كانت الأكاديمية دائمًا معنية بدراسة الانقلابات العسكرية، وليس بالتنظير لأساليب نجاحها، ولكن، من يعرف كيف يُدار الانقلاب العسكري الناجح، يستطيع وأده قبل حدوثه، أو إحباطه إذا حدث.هذا بالضبط ما سعى إليه أستاذ القانون الدستوري في جامعة «برن» السويسرية، الدكتور «زين الدين حمّاد»، حين كتب ملاحظات وصفية باللغة الألمانية، هدفت إلى مساعدة طلابه في أقسام العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة «برن» على فهم إحدى طرائق انتقال السلطة في عدد من دول العالم وهي «الانقلابات العسكرية».وقد تم نشر هذه الملاحظات في كتيب عام 2000، ومؤخرًا استطاع «المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية» الحصول على نسخة نادرة من هذا الكتيب، و قام بإعادة نشره مره أخرى في مايو 2016.ووفقًا للكاتب، فإن هذه الدراسة قد تم كتابتها من وجهة نظر الانقلابيين المتآمرين، ليس تعاطفًا معهم، وإنما إمعانا في التشويق، ومحاولة لتطعيم النص بشيء من روح المغامرة، يشد القارئ لقراءته.كما يُركز الكاتب على نمط خاص من الانقلابات، وهي التي تتسم بالسرية، ويتم تدبيرها رغم معارضة جزء كبير من النظام القائم لها، وتحتاج تحضيرًا طويل النفس، وتخطيطًا محكمًا، وتشتمل على مخاطر كبيرة. لأن هذه الانقلابات – وفقًا للكاتب – هي الصورة النموذجية التي ينبغي أن يهتم الأكاديميون بها، وما سواها من الانقلابات العلنية، وشبه العلنية، وانقلابات القصر، فهي أقرب إلى الابتزاز السياسي واقتناص الفرص العارضة، منها إلى الانقلاب العسكري المنهجي.


دوافع الانقلاب

تتناول الدراسة سبعة دوافع أساسية للقيام بالانقلابات:1. الدافع الثوري: أي التطلع إلى تغيير الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، واستبداله بوضع ديموقراطي أفضل.

صغار الضباط هم عادة من يدبرون الانقلابات بدافع التغيير والثورة، أما كبار الضباط فتُحرِكهم في الغالب دوافع من النوع والشخصي والانتهازي.

2. الدافع الدستوري: والمقصود به تدخل الجيش بعد وجود خطر موضوعي يهدد وجود الدولة، كنشوب حرب أهلية، أو فوضى عامة.3. الدافع الأيديولوجي: ويكون جزءًا من صراع الأفكار في العالم، مثل الأيديولوجيات الدينية واليسارية والقومية التي قد يتبناها عسكريون ويسعون إلى تطبيقها من خلال انقلاب.4. الدافع الإجهاضي: قد يبادر عسكريون إلى تدبير انقلاب لم يكونوا يخططون له من قبل، لإجهاض انقلاب آخر اكتشفوا أن قوى سياسية أو أيديولوجية مناوئة تخطط له، أو بدأت في تنفيذه.5. الدافع المصلحي: أي مصلحة الجيش كمؤسسة، وذلك أن يتحرك العسكريون للإطاحة بحكومة لم تمنحهم ما يصبون إليه من تقدير مادي أو معنوي.6. الدافع الشخصي: وهو الطموح إلى السلطة والثروة واﻟﻤﺠد.7. الدافع الانتهازي: وهو مجرد استغلال لوضع غير طبيعي لاستلام السلطة دون تفكير مسبق في ذلك. مثل حدوث فراغ دستوري فجأة.ووفقًا للدراسة، فإن صغار الضباط هم عادة من يدبرون الانقلابات بدافع التغيير والثورة أو الأيديولوجيا، أما كبار الضباط فتحركهم في الغالب دوافع من النوع المصلحي والشخصي والانتهازي. لأن صغار الضباط لم يتحولوا إلى جزء من المؤسسة الحاكمة، ولم يستمتعوا بقدر كافٍ من امتيازاتها، فليس لديهم شعور قوي بالرضا عنها أو بالانتماء إليها. كما أنهم في أغلب الأحيان أحسن تعليمًا وأعمق وعيًا سياسيًا واجتماعيًا من كبار الضباط.


فرص نجاح الانقلاب

وضعت الدراسة ثلاث فرضيات أساسية لنجاح الانقلابات، وهي:1. ضعف أو انعدام الحياة الدستورية: حينها، تنظر الشعوب إلى الانقلاب كنوع من الصراع على السلطة، وهو أمر لا يكون داخل دائرة اهتماماتهم، فهم لا يرفضون الانقلابات ولا يقاومونها، بل يدعمونها في كثير من الأحيان، أملًا في حدوث تغير إيجابي في حياتهم.2. مركزية الدولة وتركز السلطة السياسية: غالبًا ما يلجًا الحكام الاستبداديين إلى تركيز السلطات في أيديهم، إمعانًا في إحكام قبضتهم على الحكم. ولكن، هذا التركيز هو ما يُسهّل الأمر على الانقلابات العسكرية، ويُمكّنها من السيطرة على مقاليد الأمور. على عكس الدول الديموقراطية، التي تتعدد فيها مراكز الحكم.3. افتقاد السلطة لحليف إقليمي قوي: يعتبر الحليف الإقليمي القوي هو خط الدفاع الأهم لأي نظام سياسي ضد الانقلابات العسكرية، فهو القادر على فرض الحصار العسكري والسياسي على الانقلاب، وبدونه، سيكون طريق الانقلابات مُعبَّدًا.


التحضير للانقلاب

تؤكد الدراسة على الأهمية الشديدة لهذه المرحلة في عمر أي انقلاب، فتحضير الانقلابات العسكرية يحتاج إلى نفس طويل، قد يستمر عدة سنوات.

لا بد أن تتضمن خطة الانقلاب اعتقال قادة الحركات السياسية الراديكالية التي تملك جناحًا سريًا أو ميليشيات شبه عسكرية، ولم تنضم للانقلاب.

وهنا يشير الكاتب إلى أن لكل انقلاب «نواة»، وهي مجموعة مغلقة من الأفراد الذين بادروا بطرح فكرة الانقلاب، وحددوا أهدافه ورسالته السياسية، وهم عقله المخطط، وخط دفاعه الأخير. وهذه النواة هي من تتولى عملية التحضير، التي تبدأ باكتساب «الأنصار» للفكرة، والذي يتم عن طريق؛ تصنيف شامل لضباط الجيش، وللعسكريين التقنيين، من حيث خلفياتهم الاجتماعية، ورؤاهم الأيديولوجية، وتاريخهم المهني، وتشكيل وجهة نظر أولية حول قابليتهم للمشاركة في الانقلاب.ثم دراسة أكثر تفصيلًا لذوي القابلية من هؤلاء، وتحديد الوسيلة المثلى للتأثير على كل منهم وإقناعه. وأخيرًا، دراسة قوة كل ضابط، من حيث خبرته، ونجاحه المهني، وأهميته في وحدته، ومستوى التأثير والاحترام الذي يحظى به بين جنوده.وهنا ذكر الكاتب أربعة احتياطات، لا بد من الالتزام بها لتأمين عملية التحضير:1. إجراء جميع الاتصالات مشافهة، وعدم كتابة أي شيء على الإطلاق.2. توفير المعلومات لأنصار الانقلاب بقدر حاجتهم فقط.3. إجراء كل الاتصالات بين “النواة” وبين “الأنصار” في اتجاه واحد، أي من النواة إلى الأنصار وليس العكس.4. عدم تكليف أي من أعضاء النواة بأي مهمة تحضيرية، إذا وُجد من الأنصار من يستطيع القيام بها.


خطة الانقلاب

عند إتمام مرحلة التحضير للانقلاب، تبدأ مرحلة التخطيط. ويزعم الكاتب أن الخطة يجب أن تُوضع بناءً على ما تملكه نواة الانقلاب من قوة، وكذلك قوة الخصوم، ونوعية الأهداف، وطبيعة الأرض، والظروف الملابسة. وهو ما يحتاج إلى تخطيط دقيق ومرن، وموائم للظروف الزمانية والمكانية.وتشير الدراسة إلى الخطة تعمل على تحديد الأهداف التي يتعين التعامل معها أثناء تنفيذ الانقلاب، ومن هذه الأهداف:1. القيادة السياسية: يتعين على الانقلاب تصنيف أعضاء القيادة المستهدفة إلى قسمين: قسم يتحتم عزله وتحييده من بداية تنفيذ الانقلاب حتى تستقر السلطة الجديدة، وهم: قادة الجيش والأمن الذين لم يشتركوا في الانقلاب، وبعض الشخصيات المتنفذة ممن ليس لهم موقع رسمي في جهاز الدولة، لكنهم محل ثقة القيادة المستهدفة، وأهل ولاء لها. وقسم يمكن تجاهله إلى ما بعد، نظرًا لهامشيته، وضعف وزنه القيادي.2. وسائل الإعلام: لا بد أن تتضمن خطة الانقلاب التحكم في تدفق المعلومات إلى الجمهور، ولا يكون ذلك إلا بالسيطرة المحكمة على وسائل الاتصال الجماهيري من الإعلام المسموع والمرئي، خصوصًا ذلك الذي اعتاد الناس على أنه لسان السلطة والمعبر عنها.3. وسائل الاتصال: وفي الغالب لا يحتاج قادة الانقلاب العسكري ساعة التنفيذ أكثر من أجهزة “الترانزستور” العسكرية الثنائية، لكن التحدي أمامهم هو حرمان القوى المعارضة للانقلاب من استخدام وسائل الاتصال الخاصة والعامة لتنسيق أي جهد ضد الانقلاب.4. إغلاق العاصمة: حينما تكتشف حكومة ما أن انقلابًا بدأ تنفيذه في عاصمتها السياسية، فإن من أول ما تفكر فيه هو استدعاء قوات من خارج العاصمة، أملًا في أن يكون اختراق الانقلاب لجيشها محدودًا بحدود العاصمة. وهنا يتعين أن تتضمن خطة على الانقلاب إجراءات تسد الباب أمام الاستعانة بقوة من خارج العاصمة.5. المباني الحكومية: يجب أن يتضمن الانقلاب السيطرة على المباني الحكومية (ذات الأهمية الرمزية والوظيفية على حدٍ سواء) سيطرة ظاهرة، تؤكد للمتفرجين والمترددين والمحايدين، ثم لعامة الشعب، أن الانقلاب قد نجح.6. الأحزاب والنقابات: لا بد أن تتضمن خطة الانقلاب تحديد الحركات السياسية الراديكالية، حسنة التنظيم، والتي لديها جناح سري، أو ميليشيات شبه عسكرية، ولا يُضمن ولائها. وذلك من أجل اعتقال قادتها، وإغلاق مقراتها وفروعها.


تنفيذ الانقلاب

اعتبر الكاتب أنالسرعة والمفاجأة، هما كلمتي السر في نجاح تنفيذ أي انقلاب في العالم، وهو ما يتطلب استخدام كافة القوة المتاحة في نفس الوقت، لأن الحسم السريع هو طريقه الوحيد للنجاح.بالنسبة لتوقيت التنفيذ، يُرجِّح الكاتب فكرة وجود مرونة في تحديده، وعدم وجود تحديد مسبق صارم له، حتى يمكن الاستفادة من أي ظروف طارئة مواتية، كغياب رأس الدولة في سفر إلى الخارج، أو اضطرابات سياسية تؤدي إلى سخط شعبي على الحكومة. ولكن بشكل عام، فإن القدرة على التنفيذ هو العامل الحاسم في تحديد توقيت الانقلاب.وتتألف قوى الانقلاب من وحدات مرنة الحركة، لكل منها مهمة محددة، وقيادة مستقلة، وتتوزع على النحو الآتي:1. فريق يتولى اقتحام مقرات القيادات العسكرية والأمنية التي لم تنضم إلى الانقلاب.2. فريق يتولى السيطرة على سكن رأس الدولة (القصر الملكي أو الرئاسي) ويتحصن داخله، ويُحكِم دفاعاته من حوله.3. فريق يتولى السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي، ويستخدمه لإذاعة “البيان الأول” للانقلاب.4. فريق يتولى اعتقال القادة السياسيين الذين يمكنهم الإضرار بالانقلاب عسكريًا أو سياسيًا.5. فريق يتولى قطع وسائل الاتصال والمواصلات، وسد منافذ العاصمة جويًا وبريًا وبحريًا.6. فريق يتولى جمع المعلومات عن القوى المعادية، وبث الإشاعات بنجاح الانقلاب.7. فريق يتولى أعمال الدوريات، وفرض منع التجول في العاصمة خلال مرحلة اضطراب الانقلاب.ويشير الكاتب إلى أن قوى الانقلاب تعتمد أثناء مرحلة التنفيذ على منهج يجمع بين «الهجوم الاستراتيجي» و«الدفاع التكتيكي»؛ فهم يهاجمون في البداية من أجل السيطرة على مفاصل السلطة ورموزها، ثم يتحولون إلى الدفاع، ويحرصون على تجنب الاصطدام مع أي قوة موالية للسلطة أو محايدة، إذا لم تبدأ بمهاجمتهم.فهدف الانقلاب لا يكون تدمير القوى الموالية للسلطة، بل تحييدها ومنعها من التحرك المضاد لبضع ساعات، حتى يغيروا الوضع على الأرض. وحينها يكون من السهل تغيير ولاء تلك القوات بالتفاوض مع قادتها وإغرائهم بإدراجهم ضمن المستفيدين من الواقع الجديد.


تثبيت الانقلاب

من المهم ألا يقوم قادة الانقلاب باستهداف أي طرف سياسي أو اجتماعي بعينه خلال الأيام الأولى، بل توزيع الأمل على الجميع، بخطاب سياسي عام.

يؤكد الكاتب أن نسبة كبيرة في نجاح الانقلاب تعتمد على الساعات أو الأيام الأولى التي تفصل بين الاستيلاء على قلب السلطة، وبين مد النفوذ على جميع أجهزة الدولة وجميع أقاليم البلد. لذا يسعى الانقلاب في هذه المرحلة إلى تحقيق هدف مزدوج، هو: السيطرة على كامل جهاز الدولة العسكري والمدني، واستخدامه للسيطرة على كامل أرجاء البلد.ثم يضع الكاتب مبادئ عامي يتعين الالتزام بها في تثبيت سلطة الانقلاب الجديد:1. عدم الإفصاح عن أهداف الانقلاب السياسية، وعدم استهداف أي طرف سياسي أو اجتماعي بعينه خلال الأيام الأولى من الانقلاب، وتوزيع الأمل على الجميع، بخطاب سياسي عام وغائم يُرضي الكل ولا يُسخط أحدًا.2. انتقاء عناصر من النظام القديم، واتخاذهم حلفاء مؤقتين، تخفيفًا من صدمة التغيير المفاجئ عليهم، وعلى العامة الذين اعتادوا عليهم.3. التوجه إلى أعضاء الطبقة المتوسطة المتعلمة من المجتمع، ممن لم يستفيدوا من النظام المخلوع، واتخاذهم مساندًا للنظام الجديد.وختامًا، يطرح الكاتب السؤال الأهم في هذه الدراسة؛ هل يصنع الانقلاب العسكري الناجح مجتمعًا أفضل؟ الشعوب وحدها هي من تملك الإجابة، وهي من يجب أن يُقرر.