الشرير المثالي هو الذي لا تعتبره شريراً، هو منْ يكتسب نفس مكانة البطل أو حتى يتعداه. الشرير المثالي هو منْ يُعامله المسلسل أو الفيلم على أنه بطل في منطقه الخاص، يعتبر نفسه بطلاً من وجهة نظره وله دوافعه التي تبرر أفعاله. ليس مجرد شيطان يريد تدمير البطل، أو مُحِب للسلطة والمال، بل ينجح في إقناع الجمهور بأفعاله ويكسبهم لصالحه بالكاريزما والشخصية. تختلط مشاعر المشاهدين تجاهه، مُتسامح ومنضبط في وقت الحاجة، شرس وبلا رحمة في الثانية التالية. لا يمكن توقع تحركاته أو كشف أفكاره. يتلاعب بالجمهور برعونة وخفة، كأنما يسرق قلوبهم. يثير حفيظتهم ثم يصيبهم بالرعب ما إن يتملكهم.

يخافه البطل رغم حب الجمهور، ليس لقوته أو خطورته، بل يخاف البطل أن يصبح مثله. يحاول إغراء البطل للانضمام إليه قبل أن تبدأ العداوة. يتآمر مع الكون ضد أعدائه ولا يؤمن بالصدفة. لديه خطة دائماً ولا يدع مجالاً للمشاعر. يعكس عجز المجتمع عن تمييز البطل من غيره، ويمتلك كوداً خاصاً للتعاملات مع الآخرين، وليس يوجد بالضرورة أسباب لأفعاله، وماضيه معضلة غامضة لا يعلمها غيره.

منْ أفضل من «غاس فرينغ» ليكون شرير التليفزيون المثالي؟

غاس فرينغ الذي كان من المفترض أن يكون ضيفاً على المسلسل، ويظهر في حلقات قليلة بدور محدود. رفض الممثل «جيانكارلو اسبوزيتو» ذلك، وأصر على أن يكون دوراً كاملاً، وأنه يمكن الخروج بشخصية أفضل من ذلك، واقتنع صُنّاع المسلسل بذلك، وأصبح الشرير الرئيسي بالعمل، وحقق نجاحاً كبيراً.

صاحب الوجهين

بالرغم من أنه شخصية خيالية، إلا أن غاس فرينغ أقرب ما يكون للواقع من أي شخصية أخرى. فهو مرآة تعكس نفاق المجتمع وتلونه، يعيش بوجهين أو شخصين مختلفين مثل معظم البشر. يمكن القول إن أحدهما طيب والآخر شرير؛ صاحب المطعم اللطيف الذي يحب موظفيه، ويسهر على خدمة الناس، وعلى الجانب الآخر تاجر المخدرات القاتل. لكن في الحقيقة وجه صاحب المطعم المُبتسِم ما هو إلا غطاء يستخدمه للتخفي في المجتمع، وإبعاد العيون عنه، بل وأصبح صديقاً لإدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، ومديريها.

يظهر لأول مرة في المسلسل، يمر من أمامه «والت» و«جيسي» (أبطال المسلسل) والكاميرا من خلفهم، هو مجرد ممثل إضافي في الخلفية، لا يمثل تهديداً لأحد، ولا يمكن أن تشك فيه للحظة. ينتظر الأبطال بفارغ الصبر أن يقابلهم أكبر تاجر مخدرات في المدينة، لكن يأتيهم شخص عادي يرتدي قميصاً أصفر ويرسم ابتسامة من نفس اللون على وجهه، ويسأل عن جودة الطعام ثم يغادر، ويختفي في الكادر مرة أخرى، وتجد نفسك في حالة من الغموض تعيشها مع الأبطال، ثم يغادر والت وجيسي وتغادر معهم علامات استفهام عديدة، ثم يعود والت وينتظر وبعدها يلاحظ انعكاس من ينظر إليه في زجاج النافذة، مدير المطعم ينظر إليه بسرعة بنصف ابتسامة تغيرت خلالها ملامحه، تبدأ المحادثة بالإنكار، ثم في ثانية يتغير الرجل أمامك، يختفي الوجه اللطيف ويتحول إلى رجل الأعمال «ميت القلب»، وتتغير نبرة كلامه، ويصبح المسيطر على المشهد.

يعتقد البعض أن فرينغ يمثل الرأسمالية الحديثة، وقسوة النظام العالمي في تحقيق مكاسبه، فيقتل الأطفال ويُخرِّب المجتمع ويتسبب بموت الأبرياء تحت عباءة التجارة والعمل، وفي سبيل تحقيق الربح، ويتخفّى وراء الصورة الحسنة والمشاعر المزيفة، ولا يُمانع تلويث يده بالدم إذا دعت الحاجة، كمظهر من مظاهر استعراض القوة، وإرسال رسائل تحذيرية. لا شيء سيوقف فرينغ في طريقه لتحقيق الربح، أياً كان.

الصيد بالمُباغتة

كيف تواجه خصم أكبر منك في الحجم، ويفوقك في القوة والعدد ولا قِبل لك بهزيمته؟

تستخدم ما يُطلق عليه في عالم الحيوان «الصيد بالمباغتة»، ويقوم فيها الحيوان بالاعتماد على إستراتيجية معينة يستدرج من خلالها فريسته، بينما يتخفّى في موضعه أو يدّعي الضعف والإذعان، حتى اللحظة المناسبة، ثم يبدأ هجومه ويفوز بالصيد الثمين، وهذا بالضبط ما فعله غاس مع الكارتل.

عمل غاس في الـ 20 عاماً السابقة على تأمين مركزه كرجل أعمال، وسعى إلى تعظيم مكاسبه، وبدأ يبني شبكة توزيع مُربحة ويُثبِّت أقدامه في التجارة، لكن ظلت مشكلة الاعتماد على الكارتل من أجل المنتج، فقام ببناء معمل كامل مُجهز بكل شيء، وبحث عن الكيميائي المناسب حتى وجد «غايل»، ثم البديل الأفضل «والتر وايت»، وما إن أوجد لنفسه المنتج، بدأ في التفكير في خطوته التالية.

وضع خطته قيد التنفيذ وحاول استفزاز الكارتل، وإيقاعهم في مشاكل مع الحكومة، عن طريق تدبير الاعتداء على «هانك»، أحد رجال «إدارة مكافحة المخدرات» الذين يُعتبرون خطاً أحمر بالنسبة للكارتل، مُستغلاً اندفاع ووحشية أولاد عم عائلة «سلامنكا»، ورغبتهم الغاشمة في الانتقام. فأرسلهم تجاه هانك بدون إذن الكارتل، وحذّر هانك قبلها، ونجح بذلك في ضرب أكثر من عصفور بنفس الحجر، قلب الحكومة على الكارتل، وتخلّص من تهديد أولاد العم وقوة عائلة سلامنكا، وحفظ حياة والتر وايت، وتخلّص من هانك أيضاً الذي كان قريباً من كشف جيسي ووالت، وتربّع وحيداً على عرش المسلسل، لذلك استحق الإشادة من والتر، حينما قال:

احترمْ الاستراتيجية. لو كنتْ في مكانك، كنت سأفعل نفس الشيء.

كذلك تظاهر بالإذعان والخضوع لصالح الدون «إيلاديو» والكارتل، وذهب إلى المكسيك لتقديم الولاء، ووافق على بقاء جيسي هناك ليعمل لصالحهم، وانتظر اللحظة المناسبة، واستغل تكبر وغطرسة عدوه، وسدد ضربته القاضية وتخلص من الكارتل بأكمله مرة واحدة، ولم يترك شيئًا للصدفة، فقم قام بتجهيز مستشفى كامل به كل ما يمكن أن يحتاج إليه، وجهّزه بفريق من الأطباء على أعلى مستوى، ووفّر عينات من الدم وأدوية لكل الحالات الطبية الممكنة له ولرجاله، وتربع على عرش سلسلة الغذاء للأبد.

كيف تتلاعب بخصومك؟

بعد أن علم والت بالأخبار السعيدة وشفائه من السرطان، قرر التوقف عن الطبخ ومغادرة عالم المخدرات من الباب الضيق، بعد أن كادت مغامرته القصيرة أن تقضي على عائلته وأن يخسرها للأبد، فجلس مع جيسي وأخبره بالقرار، وقابل غاس ورفض عرضه المغري بالاستمرار. تلاعب غاس في البداية بغرور والت ومكانة الأنا في تفكيره، فعرض عليه مبلغاً ضخماً جداً (3 مليون دولار) من أجل 3 أشهر فقط من حياته، ليلعب على خيط أن حياة والت مهمة وأن عبقريته لا تُقدر بالمال، ثم تلاعب به مرة أخرى عن طريق عائلته، مُسدداً ضربته الأخيرة بقوله:

ماذا يفعل الرجل يا والتر؟ الرجل يعمل من أجل عائلته، وهو يفعل ذلك حتى عندما لا يحظى بالتقدير أو الاحترام أو حتى يشعر بالحب، إنه ببساطة يتحمل ويفعل ذلك. لأنه رجل.

بتلك الكلمات استغل غاس تفاني والتر وحبه لعائلته، وحقيقة أنه ما زال مُعرضاً لخطر الموت بالسرطان، فتمكن من التلاعب به عن طريق حبه لعائلته، وعاد والت واستمر بطبخ الميث، وفاز غاس في الرهان وضمن استثماراً مربحاً للمستقبل القريب.

وعلى الجانب الآخر تمكن من الإيقاع بين والت وجيسي، بالرغم من استحالة الأمر بعد محاولات عديدة، حيث رفض كل منهما التخلي عن الآخر، وقاتلا لأجل بعضهما، وتحديا غاس من أجل نجاة بعضهما، ولكن غاس لجأ إلى الحل الأخير، حيث استغل العلاقة المتوترة بينهما، وتكبر والت وسيطرته، وجعل جيسي يشعر بأهميته وتفوقه، لتزيد الفجوة بينهما، أملاً أن يؤدي هذا السيناريو في النهاية إلى التخلص من والت واستمرار جيسي وحيداً في الطبخ. لكن غاس اصطدم هذه المرة بمنْ هو أذكى منه، إنه والتر وايت، حيث قال جيسي: «هو أذكى منك (يقصد والتر وايت)، والحظ إلى جانبه بخلافك». وانتصر والتر وايت.

الانتقام طبق يُقدم بارداً

يُقال إن أفضل طريقة للانتقام أن تعيش جيداً أو أن تنتظر. غاس فرينغ طبّق الطريقتين؛ عاش جيداً وبنى إمبراطورية تعمل لصالحه، وجمع من الأموال ما يكفيه لعشرة أجيال. وفي الوقت نفسه ظل صبوراً لـ 20 عاماً حتى حانت لحظة الانتقام، وحمل طوال هذه الفترة جبالاً من الغضب والضغينة تجاه الكارتل عامةً و«هيكتور سلامنكا» خاصةً، بعد أن قتل سلامنكا صديقه «ماكس»، ولم ينس ولم يتسرع حتى كان له ما أراد، وحصل على انتقامه بارداً.

كانت العداوة الشخصية مع هيكتور سلامنكا من أهم مُحركات المسلسل، وبالرغم من أنه كان يملك قتل سلامنكا والتخلص منه تماماً، إلا أنه أراد أن يمنحه العذاب المطلق، حيث سلب من سلامنكا أهم ما يملكه، وهو العائلة، جعله ينتظر ويشهد موت عائلته بالكامل بدايةً من توكو ثم أولاد العم، ثم كانت القاضية في حفيده وعائلته الكبيرة (الكارتل). لم يكتف غاس بهذا الانتقام، بل أراد انتزاع الحياة من داخله ببطء، وتركه يتعفن وحيداً في دار للمسنين.

وبعد أن انتهى، واجهه لمرة أخيرة، ونظر في عينيه بذكريات قتل صديقه، وصبّ عليه سم الغضب والانتقام، لكنه اصطدم بـ «والتر وايت».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.