إن جميع البشر قد خُلقوا متساوين، وإن خالقهم قد منحهم حقوقًا معينة ثابتة لا يمكن انتزاعها منهم، ومن بينها: حق الحياة والحرية والسعي من أجل السعادة.

ما سبق هو جزء من الفقرة الثانية من إعلان الاستقلال الأمريكي الذي مهّد لما عرف لاحقًا بـ «الحلم الأمريكي»؛ حلم المؤاخاة والحرية وإتاحة الفرص للجميع قد خلب لبّ كل باحث عن الحرية والمساواة ولكن سرعان ما تبين لهم جميعًا مدى زيفه.

فرارًا من الاضطهاد والعبودية في أوروبا، هاجر معظم المستوطنين الأوائل إلى أرض أمريكا. وقد رأى هؤلاء المستوطنون في هذه الأرض الجميلة جنات عدن جديدة. في أعين الوافدين الجدد الذين كان معظمهم من طائفة «الطهوريين/البيوريتان» المتدينين، كانت أمريكا تحمل سمات المدن القديمة المذكورة في الكتاب المقدس، ولذلك فقد أعلنوا أنها الأرض الموعودة التي وعد الله المضطهدين.

بدت أمريكا في نظر المستوطنين الأوائل أرض الأحلام، حيث لا ملك متسلط أو نظامًا إقطاعيًا يقيّم الناس على أساس ثرواتهم أو نسبهم. هي أرض بكر بديعة الجمال غنية بالموارد التي لم تُستنزف، ومليئة بفرص جديدة للسلام والمساواة؛ أرض من الممكن أن يجد الجميع فيها الثروة والرخاء، فجميعهم قادرون على تسلق السلم الاجتماعي بالعمل الجاد والمثابرة لا بالثروات والملك المتوارث.


البحث عن المستحيل

وفقًا للميثولوجيا المسيحية والكلتية، فإن يوسف الرامي قام بعد صلب المسيح بجمع دمائه في الكأس ذاتها التي شرب منها المسيح في العشاء الأخير. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت هذه الكأس صفة القدسية وصارت لها قدرات عجيبة، وصار العثور عليها وامتلاكها حلم عديد الفرسان والملوك. وعلى مدار التاريخ، حكى الكثير من الأدباء والشعراء حكايات خلابة عن مغامرات البحث عن الكأس المقدسة، ومن بين هذه الحكايات تظل ليجندة «موت الملك آرثر» لصاحبها توماس مالوري أفضل ما كتب حول رحلة البحث عن الكأس المقدسة التي توصف بأنها رحلة البحث عن المستحيل.

حول مائدة الملك آرثر المستديرة، كان هناك كرسي شاغر لن يشغله سوى الفارس الذي سيستطيع العثور على تلك الكأس المقدسة التي ستضمن لمملكة الملك آرثر (كاميلوت) الرخاء والرفاهية الأبديين. بحثًا عن الكأس المقدسة، انطلق أمهر فرسان الملك آرثر، ولكنهم فشلوا جميعًا بعد أن استسلموا للمغويات التي قابلتهم على طول الطريق، عدا جالاهاد، الذي كان أطهرهم وأصدقهم، فقد وجدها في مدينة القدس قبل أن تختفي للأبد ويختفي هو معها.

وقد اعتمد الشاعر الأمريكي الشهير توماس ستيرنز إليوت على أسطورة الملك آرثر – تحديدًا الجزء الخاص بالبحث عن الكأس المقدسة – حين انتقد سياسات العالم التي جرته إلى حرب عالمية. فبعد اضطرابات نفسية شديدة الوطأة استدعت فترة لا بأس بها من العلاج النفسي، كتب ت. س. إليوت عام 1922 أشهر قصائده التي حازت على لقب قصيدة القرن العشرين؛ إنها «الأرض الخراب».

فضلًا عن الثورة التي أحدثتها تلك القصيدة فيمفهوم الشعر المتعارف عليه، إذ نادت بالتحرر من النزعة الرومانسية، كان تعاطي إليوت مع أسطورة الملك آرثر مختلفًا تمامًا عمن سبقوه. فهو قد حوّل تركيزه من مغامرات الفرسان في رحلة بحثهم عن الكأس المقدسة إلى حالة الأرض نفسها التي أضحت خرابًا لأن ملكها مشوه جريح لُعنت أرضه بسبب خطاياه التي منعت جرحه من الالتئام، وأضحت أرضًا خرابًا.

كانت درجة الانحطاط التي وصلت إليها البشرية مع قدوم الثورة الصناعية والحداثة وما صاحبها من تداعي الإيمان وطغيان المادة على الروح وفقدان كل شيء لقدسيته هي خطيئة العالم وحكامه من وجهة نظر إليوت، وكانت تلك الخطيئة هي ما دفع العالم للانجرار وراء حرب عالمية مزقته وجعلته أرضًا خرابًا. وهكذا، مثلت رحلة البحث عن الكأس المقدسة رحلة البحث عن المستحيل – بالنسبة لإليوت – فلا الفارس وجد الكأس لأنه كان مثقلًا بالخطايا، ولا الملك شُفي من جراحه لتحيا بشفائه الأرض من بعد موتها.

كان لإليوت وقصيدته تلك أكبر الأثر على الجيل الأبرز من الأدباء في تاريخ أمريكا، وهو الجيل الضائع من الأدباء الذي عاش فترة الحربين العالميتين وما بعدهما. كانت فكرة البحث عن الكأس المقدسة وما تمثله من بحث عن المستحيل، هي ما جذب فرنسيس سكوت فيتزجيرالد فصوّر رحلة البحث عن الحلم الأمريكي كرحلة البحث عن الكأس المقدسة التي تتراءى من بعيد كسراب.

لقد أحس فيتزجيرالد بخيبة أمل عظيمة عندما اختبر بنفسه مدى زيف الحلم الأمريكي فعمل على كشف ذلك الزيف في روايته الثالثة والأشهر من جميع مؤلفاته «جاتسبي العظيم». وقد اختار فيتزجيرالد إلقاء الضوء على أمريكا المأهولة بالأغنياء ومالكي القصور في لونغ آيلاند بنيويورك، وصوّر أحلامهم بالثراء السريع التي سرعان ما استحالت كوابيس ثقيلة.


الحلم يستحيل كابوسًا

متخذة من القصور الفارهة في لونغ أيلاند بنيويورك مسرحًا لأحداثها، صورت رواية «جاتسبي العظيم» أحلام أفراد المجتمع الأمريكي في حقبة العشرينيات من القرن المنصرم المتمثلة في الثراء والمكانة الاجتماعية المرموقة والتي استحالت كابوسًا في النهاية.

أما حياة جاي جاتسبي، فقد مثلت كافة مراحل الحلم الأمريكي الذي بدأ بتطلعات كبيرة نحو عالم أفضل، تلته مرحلة انتقالية بدت فيها كل تلك التطلعات ممكنة، ثم سرعان ما تصادمت تلك التوقعات بعدما صارت وشيكة الحدوث بالخواء الروحي الذي ساد المجتمع الأمريكي، لتنتهي نهاية مأساوية بموته الذي يمثل موت الحلم الأمريكي.

من خلال شخصية نيك كاراواي التي تلعب دور الراوي، يخبرنا الكاتب ف. سكوت فيتزجيرالد عن الوضع الذي آل إليه المجتمع الأمريكي في عشرينات القرن الماضي (الفترة التي عُرفت باسم «عصر الجاز» أو «العشرينات الصاخبة»)، وكيف انقسم سكان لونغ آيلاند، التي تعتبر صورة مصغرة من المجتمع الأمريكي، إلى ثلاث فئات:

أولها تتمثل في قاطني شبه جزيرة «إيست إيج» من الأرستقراطيين الأثرياء الذين كوّن أجدادهم ثرواتهم أثناء سنوات ازدهار سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة وتوارثوها جيلًا بعد جيل. وتتمثل الفئة الثانية في قاطني شبه جزيرة «ويست إيج» من الأثرياء الجدد الذين يحتقرهم سكان إيست إيج ويعتبرونهم دخلاء عليهم. أما الفئة الثالثة فتتمثل في قاطني منطقة «وادي الرماد» من العمال الفقراء الذين يعيشون في مكب نفايات «إيست إيج» و«ويست إيج» وسط أكوام هائلة من نفايات المصانع والهواء الملوث.

وعلى الرغم من أن كاراواي ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، فقد فضل العيش في «ويست إيج» لأنه ينزعج من التدني الذي يتسم به المحيط الأخلاقي لقاطني «إيست إيج» بسبب سيطرة النزعة المادية وحب المظاهر عليهم. في «ويست إيج»، شاهد كاراواي جاي جاتسبي لأول مرة حين كان الأخير يقف على حافة الخليج الفاصل بين قصره وقصر دايزي بوكانان، حبيبته السابقة والمتزوجة حاليًا من توم بوكانان أحد الأثرياء الأرستقراطيين، مأخوذًا بالضوء الأخضر المنبعث من هناك محملقًا فيه ومادًا إليه يده وكأنه يحاول الإمساك به دون جدوى.

وفي حين كان يتوقع كاراواي، الذي عاد من الحرب العالمية الأولى مثقلًا بمشاهد الدمار والقتل، أن يجد السمو الأخلاقي الذي ينشده في «ويست إيج»، لم يجد ما كان يرجوه ومن ثم؛ فقد كانت صدمته شديدة حين اكتشف أن هؤلاء الأثرياء الجدد هم أيضًا يعيشون في جو من الانحلال الإخلاقي إذ استحوذ عليهم شبق الثراء وحلم صعود السلم الاجتماعي حتى قمته وجعلهم يؤمنون بأن رغبتهم الشديدة في تحقيق الثراء السريع تبرر الوسائل اللا أخلاقية وغير القانونية التي استخدموها ليجنوا كل تلك الثروات.

وقد كان جاي جاتسبي، جار كاراواي الجديد والذي سيصبح صديقه لاحقًا، خير ممثل عن هذه الشريحة من الأثرياء الجدد؛ فهو كان ابنًا لاثنين من المزارعين الفقراء ثم حققت له بعض الأعمال غير القانونية (مثل تداول الأوراق المالية المسروقة، والاتجار غير القانوني في الكحول، ورشوة ضباط الشرطة) ثروة هائلة جعلته يقيم في قصر فخم يقيم فيه حفلات باذخة يوميًا. وبذلك اعتبر جاي جاتسبي هو وحفلاته الماجنة خير ممثل لحالة الانحلال الأخلاقي والوهم التي كان يرزح تحت وطأتها الشعب الأمريكي كله في تلك الفترة.

ففي حقبة العشرينات الصاخبة من القرن المنصرم، كان العطب قد أصاب كافة أطياف المجتمع الأمريكي؛ فالأرستقراطيون لم يتخلوا عن غطرستهم رافضين دخلاء من أي نوع عليهم، بينما استحوذ شبق الثراء على الطموحين من أبناء الطبقة الفقيرة فكانوا مجرد مسوخ لم تنل احترام الأرستقراطيين وإن حازوا ثراءهم. أما عن سكان «وادي الرماد»، فقد كانوا ضحية سعي الأغنياء من الأرستقراطيين والأثرياء الجدد، لتحقيق أكبر قدر من الثروة؛ فعملوا في أشق الأعمال مقابل أجور زهيدة وعاشوا في مدن صناعية قذرة.


رحلة جاتسبي

ثم اعتمر القبعة الذهبية :: إن كان هذا سيؤثر فيها وإن استطعت أن تقفز عاليًا :: اقفز أيضًا من أجلها استمر في القفز إلى أن تهتف قائلة: يا حبيبي، يا صاحب القبعة الذهبية، يا حبيبي عالي الوثبات، يجب أن أحظى بك!
توماس بارك دانفيليه – هذا الجانب من الفردوس

بهذه الأبيات من قصيدة لتوماس بارك دانفيليه، بطل رواية فيتزجيرالد الأولى «هذا الجانب من الفردوس»، افتتح الكاتب رواية «جاتسبي العظيم» وكأنه يخبر قراءه منذ البداية أن حلم جاتسبي بالثراء السريع وكل ما بذله من جهود لتحقيقه كان في الأصل حلمه باسترجاع دايزي بوكانان.

في عصر الجاز، يبدو جاي جاتسبي كفارس معاصر من فرسان المائدة المستديرة الذين لا يتورعون عن خوض العديد من المغامرات للفوز في النهاية بالكأس المقدسة، وقد كانت دايزي بوكانان هي كأس جاتسبي المقدسة. وكأي فارس مخلص لبحثه ومصمم على الحصول على ما يريد؛ فقد ظل جاتسبي يسعى طوال خمس سنوات لجمع أكبر قدر من الثروة التي ظن أنها سوف تجعل منه الشخص الذي تراه دايزي لائقًا بها.

وهكذا، بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى، تحول إرنست جيمي جاتز، ضابط الجيش الفقير، إلى جاتسبي العظيم الذي يتطلع إلى ثرائه كل سكان لونغ آيلاند. ولم يكتف جاتسبي بقصره الفخم الذي يقع على حافة المضيق ولا ثروته الهائلة، بل قد تنصل من أصله المتواضع وادعى أنه خريج جامعة أوكسفورد. وليثبت ذلك، تحدث الإنجليزية بلكنة بريطانية مصطنعة. ومع ذلك، كان الخليج الضيق يقف حائلًا بين جاتسبي وبين ذلك الضوء الأخضر المنبعث من قصر دايزي.

إن ذلك الضوء الأخضر المنبعث من الشرق هو ضوء الحلم الأمريكي الذي ينادي ليس فقط جاتسبي، بل كل سكان لونغ آيلاند. وقد اختار فيتزجيرالد اللون الأخضر بالتحديد ليكون لون هذا الضوء لأنه يرمز إلى الثراء والمال، الأمر الذي يشف عن مدى خواء الحلم الأمريكي الذي تحول إلى حلم بالثراء السريع دون الالتفات إلى الطرق التي تحقق هذا الثراء من خلالها. ومن هذا المنطلق، يوضح فيتزجيرالد أن أمريكا ما كانت – ولن تكون – أرض الأحلام التي تمناها المستوطنون الأوائل؛ فالملوك المتسلطون والنظم الإقطاعية الظالمة في أوروبا قد حل محلهم الأرستقراطيون الذين يقيمون في قصورهم الفارهة على جزر منعزلة بعيدة عن سائر المجتمع.

ولم تكن دايزي بوكانان تختلف عن بقية قاطني «إيست إيج»، حيث شاركتهم هذا الإحساس بالفوقية، وكانت تداري وراء حسنها الفتان شخصية أنانية مستهترة قادرة على تحطيم الجميع من حولها والاستمرار في حياتها وكأن شيئًا لم يكن. فحين تحمل عنها جاتسبي تهمة دهس زوجة صاحب محطة الوقود بالخطأ، كان ردها على تضحيته الكبيرة تلك بأن خانته وتآمرت على قتله.

لم تحب دايزي جاتسبي قط؛ فهو ربما لم يكن بالنسبة إليها سوى رجل تقيم معه علاقة فقط للثأر من خيانات زوجها المستمرة لها، أو لكسر الملل الذي كان يخيم على حياتها، ولكن حين حان وقت الاختيار فهي قد اختارت زوجها توم، سليل العائلة الأرستقراطية الذي يضمن لها مركزًا اجتماعيًا مرموقًا. وهكذا، كانت دايزي هي الصخرة التي تحطّم عليها الحلم؛ فهي من كتب الصفحة الأخيرة في حكاية حلم جاتسبي الذي دمرته أحلام التوسع الذاتي والإنجاز الشخصي وفرض القوة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.