان أن يكون المنزل غير نظيف أو غير مرتب، تغافل عن أخطاء أبنائك وعدم التزامهم بالقواعد أحيانًا. ولأنه من الضروري أن نقدم بعض التنازلات لحساب أمور أخرى أكثر أهمية، رتب أولوياتك: هل نظافة المنزل الآن أهم أم قضاء بعض الوقت مع أبنائي؟ هل تمشيط شعره أهم أم الحفاظ على استقلاليته؟ إلخ. 6. كن حازمًا مع الآخرين عند تدخلهم في تربية أبنائنا، والحزم لا يعني الصدام، ولكن يعني إعلان وشرح قواعدنا بوضوح وحكمة للآخرين والإصرار الهادئ على تنفيذها. 7. حاول تهدئة نفسك عند الشعور بالغضب عن طريق الاستعاذة بالله، أو الاختلاء بالنفس ولو لدقائق قليلة لمراجعة أفكارك، أو الانشغال بشيء يساعدك على استعادة هدوئك. 8. اهتم بشغل الأطفال ومساعدتهم على تفريغ طاقتهم عن طريق اللعب والخروج إلى الأماكن المفتوحة أو حتى التمشية في الشارع، فالملل يجعل مزاج الطفل سيئًا، والخروج من الأمور الهامة جدًا التي تحسن مزاج الطفل والوالدين على حد سواء. 9. تعرف على ما يثير غضب الطفل أو الأوقات التي يكون فيها مزاجه سيئًا، وحاول تجنب تلك المواقف مسبقًا أو الاستعداد لها قدر الإمكان.10. تعلم في التربية عن طريق القراءة أو حضور الدورات، لفهم الطفل ومراحل نموه وتأثير الظروف المختلفة عليه، وتصحيح أفكارك التربوية الخاطئة، ومعرفة كيفية التعامل مع السلوكيات الصعبة للطفل.11. استعن بالمشورة النفسية المتخصصة إن فشلت في إدارة غضبك بشكل سليم، فغالبًا ما يكون ذلك من تأثير خبرات مسيئة في تنشئتك تحتاج إلى المساعدة في التعافي منها، أو نتيجة لعدة مشكلات متشابكة وتحتاج من يساعدك في الاستبصار بها وإيجاد حلول لها.


إذا دققت في الأسباب التي تجعلنا سريعي الانفعال، ستجد أنها تدور حول المشاعر السلبية التي نعجز عن إدراكها والتعامل معها، كالإحباط والذنب والفشل والإرهاق والغضب والغيظ؛ ولهذا فإن الحلول أيضًا تدور حول إدراك تلك المشاعر والتعامل معها بشتى الطرق المقترحة أعلاه.

حتى تنجح، لابد أن تتسامح مع نفسك، فلا يكسر الدائرة المفرغة للغضب والذنب التي ذكرناها في بداية المقال سوى أن تسامح نفسك، وتعمل على تصحيح خطئك والاعتذار للطفل. ورغم أننا سنظل نغضب وننفعل، ولكن بالمثابرة، ستقل حدة انفعالك، ولن يكون هو الأصل، وستتحسن قدرتك على إدارة غضبك شيئًا فشيئًا. وهذه هي التربية الحقيقية: رحلة نسير فيها مع أبنائنا، نعيد اكتشاف أنفسنا معهم، وننمو.