حسنًا، لقد قام وزير الداخلية الهندي مؤخرًا بإلغاء المادة 370 من الدستور التي تمنح وضعًا خاصًّا لكشمير، مما ينذر بفتح الصراع مجددًا بها بعد سنوات من الهدوء النسبي، وفي ظل كل الأحداث الدامية التي تمر بها المنطقة ومصر أيضًا لن يشغل أحد باله بكشمير ووضعها، فما من أحد سمع عنها إلا من أخبار متفرقة في التسعينيات، ومؤخرًا في السينما الهندية، إذا كنت من متابعيها أصلًا عزيزي القارئ.

بمناسبة السينما، لديَّ ملحوظة كثيرًا ما تثير غيظي؛ هناك علامات في السينما الهندية لا ينفك متابعوها عن تكرار الحديث عنها، مثل «my name is khan»، ولكن هناك بعض العبقريات المُهملة التي لم تأخذ الحفاوة التي تستحقها ويجب أن تؤخذ في الاعتبار. وبمناسبة الحديث عن كشمير، دعني أقترح عليك فيلمًا أعدك أنه سينال إعجابك، إنه فيلم «Hadier». هذا الفيلم من إنتاج عام 2014، وحاصل على تقييم 8.2 بموقع «imbd» و100% على «rotten tomatoes»، والعديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية هندية ومهرجانات دولية.

لمحة عن القصة

الأديب الإنجيليزي الشهير وليام شيكسبير ساهم في إثراء المحتوى السينمائي والتلفزيوني والمسرحي لقرون عديدة، فما زال مؤلفو العالم ومخرجوه يقتبسون أعمالهم بناء على مسرحياته، ومنهم مخرج هذا العمل فيشال بهاردواج الذي سبق له أن أخرج فيلم «Maqbool» المستوحى من مسرحية «ماكبث»، وفيلم «Omkara» المقتبس من مسرحية «عطيل»، وصولًا إلى هذا الفيلم المستوحى من مسرحية «هاملت».

قصة الفيلم

لنستعرض معًا القصة الأصلية أولًا، هاملت هو ملك الدنمارك المقتول غدرًا، الذي يظهر له شبحٌ في القصر لابنه ووريثه الأمير الذي يُدعى هاملت، ليطلب منه الانتقام من قاتله الذي سيكتشف هاملت في النهاية أنه كلوديوس، عمه الذي قتل أخاه لكي يفوز بقلب زوجته جرترود، التي ستموت في النهاية، وقبلها أوفيليا حبيبة البطل التي ستموت حزنًا على والدها الذي سيقتله هاملت بالخطأ.

هاملت هنا هو حيدر، الشاب الكشميري الذي يعود إلى موطنه بعد دراسته في الخارج ليجد أن بيته هُدم بواسطة قوات الجيش، واعتُقل والده بتهمة الانضمام للمتمردين، ووالدته غزالة جالسة بمنزل عمه كورام تستمع إلى غنائه الذي يحاول به أن يخفف عنها. وبسبب صدمته مما شاهده يقرر الانطلاق في رحلة للبحث عن أبيه بمساعدة حبيبته أرشيا، التي تعمل صحفية، فتدله على أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز الخاصة بالجيش، حتى تتصادف حبيبته مع شخص يُدعى روح دار، كان معتقلًا مع والده في سجن واحد، وأخبره أن والده توفي تحت التعذيب، والسبب وشاية عمك به لقوات الجيش الهندية؛ ومن وقتها تنقلب حياة حيدر رأسًا على عقب في سعيه الدائم للانتقام من عمه، حتى ينتهي الفيلم بنفس النهاية الأصلية للقصة، وهي موت كل الأبطال في حوادث مأساوية.

اختيار المكان

من أهم عناصر نجاح العمل هي وحدة المكان الذي يضم الحكاية التي تُروى. واختيار كشمير كان أهم عناصر نجاح وشهرة الفيلم؛ لأنها ليست كأي إقليم هندي عادي، أو كأي بقعة طبيعية على الأرض، فهي تحمل من الصراع والدم والموت والتعذيب والدمار تاريخًا طويلًا وحافلًا لا يتسع المقال لذكره؛ فهو الإقليم المتنازع عليه بين الهند وباكستان، والذي لا يرغب سكانه إلا في الانفصال عن قبضة الدولتين الأمنيتين حولهما، كما أن الفيلم يحكي عن حقبة التسعينيات التي بلغت فيها ذروة العمليات المسلحة ضد الجيش الهندي للمطالبة بالانفصال، وما يقابلها من عمليات قتل وتعذيب ممنهجة اتبعتها القوات الهندية ضد كل ما هو كشميري.

الجدير بالذكر أن عدد الأفلام الهندية التي تتحدث عن كشمير لا يقل عن عدد المسرحيات التي مثَّلها عادل إمام، أو الفوازير وألف ليلة وليلة التي قدمتها لنا شريهان. فما من فيلم يُذكر فيه لفظ «الإرهاب» من بعيد أو قريب إلا وسترى أن كشمير لها صلة بالفيلم. ولكن «حيدر» يُعتبر الفيلم الأول من نوعه الذي قدَّم القضية الكشميرية بمنظور آخر بعيد عن تلك النظرة المُستهلكة التي تتناولها أفلامهم.

الإخراج

المخرج هو دائمًا ما يكون بطل العمل الأساسي. المخرج هنا كما قلنا من قبل مولع بمزج النصوص الشكيسبيرية بالواقع الهندي بالغ التعقيد من جراء العادات والتقاليد الغريبة، في مخاطرة واضحة منه هذه المرة للتعرض لقضية كشمير الشائكة، بطريقة أنصفت إلى حد ما الكشميريين، وأوضحت معاناتهم من جراء الاعتقالات والاختفاء القسري، ولهذا تعرض الفيلم لانتقادات عنيفة ومحاولات لمنع العرض من جانب الحكومة الهندية بحجة أنه يسيء لسمعة الجيش الهندي، مما اضطر مخرج الفيلم إلى الدفاع عن نفسه حسب مقال نشرته بي بي سي، فقال:

أنا أيضًا هندي، وأنا أيضًا وطني وأحب بلدي، ولذا فلن أفعل أي شيء ضد مصلحة بلدي، لكنني سأعلق بالتأكيد على أي شيء غير إنساني.

في إشارة منه إلى المقابر الجماعية ومعسكرات الاعتقال الهندية التي هاجمتها كل منظمات حقوق الإنسان.

الأداء التمثيلي

بالطبع لا يعرف أغلب القراء ممثلي بوليوود ليقارنوا بين أدائهم السابق وأدائهم في هذا الفيلم، ولذا سأترك لكم مسئولية تكملة هذا الجزء ما إن قررتم مشاهدة الفيلم، ولكن يمكننا القول دون أدنى مبالغة إن الشخصيات كلها لعبت دورها في انسجام شديد بعيد عن الارتجال الذي يأخد أحيانًا الأبطال في الأفلام الهندية، مما يجعل الأفلام تظهر في الصورة المُبالغة التي نعرفها بها جميعًا. فنرى شخصية العم الخائن قد أبدعت في أداء دور الشخص الوفي لذكرى أخيه المعتقل أمام زوجته، ومن خلفها فهو يستغل الوضع للترويج لنفسه في الدعاية الانتخابية والوصول للسلطة عند طريق توريط المعتقلين في أعمال إرهابية يدبرها مع المسئولين.

شبح الملك الذي جسده هنا الفنان الشهير بطل فيلم «life of Pi» عرفان خان في دور «روح دار» كشخص معتقل يُعذب ظلمًا في معتقلات سرية، يرفض غناء السلام الوطني الهندي في طابور عرض المساجين ليتعرض لعذاب أكبر، ثم ليتحول بعد ذلك إلى مسئول مقاومة مسلحة تسعى للانتقام من كل من تعاونوا مع مسئولي الجيش الهندي في قتل وتعذيب الكشميريين.

البطولة النسائية هنا أيضًا لعبت دورًا كبيرًا في إبراز جمال العمل. فوالدة حيدر أو الملكة جرترود برعت في أداء تركيبة معقدة بين حبها لابنها وخيانتها لزوجها، بين إحساسها بالرغبة في الحياة مع زوجها الجديد بعيدًا عن الماضي وتعذيب الضمير على هدمها لحياة زوجها السابق الذي سيؤدي بها إلى التضحية بنفسها في النهاية.
أما حبيبته أوليفيا أو أرشيا التي قام بتجسيدها وجه جديد، يقول المخرج إنه اختارها لأن جمالها يشبه جمال بنات كشمير، فقد أتقنت دور الفتاة التي تقف بجانب حبيبها، في علاقةٍ تعرِّضها لمشاجرات مع عائلتها حتى يقتل حبيبها والدها في دفاع عن النفس، مما يضطرها إلى الانتحار للخلاص من عذابها هذا.

أما حيدر هنا الذي يلعب دوره الفنان شاهيد كابور، فقد برع في التحول من شخصية الطالب المثقف الذي يريد حق والده بالوسائل السلمية كالوقفات الاحتجاجية التي تظهر في أغلب النصف الأول من الفيلم، في إشارة إلى قضية الاختفاء القسري التي عانى منها الكشميريون، إلى شخص مختل مصاب باضطراب ما بعد الصدمة يسكن بجوار قبر أبيه، يلبس ثيابًا مُقطعة لا يريد أي شيء سوى الانتقام.

الموسيقى التصويرية والأغاني

في أفلام هوليود يوجد فئة مخصصة تعرف بالأفلام الغنائية، أما في بوليود فكل الأفلام غنائية. ويجوز أن يكون هذا السبب هو الذي يصنع عداوة بين المُشاهد والأفلام الهندية، وهذا سبب قوي بالفعل لأنه يحول الفيلم أحيانًا إلى ساعتين ونصف دون جدوى، ولكن المخرجين أصبحوا يستغلون هذه الأغاني في صالح تسريع الأحداث المتشابهة بأغنية تحمل معنى قريب للأحداث، فيكسر حالة الملل التي قد تصاحبك من تكرار مشاهد كلامية بين الأبطال تحمل نفس المعنى.

موسيقى هذا الفيلم و أغانيه تتماشى تمامًا مع الجو العام للعمل، فسوداويتها وكآبتها الواضحة ستشعرك بمرارة الخيانة والظلم في طياتها.

الأغاني أيضًا ذات معنى معبر ومؤثر، فأغنية «So Jao» (بمعنى: اخلد للنوم) في النصف الأخير من الفيلم لا تتعدى مدتها الدقيقتين، يغنيها مجموعة من الأشخاص وهم يحفرون قبورًا في الثلج ويتحدثون عن الموت الذي سيريحهم من أشياء كثيرة. والأغنية الختامية للفيلم «intisaab» (بمعنى: إهداء إلى) هي قصيدة لشاعر باكستاني ومناضل حقوقي شهير يدعى فايز أحمد فايز، يحكي فيها عن الآلام التي ألمَّت بالكشميريين جراء الحرب، في كلمات مؤثرة امتزج بها صوت أنثوي عذب يجعلها مؤثرة وحزينة أكثر. هذا بالإضافة للأغنية الاستعراضية الوحيدة في الفيلم «BISMIL»، التي تحمل رقصة استعراضية من الطراز الكشميري يرى الكثير أنها كانت لقطة زائدة يجوز حذفها، ولكنها كانت محاكاة لمشهد اكتشاف الخيانة في الحفلة التي أقامها هاملت في المسرحية، ومن ثَم كشف أن عمه هو الخائن.

موسيقى الفيلم كلها تعود لمخرج العمل فيشال بهاردواج، حيث إنه قام بتلحين موسيقى عدة أفلام من قبل، منها أفلام كانت من إخراجه أيضًا.

التصوير واللقطات

الفيلم لم يُصور في أستديوهات بل في شوارع مدن كشمير، حيث كانت درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات، وذكرت مواقع عديدة أن مواقع التصوير قوبلت باحتجاجات من بعض المواطنين اعتراضًا على رفع العلم الهندي فوق أحد مواقع التصوير كجزء من سير الأحداث، وهذا بالطبع لا يدل على شيء إلا أن جِراح كشمير لم تندمل بعد.

التصوير أيضًا يمتاز بالواقعية واللقطات السينمائية المبهرة، ليس فقط لطبيعة كشمير السياحية والمناظر الخلابة التي تشجعك على المشاهدة، بل لرؤية المخرج أيضًا في عدة مشاهد مثل اللقطات الواقعية لعمليات الاستجواب داخل معسكرات الأمن الهندية، أو الوقفات الاحتجاجية لأهالي المختفين قسريًّا، أو عمليات المواجهة بين أبطال الفيلم حيث يمتزج الدم بالجليد.

اقرأ أيضًا: أزمة كشمير: على أعتاب الحرب الرابعة بين الهند وباكستان

فيلم «حيدر» هو فيلم مميز من عدة نواحٍ؛ مميز كونه فيلمًا هنديًّا بعيدًا تمام البعد عن تلك الصورة النمطية للأفلام الهندية. أول فيلم يتناول قضية كشمير بشكل مختلف. ترجمة مختلفة وغريبة بعض الشيء على طقوس مسرحيات شكسبير المُعتادة. نهاية قوية في واقعيتها ورسالتها رغم ما بها من كآبة تجعله مميزًا عن أي فيلم يقلب الموازين حتى يظفر بنهاية سعيدة وحسب. باختصار، هو فيلم لن تندم على مشاهدته، ولن تمل إذا ما شاهدته مرارًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.