زلزال سياسي يضرب كولومبيا. غوستافو بيترو رئيسًا للبلاد بعد حصوله على ما يزيد عن 50% من الأصوات. بيترو هو أول رئيس يساري للبلاد بعد عقود طويلة من سيطرة المحافظين على السلطة. وفاز بيترو على منافسه المليونير رودولفو هيرنانديز الذي حصل على 47% من الأصوات، ما يعني أن بيترو فاز بفارق 700 ألف صوت.

اليوم هو يوم عيد للشعب، فلنحتفل بأول انتصار شعبي. هكذا صرّح بيترو حين علم بالنتيجة. ورد عليه منافسه هيرنانديز بمنشور على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك يعلن فيه قبوله بنتيجة الانتخابات قائلًا إن غالبية المواطنين قد اختاروا المرشح الآخر، وإنه يقبل النتيجة كما هي. ثم أردف الرجل قائلًا إنه يأمل أن يعرف غوستافو بيترو كيف يقود البلاد، وأن يكون مخلصًا لخطابه المضاد للفساد.

البيان الثالث الذي تمم المشهد السياسي هو بيان الرئيس المنتهية ولايته، إيفان دوكي. قال إيفان إنه اتصل بغوستافو بيترو لتهنئته بصفته رئيسًا منتخبًا للشعب الكولومبي. وأضاف أنه جرى الاتفاق على الاجتماع في الأيام المقبلة لبدء انتقال سلس للسلطة.

تلك الأجواء التي تظهر مدى إدراك النخبة السياسية لرمزية فوز بيترو لا تأتي من فراغ. فالرجل، 62 عامًا، يخوض الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة في تاريخه. لكن هذه المرة نجح الائتلاف الذي كوّنه، ائتلاف الميثاق التاريخي، في وضعه على كرسي الحكم. كما تصدّر هذا الائتلاف الانتخابات التشريعية في مارس/ آذار 2022، خصوصًا وجود نائبة الرئيس، فرانسيا ماركيز، المناهضة للعنصرية والناشطة الفعّالة في مجال حقوق النساء.

من القتال إلى الرئاسة

بيترو، المولود عام 1960، في مقاطعة قرطبة في شمال كولومبيا، خبير سياسي مرموق. ويعتبره العديد من مواطنيه مناضلًا من الطراز الرفيع. بدأ حياته السياسية بالكفاح المسلح، إذ انضم لحركة 19 نيسان/ أبريل. الحركة فصيل مقاتل شارك في عملية القتال الداخلي التي امتدت منذ عام 1974 إلى عام 1990، ثم حُلت من ضمن شروط عملية السلام.

بعد حلّ الحركة أصبح بيترو منتسبًا إلى حزب التحالف الديموقراطي، الكيان السياسي الجديد الذي أصبحت عليه الحركة. التحالف الديموقراطي سرعان ما أصبح صاحب وزن في الساحة السياسية، فصار ثاني أهم قوة في الجمعية التأسيسية عام 1991. وفي نفس العام تم انتخاب بيترو ليكون عضوًا في مجلس النواب.

وعمل كملحق دبلوماسي لحقوق الإنسان بسفارة كولومبيا في بلجيكا منذ عام 1994 حتى عام 1996. وفي عام 1998 عاد مرة أخرى إلى مجلس النواب بدعم من حركة المسار البديل. تلك الحركة التي أسسها هو وعدد من رفاقه في حزب التحالف الديموقراطي. وفي تلك الدورة البرلمانية اختاره زملاؤه، والصحافة المحلية، أفضل عضو برلماني لمكافحته الدائمة للفساد.

وفي الفترة من 2006 إلى 2010 شغل منصب عضو مجلس الشيوخ. في تلك الفترة فجّر الرجل كشفًا عن فضيحة تجمع عددًا من السياسيين والجماعات شبه العسكرية. فاختير عام 2010 ليكون أفضل عضو برلماني والشخصية السياسية لنفس العام.

بجانب تلك الحياة السياسية الحافلة كان بيترو حريصًا على التفوق الأكاديمي. فتخرج في جامعة كولومبيا متخصصًا في مجال البيئة والإدارة العامة والتنمية السكانية. ثم حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد. بعدها حصل على الدكتوراه في الاتجاهات الجديدة في إدارة الأعمال. وبناءً على تلك المعطيات استطاع أن يشغل منصب عمدة بوغوتا لمدة 3 سنوات، من 2012 حتى 2015.

فنزويلا ترحب بالرجل

وعلى مدار تلك السنوات حصل الرجل على العديد من الأوسمة والجوائز. فقد فاز بوسام لويس كارلوس لمكافحته الفساد. كما حصل على جائزة أمين المظالم لعمله في مجال رعاية الحيوان. وحصد جائزة الريادة العالمية لجهوده في قضايا المناخ. ومنحته جامعة لانوس لقب أستاذ فخري لدفاعه عن حقوق الإنسان، ولجهوده في مجال إحلال السلام. وفي عام 2014 تم تكريمه دوليًا لحصوله على المركز السادس كأفضل عمدة في العالم.

ترشح الرجل للانتخابات الرئاسية عام 2018 عن تحالف الحركة الكبيرة، كولومبيا الإنسانية. حصل في تلك الدورة على أكثر من 8 مليون صوت، لكنه حل في المركز الثاني. حلوله في المرتبة الثانية يجعله وفقًا لقانون المعارضة في كولومبيا عضوًا في مجلس الشيوخ، وهو المنصب الذي يوجد فيه حاليًا.

السجل الحافل لبيترو جعل فوزه بالانتخابات محل ترحيب من العديد من الرؤساء، خصوصًا من أمريكا اللاتينية. مثلما عبر أندريس مانويل، الرئيس المكسيكي، عن فرحته بفوز بيترو وخسارة المحافظين قائلًا بأن المحافظين في كولومبيا لطالما كانوا عنيدين وصارمين.

أهنئ بيترو وفرانسيا بفوزهما التاريخي في الانتخابات الرئاسية في كولومبيا. لقد سُمع صوت إرادة الشعب الكولومبي الذي احتشد ليدافع عن طريق الديمقراطية والسلام. عصور جديدة تلوح في الأفق أمام البلد الشقيق.
رئيس فنزويلا، نيكولاس مادورو

فرحة مادورو استثنائية، لأن بيترو وعد منذ فوزه بالانتخابات التشريعية، أنه إذا فاز بالانتخابات الرئاسية فسوف يُعيد العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع فنزويلا منذ 2019. كما وعد الرجل أنه سيرفع أرقام المعاشات التي يتقاضاها كبار السن. كما وعد بتقديم تعليم جيد ومجاني، وتقوية شبكة الرعاية الصحية كي يحصل الجميع على خدمة طبية لائقة. كذلك وعد بيترو بإجراء حوار مع جماعات القتال المسلح داخل البلاد للوصول إلى السلام. وسينفذ اتفاقيات السلام والأمن الإقليمي.

كاستروشافيستا يحكم

كولومبيا متعطشة للتغيير، ولعل هذا العامل هو ما يمكن أن يسهل الأمر لبيترو. فرغم أن كولومبيا كانت استثناءً من الانقلابات التي صارت روتينًا في أمريكا اللاتينية، فإن تهريب المخدرات الذي بدأ منذ الثمانينيات أغرق البلاد في دوامة من العنف المستمر. وحين تركزت السلطة في أيدي النخبة غير المهتمة بالعدالة الاجتماعية، تركز برنامج السلطة على الصراع مع المسلحين. واستخدم كل طرف منهما الطرف الآخر مبررًا لمزيد من العنف، لذا كانت الانتخابات تجري بين اليمين واليمين.

لكن أتى عام 2016 باتفاق سلام بين الحكومة والقوات الثورية الكولومبية، فارك. الحكومة اضطرت لقبول وتنفيذ الاتفاقية على مضض، ولم تضع الاتفاقية حدًا للعنف، لكنها في كل الأحوال أدت لتغيير النقاش والتركيز على الانتخابات وفتح آفاق الناخبين للبحث عن التغيير السياسي. لهذا يُعتبر فوز بيترو تاريخيًا، لأن البلاد لأول مرة تختار رئيسًا مختلفًا عما اعتادته طوال عقود.

لتصبح كولومبيا بذلك جزءًا من المشهد المتغير في كافة أمريكا اللاتينية التي باتت تطيح باليمينيين واحدًا تلو الآخر. وكولومبيا تحديدًا كانت تعتبرها الولايات المتحدة حديقتها الخلفية، بسبب استقرار حكم اليمين الموالي للولايات المتحدة، ما جعلها قاعدة أمريكية متقدمة داخل القارة تنفذ منها الولايات المتحدة خططها ضد اليسار في باقي القارة.

وخسارة تلك القاعدة لن يكون سهلًا على الولايات المتحدة، خصوصًا أنها خسرتها لصالح كاستروشافيستا، اللقب الذي يطلقه أنصار بيترو عليه إشارة لتأثره بالزعيم الكوبي كاسترو والرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز.

صدمة أمريكية قد تؤدي لانقلاب

يأمل الكولومبيون أن يكون رهانهم في محله، وأن يستطيع بيترو أن يتغلب على العواقب الهائلة التي تنتظره. فالبلد تعاني من اللا مساواة والفقر بشكل فج، خصوصًا بعد تداعيات جائحة كورونا، وتبلغ نسبة الفقر في البلاد 40%. وتعتبر أكبر بلد في أمريكا اللاتينية تفاوتًا في الدخل، وتضم أكبر سوق للعمل غير الرسمي في القارة. كما تعاني البلاد من معدل تضخم مرتفع.

تلك التحديات التي تنتظر الرجل سوف يُضاف إليها التحدي الأكبر، الولايات المتحدة. فكسر الحلقة الكولومبية وفقد الغرب للولاء غير المشروط المعتاد من كولومبيا، التي تحتوي 7 قواعد عسكرية أمريكية، قد يحفز الدوافع الانقلابية لدى الولايات المتحدة للعبث بأمن كولومبيا لإزاحة بيترو من السلطة ووضع رئيس تختاره الولايات المتحدة.

مثلما حدث في أعوام 1948 و1989. في الأعوام المذكورة حدث شذوذ بسيط عن القاعدة التي تسير عليها البلاد منذ 200 عام. فقد تداول السلطة 40 عائلة، جميعهم عائلات أرستقراطية، يمينيّة الهوى، أمريكية الولاء. لكن في العامين المذكورين تجرأ اسمان اثنان من خارج الدائرة اليمينية على الحديث عن إمكانية إحداث تغيير، واكتسبا دعمًا شعبيًا كان سيمكنهما من إحداث التغيير المحتمل، تمت تصفيتهما للأبد.

فكولومبيا متاخمة لفنزويلا، كابوس الولايات المتحدة. ولها حدود مع البرازيل، وبنما، والإكوادور، والبيرو. ولها واجهة ساحلية على الكاريبي، وواجهة أخرى على المحيط الهادئ. موقع إستراتيجي ممتاز، وحليف عتيق للغرب، و7 قواعد عسكرية أمريكية، ومنطلق للعمليات العسكرية والسياسية في كامل أمريكا اللاتينية، قطعة الجمر تلك باتت في يد كاستروشافيستا.