من مُنطلق أن حِيازة الأراضي الزراعية، وطرق الانتفاع بها، ونظام إدارتها، هو بُؤرة التاريخ الاقتصادي المصري على مدى عصوره المتعاقبة، ونظرًا للتأثيرات المباشرة التي تَتسبب بها طبيعة تلك الحيازة وسُبل إدارتها في تشكيل المجتمعات العمرانية عامةً، والمجتمعات الريفية على وجه الخصوص؛ فإن نظام الحيازة الزراعية خلال فترات السيطرة العثمانية على مقاليد الحكم في مصر، لعب دورًا مركزيًّا داخل الحياة الاقتصادية في الريف المصري، باعتباره حلقة الوصل الأساسية بين الدولة وإدارتها من جهة، والمجتمع الريفي بكل طوائفه ومستوياته الطبقية من جهة أخرى.

 هذا إلى جانب الدور الذي لعبته الحِيازة الزراعية في تشكيل حياة الفئات الاجتماعية المرتبطة بالأرض الزراعية، وتأثيراتها على حياة الفلاح المصري بشكل خاص، وطبيعة علاقاته المتشابكة مع تلك الفئات الاجتماعية على اختلافها، فدائمًا ما رسمت الحِيازة الزراعية في مصر الخطوط الأولية التي تبلور الطبقات الاجتماعية وتحدد بنيتها وشكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.

خاصة بعد التغيير السياسي الذي حدث عام 1517م، وتحول مصر من دولة ذات نظام مستقل تحت حكم سلاطين المماليك بالقاهرة إلى مجرد ولاية تابعة لإدارة سلاطين العثمانية بإستنبول، وما ترتب على ذلك من تغيرات جوهرية في نظام حيازة الأراضي الزراعية وطرق جباية خراجها، وفقًا لطبيعة القوانين المنظمة لعمليات تداول الحيازات الزراعية التي فرضها العثمانيون على مصر.

ولو أن نظام حيازة الأراضي الزراعية في مصر دائمًا ما شهد تغييرات حادة ومتنوعة، تبعًا للتغيرات السياسية المتتالية ونظم الحكم المتعاقبة، كان أبرزها تلك التغييرات التي أحدثها السلطان الأيوبي صلاح الدين عام 1176م، بأن استبدل بنظام حيازة الأراضي الخراجية (الأراضي التي يدفع أصحابها الخراج مقابل الانتفاع بها)، «نظام الإقطاع العسكري»، والذي قسَّم الأراضي الزراعية بمقتضاه إلى 24 قيراطًا، أربعةٌ منها تخص السلطان، وعشرة قراريط موزعة بين الأمراء، وعشرة أخرى للجند.

«اعلم أنه لم يكن في الدولة الفاطمية بديار مصر، ولا فيما مضى قبلها، لعساكر البلاد إقطاعات بمعنى ما عليه الحال اليوم في أجناد الدولة التركية».
المقريزي، الخطط

وهو النظام نفسه الذي اعتمده وطوَّره سلاطين المماليك باعتبارهم ورثة الأيوبيين وعبيدهم، ذلك النظام الذي زفر أنفاسه الأخيرة على يد العثمانيين بعد أن احتلوا الأرض وأحلوا تدريجيًّا بدلًا عنه «نظام الالتزام»، المعتمد على حيازة الأراضي الخراجية التابعة للدولة، وربطوه بحزمة من التشريعات القانونية قُسمت الأراضي من خلالها إلى أنواع مختلفة من الحيازات الزراعية وفقًا لخصوبتها واستخدام خراجها، وبلا شك فقد أثر ذلك على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفلاح المصري خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

الفلاحون بين الحيازة الزراعية والتراكيب الاجتماعية  

من الأكيد أن الأرض والفلاح عنصران لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ذلك أنه وعلى الرغم من تعدد الدراسات التاريخية والاجتماعية حول الفلاح المصري عبر العصور المتتالية والمختلفة، فقد اتخذت في أغلبها من شكل الملكية الزراعية ونُظم حيازة الأراضي أساسًا لفهم طبيعة أوضاع الفلاح داخل الريف المصري، وطبيعة علاقته بالسلطة ونظامها الإداري الممثل في موظفي الدواوين، والملتزمين القائمين على تحصيل الخراج والضرائب.

ذلك وقد تشكلت طبقة الفلاحين من المُزارعين ومُستأجري الأرض الزراعية، وهم المصريون الأقباط الذي أقرهم الخليفة عمر بن الخطاب على أراضيهم، بعد دخول الجيوش العربية إلى مصر عام 641م، بل حرم على العرب الفاتحين سكن الريف والعمل بالزراعة؛ خوفًا أن يُعيق اختلاطهم بالأقباط المزارعين خطط الغزو؛ ولو أن الخلفاء الأمُويين ما لبثوا أن تخلوا عن تلك السياسة، وسمحوا لبعض من بيوت قبائل عرب القَيسية بالاستقرار بالحوف الشرقي لدلتا النيل، والاشتغال بالزراعة، قد يصل عددهم إلى ثلاثة آلاف، وفقًا للمقريزي. 

«لما فتح عمرو بن العاص مصر، صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط، على دينارين دينارين، وجعل لكل فدان عليهم نصف أردب قمح وويبتين من الشعير».
المقريزي، الخطط

وعلى الرغم من ذلك يبدو أنه لا يمكن الحديث عن اختلاط حقيقي بين الأقباط المحليين والعرب الفاتحين قُبيل منتصف القرن التاسع الميلادي حين اضطر العرب إلى امتهان الزراعة ومخالطة الأقباط، بعد أن أقر الخليفة العباسي المعتصم بالله «833 – 842م» إسقاطهم من ديوان الجند، وقطع رواتبهم؛ وعلى هذا النحو تشكلت طبقة الفلاحين في مصر امتدادًا حتى العصر العثماني من عنصرين أساسيين، هما الأقباط المُعربون والعرب المُمصرون.

«خبر أراضي مصر بعد نزول العرب بأريافها واستيطانهم وأهاليهم فيها، واتخاذهم الزرع معاشًا وكسبًا، وانقياد جمهور القبط إلى إظهار الإسلام، واختلاط أنسابهم بأنساب المسلمين لنكاحهم المسلمات».
المقريزي، الخطط

في مصر العثمانية تبلورت طبقة الفلاحين وأصبحت عماد الحياة الاقتصادية، حيث اعتمدت السلطة العثمانية في إدارتها للأراضي الزراعية وتعزيز المنفعة من إنتاجها، سياسة موازية مفادها إدارة الفلاحين أنفسهم وجوانب حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، بهدف استغلال جل جهدهم في زيادة إنتاجهم الزراعي الذي ذهب في أغلبه نتيجة لهذه السياسات إلى موائد طبقات اجتماعية أخرى احتلت لنفسها الصدارة، تاركة للفلاحين ما قد يقيهم الموت من فُتات ما يحصدونه، حتى حرمتهم السلطة نهائيًّا من استخدام القمح، واقتصر طعامهم على الشعير والذرة والفول. وبذلك عاش الفلاحون في قُراهم عيشةً غاية في البساطة داخل بيوت مكونة في أغلبها من طابق واحد بُني بالطوب النيء غير المحترق، يشاركونه مع مواشيهم.

«الفلاحة صناعة ثمرتها إثارة الأرض وعلاج نباتها وتحصيل أسبابه، وهى معاش المُستضعفين ويختص مُنتحلها بالمذلة، فلا ينتحلها أحد من أهل الحضر».
مقدمة ابن خلدون

يبدو أن  طبقة الفلاحين عرفت شرائح متفاوتة نسبيًّا في ثرائها يصعب على أي حال تقديره بصورة دقيقة، إلا أنه من الأرجح أن هذا الثراء النسبي قد نتج عنه أن بعضًا من الفلاحين قد اضطروا للعمل كأُجَرَاء لدى فلاحين آخرين ينتمون إلى شرائح مختلفة. بالإضافة إلى ذلك فإن بعض أفراد تلك الطبقة قد استطاعوا نتيجة حسن اتصالهم بالإدارة العثمانية، تكوين شريحة مميزة شاركت بشكل فعال في الإدارة المحلية داخل القرى، واستغلت نفوذها على أبناء الشرائح الأخرى من طبقاتها، والتى يمكن التعريف بها اصطلاحًا بمشايخ القرى والنواحي، ومشايخ الحصة.

وإن كانت الحيازة الزراعية لطبقة الفلاحين خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين سواء في الدلتا أو الصعيد قد انحصرت في مساحات محدودة للغاية، وارتبط تقسيمها على الفلاحين في الأساس وفقًا لجودة الأرض ونواحيها، إلا أننا نجد تفاوتًا كبيرًا في طبيعة الحيازة الزراعية بين الدلتا والصعيد، إذ تتراوح حصة الفلاح في الدلتا ما بين 1-35 فدانًا من حيازات الانتفاع، في مقابل 1-5 من الانتفاع الحيازي لكل فلاح في الصعيد، وفقًا لما ذكره أيمن محمود في كتابه «الأرض والمجتمع في مصر في العصر العثماني». 

وهو ما نتج عنه ذلك التمايز بين الفلاحين في المسئولية الضريبية أمام الإدارة المحلية داخل القرى والنواحي، بينما عرفت الدلتا ذات الأراضي الأثرية المسئولية الجماعية في سداد الضرائب، بحيث يلتزم شيوخ القرى والنواحي أمام السلطة عن ضرائب فلاحي قراهم ومُزارعي نواحيهم، نجد على النقيض أراضي المساحة في الصعيد قد التزم كل فلاح فيها بمسئولية فردية عن دفع ما استحق عليه من ضريبة للدولة، مما خلق استقرارًا نسبيًّا لفلاحي الصعيد مقابل فلاحي الدلتا الذين تسحَّبوا من أراضيهم بنسب كبيرة هربًا من ضغط الضريبة.  

وفي النهاية فإن هذا التباين بين الفلاحين في الحيازة الزراعية وما نتج عنها من تمايز في المسئولية الضريبية، هو تحديدًا ما يمكن اعتباره مؤشرًا نستطيع الاعتماد عليه في تصنيف الفلاحين اجتماعيًّا لشرائح مختلفة وفئات متنوعة.

الفلاحون القراري 

عَرفت مصر التصنيف الفئوي للفلاحين منذ أقدم العصور، وقد عُرف الفلاحون القرار في مصر منذ العصر الفاطمي وفقًا لإشارة المقريزي في كتابه الخطط، «ويسمى المزارع المقيم بالبلد فلاحًا قرارًا»، ثم بدأ هذا التصنيف الاجتماعي يتبلور بشكل إداري زمن الأيوبيين عندما تم تقسيم فلاحي القرى إلى فريقين، أحدهما مستقر ومُلازم للأرض وهم القرارون، وفريق آخر الفرارون. 

ولقد اعتبرت هذه الفئة في العصر العثماني من أكثر فئات الفلاحين ارتباطًا بالأرض، وعُرِّف الفلاح القرار بأنه الذي ولد ونشأ بقريته واستقر بها، وارتبط بأرض محددة تعهد برعايتها قد سجلت بدفاتر الترابيع، ويمكنه توريث انتفاعها لأبنائه. ويحلل محمد عفيفي الوضعية الاجتماعية لفلاحي هذه الشريحة في كتابه «الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني» مؤكدًا تبعيتهم الملازمة للأراضي الزراعية والتي أدت بدورها إلى تقسيمهم على حصص الأراضي الموقوفة.

وإن كان ذلك لا يعني أن الفلاح القرار  في مصر العثمانية كان عبدًا، وإنما  نبع هذا الوصف «القرار – أي المقيم» من طبيعة الملكية الزراعية؛ فلم تكن الأراضي المصرية في العصر العثماني إلا ملكًا للسلطان يقوم على رعايتها الفلاح عن طريق وسيط بينه وبين السلطة، سواء كان الملتزمين أو مشايخ النواحي، وهو ما توضحه لنا العديد من الوثائق التاريخية الباقية من هذه الفترة، مثل عقود الالتزام التي تُقسم أراضي قريتي «الحُوراني» و«العَدلية» بولاية فارسكور بين ثلاثة من الملتزمين بالتساوي، ومن ثم تقسيم الفلاحين القرار على الأرض بالتساوي.

ولا شك فقد اكتسب فلاحو القرار المكانة الاجتماعية المتقدمة بين الفئات الأخرى من خلال التمايز الحيازي للأرض ووراثة حق الانتفاع فيها، وقد رسم ذلك بدوره طبيعة الحياة الاقتصادية لهذه الشريحة، وطبيعة علاقتها الهادئة مع الإدارة المحلية، وحدَّد أيضًا شكل تفاعلاتهم الاجتماعية مع غيرهم من الفلاحين أبناء الفئات الأخرى.

الفلاحون البَطالون

بالاطلاع على عقود الإيجار الُمبرمة بين الفلاحين والملتزمات ومن خلال تتبع العلاقة الإيجارية يمكننا فهم التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين القرارين والبطالين، فبينما يلتزم الفلاح القرار وورثته من بعده بالبقاء في الأرض، نجد الفلاح البطال على النقيض لا يلتزم  بأرض محددة، بل هو مجرد مزارع  أجير غير مُنتفع بأرض محددة. وهو ما يؤكد عليه أيمن محمود وفقًا للنص الوارد في سجلات دفتر الترابيع، والموجه إلى ملتزم ناحية «مَطاي» بالبهنساوية بخصوص أن الفلاحين البطالين «ليس عليهم فلاحة مقررة ولا غرام ولا حادثة، لعدم حيازتهم لمنفعة الأرض».

ولا شك فقد خلق هذا التمايز الاجتماعي الناتج عن التباين الحيازي بين الفلاح القرار الحائز والفلاح البطال غير الحائز، نوعًا من الصراع الاجتماعي والاقتصادي بينهما، وخلق لدى البطالين أحقادًا تجاه الفلاحين الحائزين، ما دفعهم في كثير من الأحيان نحو أعمال الشغب ونهب المزروعات. 

وإن كانت السلطة العثمانية لم تتهاون مع البطالين في حالة انخراطهم في أعمال شغب وعنف، فإننا نجدها تهتم بحسن معاملتهم، وتحرص على رفع أيدي الإدارة المحلية عنهم، في حالة تعرضوا لمظالم؛ نظرًا للحاجة الملحة لخدماتهم الزراعية، وكثيرًا ما اضطرت السلطة إلى توزيع أراضي الفلاحين المنسحبين بين هؤلاء البطالين، أو تقسيمهم كأُجَرَاء لدى الملتزمين، كنوع من تحمل مسئولية أراضي الُمتسحبين.

الفلاحون المُرابعون

جاءت فئة الفلاحين المرابعين في المرتبة الثالثة طبقًا للتصنيفات الاجتماعية التي أقرتها الإدارة العثمانية عام 1528م، والفلاح المرابع هو الفلاح الذي يقوم على أعمال الري والصرف داخل أراضي الناحية، ويتقنون كذلك أعمال الجرافة والدماسة، مقابل مبالغ محددة من المال، وفقًا لما ورد في كتاب «الأرض والمجتمع في مصر في العصر العثماني»، فإن ثمانية من المرابعين قد قاموا بالعمل كـ «أنفار» للجرف في الثلث القبلي من بلاد الجيزة مقابل 20 بارة (عملة عثمانية ضُربت في عهد السلطان مراد الرابع)، لكل فلاح منهم.

ولا يعني ذلك بالضرورة أن عمل الفلاح المرابع اقتصر على القيام بأعمال الري والجرافة فقط، بل عمل كثير منهم أيضًا كمُزارعين مقابل الحصول على حصة عينية من المحصول قد تصل إلى الربع، وهو ما نجده واضحًا في سجلات محكمة الباب العالي، حيث حصل مجموعة من الفلاحين المرابعين على 8 أرادب سمسم من ميخائيل بن يوسف، مقابل الزرع والتَزريع في أرضه المزروعة بالسمسم في ناحية «القشيش» بالقليوبية.

الفلاحون المَشاع

يأتي الفلاحون المشاع في نهاية التصنيف الاجتماعي الذي اعتمدته الإدارة العثمانية، ونعني بالفلاح المشاع ذلك الفلاح الذي هجر ناحيته إلى ناحية أخرى بغرض المزارعة  في أراضٍ جديدة، مقابل الانتفاع بجزء مما تنتجه تلك الأراضي، لمدة محددة ومعلومة داخل عقود حفظتها لنا دار الوثائق تحدد العلاقة الإيجارية، وتبين التمايز الاجتماعي بين الفلاحين المشاع وغيرهم من فئات الفلاحين المُقيمين والمُرابعين.

ويتضح أن الفلاحين المشاع اختلفوا عن باقي الفئات الأخرى في كونهم لم يرتبطوا بشكل نفعي مع حيازة الأرض، بل عملوا أجراء مشاع يفلحون لكل حائز مقابل حصة عينية أو نقدية، ما جعل منهم أكثر ميولًا للانخراط في أعمال الشغب والإغارة على النواحي، ووضع أيديهم على الأراضي بدون وجه حق، ما دفع السلطة لاتخاذ إجراءات رادعة ضدهم، ويشير أيمن محمود إلى الأوامر التى صدرت إلى الأمير عبد الباقي كاشف بالتوجه إلى ناحية «المليجة» بولاية البهنساوية للكشف على الناحية والتصدي للفلاحين المشاع الأشقياء.

ظاهرة تَسحُّب الفلاحين وجذورها التاريخية 

إذا كنا نحاول فهم ظاهرة تَسحُّب الفلاحين، فعلينا أولًا أن نتساءل إن كانت هذه الظاهرة مرتبطة بمصر العثمانية وإدارتها أم أنها معضلة ممتدة قد واجهت الريف المصري على مدى تاريخه، وعرفتها الإدارة في مصر على اختلافها وتعاقبها؛ وهو ما يشير إليه عبد اللطيف أحمد في كتابه «مصر والإمبراطورية الرومانية»، مؤكدًا أن مصر تحت حكم الرومان قد عرفت تَسحُّب الفلاحين من الريف، وأن السلطة الرومانية على طول تاريخها قد عانت منه، كما عانت السلطات المتعاقبة على مصر بعد سيطرة العرب المسلمين عليها، حتى إن الإدارة الأيوبية اضطرت إلى تصنيف الفلاحين إلى قرارين وفرارين، ثم سرعان ما تفشت هذه الظاهرة في العصر المملوكي بصورة كبيرة نتيجة لسياسة المماليك الجراكسة في إدارة إقطاعاتهم.

عندما استولى العثمانيون على مصر وجدوا نظامًا إداريًّا لا يتفق مع قوانينهم، فعملوا على وضع تشريعات جديدة تتفق مع رؤيتهم لمصر كولاية تابعة لإستنبول، كان أبرز تلك التشريعات هو «قانون نامة مصر» الذي أصدره السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1525م، والذي اشتمل على نصوص تنظم إدارة الأرض الزراعية، لضمان أكبر منفعة منها، وهو ما انعكس سلبًا على حياة الفلاحين الذين وقعوا ضحية للضغط الضريبي وتعسف الملتزمين، ما دفعهم للتَسحُّب من أراضيهم بأعداد كبيرة، وهو ما قد يفسر لنا ما أقبل عليه الوالي سليمان باشا الخادم «1524- 1534»، في وقت مُبكر من الحكم العثماني من العمل على تجهيز تعداد للفلاحين يحدد من خلاله حجم التَسحُّب ومواطنه.

بناءً على ذلك فإن ظاهرة التَسحُّب تتلخص في كونها «هجرة الفلاحين من قُراهم ونواحِيها بإرادتهم دون علم من الإدارة المحلية بذلك، كوسيلة وحيدة للفرار من ظلم الحكام وتعسف الملتزمين»، وهي ظاهرة ممتدة في تاريخ مصر على اختلاف فتراتها التاريخية، نتيجة عمليات استغلال الفلاحين المستمر في مصر عبر العصور، إذ لم يجد الفلاحون وسيلة أخرى للمقاومة سوى التسحب والارتحال من أراضيهم إلى مكان آخر، هربًا من الجباة وابتغاءً للوصول إلى أراضي جيدة الريع والمحصول.

وإن كان من الصعب تفسير ظاهرة بهذا الامتداد التاريخي تفسيرًا كاملًا، دون دراسة مخصصة وعميقة للحياة الاجتماعية الممتدة التى فرضها نمط الإنتاج الزراعي في وادي النيل ودلتاه، فجدير بنا التأكيد على أنه لا مفر من قراءة ظاهرة التَسحُّب في سياق فهم طبيعة التنظيمات الاقتصادية والإدارية للدولة العثمانية داخل مصر، فحتى إن لم تكن ظاهرة التَسحُّب نتيجة مباشرة للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي اتبعها العثمانيون، فإنها قد تبلورت بملامح أكثر وضوحًا في مصر العثمانية كنتيجة لفترات الفساد والأزمات الممتدة، والتي كانت بلا شك نتيجة السياسات العثمانية. 

أسباب التَسحُّب واتجاهاته  

كان تحول طريق التجارة بين الشرق والغرب بعيدًا عن مصر والشام إلى رأس الرجاء الصالح عام 1488م بالغ الأثر على مصر المملوكية، إذ خسر سلاطين المماليك على أثر ذلك مصدر ثرائهم الأهم، ما دفعهم لرفع قيمة الضرائب على الإقطاعات الزراعية بهدف تعويض ما خسروه من المكوس التجارية، وهو ما أثقل بلا شك كاهل الفلاحين، بحيث نجد السلطان الغوري «1501-1516م» في النهاية يزيد من القيمة الضريبية المفروضة على الفلاحين رغبةً منه في تجهيز جيوشه لمواجهة الغزو العثماني، ما نتج عنه تَسحُّب الفلاحين من أراضيهم بأعداد ضخمة تسببت في تقلص المساحة المنزرعة، كادت تؤدي إلى خراب قرى بأكملها.

«فلما سمع أهل النواحي بذلك أخلوا البلاد وتركوا زروعهم في الأرض ورحلوا، وخرب بعض البلاد في هذه الحركة».
ابن إياس، بدائع الزهور 

أدت التغييرات الإدارية التي أحدثتها الدولة العثمانية في نظام حيازة الأراضي الزراعية – تلك التغييرات الناتجة عن إلغاء النظام الإقطاعي وتحويل الأراضي الزراعية إلى ملكية السلطان – إلى إعادة تشكيل خريطة القوى الاجتماعية في الريف المصري، حيث أدى العمل بنظام الالتزام إلى خلق نوع من التمَايز الحيازي، نتج عنه بالتبعية تمايز طبقة الفلاحين إلى شرائح غير حائزة وشرائح حائزة للأراضي، اكتسبت تلك الأخيرة لنفسها مقعد الصدارة في الريف، وأصبحت تُمثل الطبقة الأرستقراطية داخل القرى، خاصة بعد أن أقرَّت الدولة هذا التمايز، واعتمدت عليهم كوسطاء لإدارة سياستها الضريبية، ما خلق جوًّا من الانقسامات داخل القرية الواحدة، خاصة بعد أن مكَّن هذا الوضع الإداري الشرائح الحائزة من الملتزمين وشيوخ النواحي أن يكونوا المصدر الوحيد للسلطة المحلية.

كذلك فقد خلق التمايز الحيازي للأراضي الزراعية نوعًا آخر من التمايز الاجتماعي بين الشرائح الحائزة نفسها، وفقًا لحجم ونوعية الحيازة، ما خلق نوعًا من الصراعات الاجتماعية المتداخلة والتي تتصاعد في بعض الأحيان حتى تصبح صراعًا بين قريتين، ينتج عنه في أغلب الأحيان احتراق المحاصيل، بل قد يصل إلى القتل كنوع من أنواع الحقد المتولد عن التمايز الاجتماعي.

وفقًا لأيمن محمود، فإن سجلات محكمة دمياط الشرعية تخبرنا عن مقتل الأمير عبد الرحيم السكري الأمين على يد مجموعة من الفلاحين البطالين بناحية «البسراطين» بالدقهلية. وفي ظل هذا الوضع الاجتماعي الطاحن ومع العنف الذي تبنته السلطات العثمانية لمواجهة هذه الصراعات الاجتماعية، والتي اهتمت بالمقام الأول بزيادة القيمة الضريبية المرسلة إلى القاهرة ومنها إلى إستنبول، وفي ظل تمركز السلطة التنفيذية في يد الوسطاء المحليين اضطر كثير من الفلاحين إلى التَسحُّب من قراهم ونواحيها.

وإذا ما أضفنا على ذلك السخرة والاستغلال الذي اتبعه الملتزمون في إجبار الفلاحين على العمل في أراضيهم كـ «عَونة» بدون رغبتهم، إلى جانب تسخيرهم في شق الترع ومد الجسور، ذلك أن العثمانيين لما وضعوا أيديهم على أراضي مصر وجدوا الأغلب منها بورًا، لذا فقد ألزموا كُشاف وأمناء النواحي بإجراء إصلاحات دورية للتُرع والجسور، وبالنظر لـ «قانون نامة» فقد التزمت كل ناحية من ولاية الغربية، على سبيل المثال، بإخراج مجموعة من الفلاحين لحفر 200 ذراع بالخليج السكندري. كذلك فاقت سياسة الاستغلال التي اتبعها الحائزون والأمناء قدرة الفلاحين على تحمل  مشاق زراعة الأرض ودفع ضرائبها، وإتمام أعمال السخرة في نفس الوقت، مما أدى في النهاية إلى تسحبهم إلى المدن أملًا في حياة أفضل خالية من السخرة والتعسف.

«هم دائمًا في انقباض وطرد، وكر وفر، وحبس وضرب، وسب وهوان، وشيل تراب وحفر آبار، وخروج للعونة على جهة السخرة، وتعب شديد بلا أجرة، وإذا كان ذو فضل ضاع فضله، أو ذو مال أغروا عليه الحكام، أو ذو تجارة نهبوه في الظلام».
هز القحوف، يوسف الشربيني

ولم يكن سوء أحوال الفلاحين يقتصر على الجور والظلم الواقع عليهم من الملتزمين، بل تعرضوا للظلم من قسوة النظام الضريبي والقائمين عليه من رجال الحسبة والجباة، فلم تعرف مصر على طول تاريخها هيكلًا ضريبيًّا صارمًا ومعقدًا مثل النظام الضريبي الذي أقامه العثمانيون، والذي اشتمل على ما يقرب من مائة «ضريبة ميري»، بالإضافة إلى عدد لا حصر له من «الضرائب البراني»، وفقًا لما ورد في كتاب «الأرض والمجتمع في مصر  في العصر العثماني».

وعلى الرغم من النظام الصارم الذي فرضته السلطة العثمانية والذي ظهر جليًّا في نصوص قانون نامة مصر، يبدو أن الفساد الإداري لم يكترث لهذه النصوص، ووقع الفلاحون تحت جشع الجباة وخراب ذمم الصيارفة، إذ تخبرنا سجلات المحاكم عن أحد الجباة يطالب بخراج ناحية «ناي» بالقليوبية بعد أن حصل عليها من الفلاحين، وآخر في ناحية «بجام» يطالب بنصف الخراج بعد استلامه كاملًا، بل وصل الأمر إلى تلاعب الصيارفة بأوزان النقد وقيمة العملة، وفقًا لمحمد عفيفي. 

ولا شك فقد كانت سياسة الدولة التنفيذية تجاه الملتزمين هي السبب الرئيسي وراء هذا الفساد الإداري، إذ كان شرطًا على أي شخص لديه الرغبة في شغل وظيفة الصراف لدى الملتزم أن يدفع «حُلوانًا» (وهو مبلغ من المال) نظير تعيينه، وتخبرنا دار الوثائق التي حفظت لنا العقود المبرمة عن إقرار الدولة لهذا النظام، حيث دفع المعلم بانوب بن يوسف النصراني 12 ألف بارة كـ«حُلوان» للأمير سليمان بن عبد الله، مُلتزم ناحية «سندوب» بالدقهلية.

بالإضافة إلى ذلك فقد اعتمدت الدولة المسئولية التضامُنية كطريقة لسداد الخراج وجمع الضرائب، كنوع من أنواع فرض السلطة المحلية على القرية، التي تضمن تحصيل الضرائب حتى إن عجز بعض الفلاحين اضطر لدفعها المتضامنون، إلا أن هذا الفساد المالي والتعسف في تحصيل الضرائب قد أدى في النهاية إلى تَسحُّب الفلاحين، وربما تَسحَّب شيوخ قراهم عند عجزهم من تغطية الفجوة الضريبية التى تسبب فيها التَسحُّب في الأصل.   

ولم تقتصر معاناة الفلاحين في مصر العثمانية على استغلال الملتزمين وفساد النظام الضريبي فحسب، بل وقع الفلاحون فريسة بين فكي عسف العسكر وثورات العربان، فقد شهدت السنوات الأولى للعثمانيين في مصر عدة ثورات للجند، ولم تتوقف عند ذلك بل استمرت في مراحل متتالية، بعد أن تعمقت الفجوة الاقتصادية بين فرق العسكر المتنافسة، إذ بلغت الحامية العسكرية التى تركها السلطان سليم الأول بمصر ما يقرب من 5 آلاف فارس وفقًا لرواية ابن إياس.

انقسمت هذه الحامية إلى أربع فصائل هي: الإنكشارية، العزبان، الكوكليا، الأسباهية والتى احتفظت لنفسها بمركز الصدارة في أعمال الشغب والنهب، حيث استغلوا فرصة إرسالهم إلى الصالحية وبلبيس لمواجهة ثورة العربان، فقاموا بنهب قوت الفلاحين وتخريب أراضيهم. على هذا النحو فشل الفلاحون في الصمود أمام نهب العسكر وسلب العربان، ولم يجدوا أمامهم سوى التَسحُّب وترك أراضيهم للخراب.

«تزايد منهم الفساد في حق الناس، وصاروا يتوجهون إلى الأماكن  ويأخذون ما فيها، ويحملونها على الجمال ويبيعونها بأبخس الأثمان، ويأخذون ضيافات من الغنم والأوز والدجاج، ويقطعون الطرق على المارين، وخربت من بلاد الشرقية والغربية عدد بلاد، وصار أهل مصر في غاية الضنك».
بدائع الزهور، ابن إياس
المراجع
  1. أيمن محمود، الأرض والمجتمع في مصر في العصر العثماني
  2. زبيدة عطا، الفلاح المصري بين العصر القبطي والعصر الإسلامي 
  3. سيد محمد سيد، مصر في العصر العثماني في القرن 16،  دراسة وثائقية
  4. عبد اللطيف أحمد، مصر والإمبراطورية الرومانية في ضوء الوثائق البردية 
  5. محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني
  6. عبد الرحيم عبد الرحمن، الريف المصري في القرن الثامن عشر