لم يكن حتى عام 1987 أن تكشَّفت على الملأ الوقائع الصحيحة لحكم ستالين الذي كان يجري الاحتفاء به، ونشرت صحيفة أخبار موسكو وصية لينين التي يوصي فيها مؤسس روسيا السوفيتية باستبعاد ستالين لأنه شديد القسوة. في تلكم الأيام، كان جورباتشوف السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، المنصب الذي كان قد شغله قبل ذلك بعامين. وهنالك لحظات في حياة الأمم كلها يمسي فجأة زائفًا كل ما تم تقديمه بوصفه حقيقة، ويطفو على السطح ما جرى إخفاؤه.

وما يبدو ضربًا من المستحيل أن يحدث لتلك الأمم التي لا قديسين لها في السماء، والتي سقطت ذاكرتها التاريخية في جب النسيان، أو تلك التي جرى تجريدها من الوجود بشكل ممنهج – وأنا أفكر عندما أقول ذلك في مصير الأرمن الذين عانوا من  إبادة عرقية متنازع عليها، أو تلك التي تحدث لسوريي اليوم الذين يعيشون تحت حكم عائلة الأسد – حدث لمواطني الاتحاد السوفيتي. لقد عاشوا لوهلة لحظة استعادة للحقيقة التاريخية خلال حقبة جورباتشوف والبريسترويكا (إعادة البناء) التي لم تنقذ الاتحاد السوفيتي من الاضمحلال، لكنها جلبت الحريات للمواطنين.

لا يعني ذلك أن النظام تغير فجأة إلى نظام ليبرالي، بل كان جورباتشوف يكافح من أجل أن يجعل المركزية في الاقتصاد والحياة السياسية تعمل بشكل أفضل. فرغم كل شيء، كانت روسيا دولة لم تتوقف قط عن تصنيع وجمع الصواريخ والرءوس الحربية، بينما لا توجد أحذية كافية للجميع(1). وحتى خلال البريسترويكا، كانت الدولة العميقة ما زالت تقبض على المعارضين وتودعهم المصحات النفسية أو ترسلهم إلى مستعمرات عقابية موروثة من نظام الجولاج. لكنها مع ذلك كانت أيامًا للتغيير العميق. أيام لا تنسى.

اليوم، تتذكر الصحف والمجلات في كل أنحاء العالم تلك الأوقات التي غيَّرت كليًّا ميزان القوى في العالم والتحدي الذي مثلته محاولة الإبقاء على اتحاد سوفيتي بلا إصلاح بينما تحظى الشفافية واقتصاد السوق بظهورهما الأول في مجتمع يضم نحو 300 مليون نسمة. يحمِّل كثيرون جورباتشوف المسئولية عن انهيار الاتحاد السوفيتي، بينما يحمِّله آخرون المسئولية عن كونه مهد الطريق عن غير قصد نحو الانفصالية والعودة إلى الدول القومية التي شكلت الاضمحلال التالي. كانت معركته أن يبقي «الأمة السوفيتية» معًا دون اللجوء إلى القوة، بينما يبقي برنامجه للإصلاح الليبرالي على الطريق بعد فترة من الركود. وقد خسر المعركة. الغرب الذي كان يأمل في أن يتخلص من الكتلة الشيوعية بأقصى سرعة ممكنة، شارك، مع ذلك، في جزء من المسئولية: إنه لم يقم غالبًا بما يكفي ليقدم لجورباتشوف الدعم المالي الضروري لأن يكمل إصلاحاته.

عندما طلب جورباتشوف عام 1991 من مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى حزمة مالية لإنقاذ اقتصاد بلده، يبدو أن جورج بوش الأب علق قائلًا إن ذلك «سيبدو كصب الماء في الرمل». لم تصل المساعدة قط وانهار الاتحاد السوفيتي. كتب مستشار جورباتشوف، أندري جراشيف: «كان ينبغي أن يلقى جورباتشوف من الغرب معاملة أفضل على سياساته …»(2).

مع ذلك، في عالمنا المضطرب اليوم، فإن شخصًا مثله، السكرتير العام الأخير للحزب الشيوعي السوفيتي، وأول وآخر رئيس للاتحاد السوفيتي (تم إنشاء منصب «الرئيس» ضمن إصلاحات جورباتشوف السياسية(3)) يبدو لكثير من الديمقراطيين كبطل، بطل غير محظوظ، بطل نفتقده، رغم أنه كان يحاول يائسًا أن يجاري الأزمنة الجديدة، وأن ينقذ القدر الذي بقي صالحًا من الأيديولوجية المهزومة، «الاشتراكية الحقة».

ما يزعج كثيرًا هو التسرع الذي تبديه شريحة مهمة من النخبة السياسية المعاصرة في استدعاء سيرة جورباتشوف أو في ترتيب رثائه على عجل. إنه ليس رجل لأزمنتنا، إنه رجل حاول أن يجمع سويًّا أممًا تفتت لاحقًا. من بعده، حلت أسطورة الأمة العرقية كمبدأ مؤسس لسلطة الدولة محل المساواة والعدالة. كيف بعد ذلك يمكن أن يلقى مثله احترام وإعجاب القوميين أو أولئك الذين بنوا ثرواتهم على الرأسمالية الزاحفة والفساد؟ إن ذلك غير ممكن ببساطة.

اليوم، يرى النظام السلطوي في روسيا الحديثة على سبيل المثال في سياسة الجلاسنوست (الشفافية) لجورباتشوف خطأً فظيعًا، ويعمل النظام في سبيل التقويض الحثيث للحريات والحقوق المدنية التي تحققت عبر مسار جورباتشوف نحو الإصلاحات. في كتابه الأخير، رفع جورباتشوف صوته ضد الانتكاس الذي استهلك «روسيا الأم العظيمة»، وقد وجه خطابه إلى الكرملين عندما قال: «كفوا عن رؤية أعداء في أولئك الذين يتظاهرون أو ينتقدون أو يوقعون عرائض»(4). لكن كلماته ذهبت أدراج الريح. في يوم جنازته، السبت ٣ سبتمبر/أيلول، خمسة روس عاديين ممن اصطفوا لتشييع جثمانه قُبض عليهم بسبب حملهم ملصقات ضد الحرب على معاطفهم.

علقت الصحفية الروسية التي تعيش في إيطاليا، أنا زافيسوفا، قائلة إن جورباتشوف صنع معجزة بتحويل هزيمة الحرب الباردة إلى نوع من النصر حين قاد أمة بأسرها إلى الاعتقاد بأنهم ضحايا الشيوعية لا فاعلين مشاركين في المسئولية مع النظام، إلى الحد الذي بدأ معه الغرب يستشعر التعاطف مع الروس …(5)

إن ذلك، لسوء الحظ، لا يهم القادة الطموحين والأقوياء؛ إذ يعميهم هاجس استعادة الإمبراطوريات، وإذ بكل هذا التراكم من التعاطف الذي تم بناؤه تضيعه الإمبريالية الروسية الجديدة. إذا كان تيم مارشال صائبًا في كتابه «سجناء الجغرافيا» (2016)، فليس لدينا إذن الكثير لنكون متفائلين به. في فقرة من كتابه، يتخيل الرئيس الروسي الحالي يسأل الله كل ليلة: «لماذا لم تضع بعض الجبال في أوكرانيا؟» لو أن الله وضع جبالًا في أوكرانيا، إذن لما كان هذا الانبساط الهائل من الأرض المستوية المسمى السهل الأوروبي الشمالي هو ذلك الإقليم المشجع على الهجوم على روسيا مرارًا كما فعل نابليون وهتلر في القرنين الأخيرين، ولم يكن ساعتها النظام الروسي مضطرًّا إلى انتزاع السيطرة على تلك الأراضي والهجوم على جيرانه إذا ما قرروا أخذ طريقهم نحو تقرير المصير.

من هو على حق بالتأكيد هو المخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا الذي أعلن في مهرجان البندقية السينمائي هذا العام أن غزو أوكرانيا مرتبط بغياب المحاسبة على الجرائم السوفيتية التاريخية، وقد دعا إلى محكمة لكل تلك الجرائم التي ارتكبتها دولة الاتحاد السوفيتي منذ 1917 حتى انهيار الاتحاد. بدون توبة، بدون اعتراف بالشر الذي ارتُكب في الماضي، سيعيد التاريخ نفسه.

لقد فهم جورباتشوف ذلك، لكنه لم يعد موجودًا.

5 سبتمبر/ أيلول 2022

المراجع
  1. Isabelle Mandraud, Marie Jégo, « Mikhaïl Gorbatchev, le dernier dirigeant de l’URSS, est mort », Le Monde, August 30, 2022.
  2. Andrei Grachev, Gorbatchev, le pari perdu ? De la perestroïka à la fin de la guerre froide, 2011.
  3. «احتكار الحزب للسلطة سيحل محله نظام متعدد الأحزاب. وسع السيد جورباتشوف المكتب السياسي وأضعفه، وألغى مكتب السكرتير العام، القمة التي منها تحكم القادة السوفييت في البلد منذ أيام ستالين، وأحل محله رئيسا منتخبا – هو نفسه – مدعوما بمجلس رئاسي من المستشارين.» (New York Times, « Mikhail S. Gorbachev, Reformist Soviet Leader, Is Dead at 91 », August 30, 2022).
  4. Mikhail Gorbachev, Le futur d’un monde global, 2019.
  5. « La Russia e quel miracolo sprecato » (Russia and that wasted miracle), in La Stampa, September 4, 2022.