جاء إعلان حماس استئناف علاقتها مع النظام السوري ليفتح باب التساؤلات حول دوافع اتخاذ هذا القرار وملابساته ومآلاته، وقد قالت الحركة في بيان إعلامي لها، إن هذه الخطوة تأتي «خدمة لأمتنا وقضاياها العادلة وفي القلب منها قضية فلسطين لا سيما في ظل التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة التي تحيط بقضيتنا وأمتنا»، وأشادت بسوريا «قيادةً وشعباً لدورها في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني»، معربة عن أملها في استعادة سوريا «دورها ومكانتها في الأمتين العربية والإسلامية، ودعمها كل الجهود المخلصة من أجل استقرار وسلامة سوريا».

وثمنت الحركة الفلسطينية احتضان سوريا للفلسطينيين وفصائلهم المقاومة على مدى عقود، معتبرة أن ذلك يستلزم «الوقوف معها في ظل ما تتعرض له من عدوان غاشم» في إشارة إلى الضربات الإسرائيلية التي استهدفت الأراضي السورية الفترة الماضية.

مسيرة مضطربة

منذ نهاية التسعينيات استضاف النظام السوري كوادر حركة حماس على أراضيه ووفر لهم الدعم بأشكاله المختلفة، وجمع بين الطرفين الموقف المعلن الرافض لمسيرة السلام التي بدأت منذ اتفاق أوسلو عام 1993، والانضواء ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة الذي تتقدمه إيران، لكن مع اشتعال الثورة السورية في ربيع 2011، بدأت حماس تواجه حرجًا في استمرار هذه العلاقة خصوصًا بعدما تصاعد نزيف الدماء بشكل كبير واتساع نطاق الاحتجاجات.

وتناثرت الأنباء حينذاك عن نية حماس مفارقة سوريا، ومغادرة معظم أعضاء مكتبها السياسي مقرهم في دمشق، وظلت الحركة تنفي تلك الأنباء وتؤكد عدم نيتها تغيير مقرها، والتزمت الحياد في ما يتعلق بالشأن الداخلي السوري.

لكن في فبراير/شباط 2012، شارك رئيس وزراء حكومة حماس في قطاع غزة، إسماعيل هنية، في وقفة تضامنية تحت شعار «إنقاذ الأقصى ونصرة الشعب السوري» في القاهرة، وقال: «أحيي شعب سوريا البطل الذي يسعى نحو الحرية والديمقراطية والإصلاح»، في ما اعتبر وقتها أول موقف واضح من الحركة تناصر فيه الاحتجاجات ضد بشار الأسد، ثم قُطعت العلاقات بين الطرفين، وأغلقت دمشق مكاتب الحركة لديها، وتوجه قادة حماس إلى الدوحة.

وخلال الحرب الأهلية اعتقل النظام السوري وهجّر الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، وعاث دمارًا في مخيّماتهم، كما حدث في مخيم اليرموك، وهو يوصف بأنه عاصمة اللجوء الفلسطيني في سوريا، وقد تعرض للدمار ومُنع أغلب سكانه من دخوله بعد سيطرة قوات الأسد عليه.

وظلت العلاقة مقطوعة بين حماس ودمشق، لكن في عام 2017، مع وصول يحيى السنوار إلى زعامة الحركة، ومع ترك خالد مشعل منصب رئيس المكتب السياسي لها، وتولي إسماعيل هنية مكانه، بدأت حماس تراجع موقفها من الأسد، وفي يونيو/حزيران 2018، أعلن هنية أن حركته «لم تقطع العلاقة مع دمشق» أصلًا، ووصف الأحداث في سوريا بأنها تجاوزت مرحلة «الفتنة» وأصبحت عبارة عن تصفية حسابات إقليمية ودولية.

وفي 2019 كشف محمود الزّهار، عضو المكتب السياسي لحماس، عن جهود جارية لعودة العلاقات بين الطرفين، معتبرًا أنّ «من مصلحة المقاومة أن تكون هناك علاقات جيدة مع جميع الدول التي تعادي إسرائيل» مثل سوريا ولبنان وإيران، وأثنى على بشار الأسد شخصيًا، قائلاً: «فتح لنا كل الدنيا، لقد كنّا نتحرك في سوريا كما لو كنا نتحرك في فلسطين، وفجأة انهارت العلاقة على خلفية الأزمة السورية، وأعتقد أنه كان الأولى ألا نتركه وألا ندخل معه أو ضده في مجريات الأزمة»، واصفًا مقالته بأنها «كلمة الحق والصدق حتى وإن لم يرق ذلك الموقف للكثير».

حسابات الخسارة والربح

تبدو حركة المقاومة الفلسطينية في موقف تحاول فيه وزن الأمور بميزان المصالح في مشهد متغير، وتتصرف بطريقة براجماتية في ظل تقلص الخيارات المتاحة أمامها؛ فالمشهد اليوم مختلف تمامًا عن 2012 حين قطعت علاقاتها بنظام جريح بدا في النزع الأخير من حياته، في وقت كان تيار الإسلام السياسي المناصر للمقاومة عاليًا في عدة دول المنطقة، لكن الربيع العربي تحول إلى خريف واستعاد نظام الأسد كثيرًا من قوته ولم يسقط أمام المحتجين، مما دعا حماس للتطبيع معه لإكمال الحلقة المفقودة في خريطة «محور المقاومة» لترميم بنية تحالفاتها الإقليمية.

وجاءت هذه الخطوة خلال زيارة إسماعيل هنية للعاصمة الروسية موسكو، في وقت تشهد فيه العلاقات الروسية- الإسرائيلية أسوأ مراحلها على خلفية موقف تل أبيب من الحرب الأوكرانية- الروسية، وقد أغلقت موسكو الوكالة اليهودية لديها، وفتحت بابًا للتواصل مع حماس، تأمل منه الأخيرة أن يساعد في التخفيف من الحصار على قطاع غزة والاستفادة منه في المحافل الدولية في مواجهة الولايات المتحدة، وأتى تطبيع الحركة الفلسطينية مع النظام السوري الخاضع لهيمنة الروس كنتيجة طبيعية للتقارب مع موسكو.

وقد حافظ الإيرانيون أيضاً على التواصل مع حماس رغم ما مرت به العلاقات من فترات فتور ونفور، وظلت الاتصالات قائمة بينها وبين حزب الله اللبناني خلال فترة قطيعتها مع دمشق، ولا يخفى دور إيران ومصلحتها في عودة العلاقات بين الطرفين، إذ يمثل ذلك تعزيزًا لنفوذها الإقليمي، وانتصارًا لنظام الأسد، وفي المقابل تريد حماس كسب مواطئ أقدام في ساحات جديدة خصوصًا وإن كانت تضم وجودًا فلسطينيًا مؤثرًا مثل سوريا.

كما لا يمكن إغفال تأثير مسألة تقارب أنقرة مع تل أبيب وتطلعها للتعاون معها في مشاريع الطاقة شرق البحر المتوسط، وهذا التقارب يأتي على حساب علاقة حماس بتركيا، كما أن الأتراك يمضون أيضًا في طريق التقارب مع بشار الأسد.

وفي أغسطس/آب الماضي قالت إيريت ليليان، القائمة بأعمال السفارة الإسرائيلية في تركيا، إن عملية إعادة تعيين سفير لدولة الاحتلال لدى أنقرة مسألة وقت وستتم خلال أسابيع، معلنة عن توقع بإغلاق مكتب حماس في إسطنبول، وأن وجود هذا المكتب هو أكبر عقبة أمام التقارب بين الطرفين.

وتخشى الحركة من أن تفقد أي وجود خارجي لها، إذ تفرض عليها أي دولة تتيح لها الوجود على أراضيها قيودًا واشتراطات، كما يصبح هذا الوجود عرضة لتقلبات المصالح بين الدول.

وتأتي هذه التحركات في إطار محاولات الحركة لفك العزلة المفروضة عليها في كل اتجاه ممكن، فقد بيّن هنية مؤخرًا في مقابلة تلفزيونية روسية، أن الحركة تعمل على استعادة العلاقة مع الأردن والسعودية مشيرًا إلى أن زيارة الدول العربية المطبعة مع إسرائيل كالمغرب لا يعني التماهي مع مواقف الحكومات المطبعة، في إشارة إلى رغبة الحركة في الانفتاح على دول المنطقة على اختلاف توجهاتها.

وعلى الصعيد الداخلي فإنه يمكن فهم تطبيع حماس مع النظام السوري في إطار نزاعها مع فتح والسلطة على تمثيل الشعب الفلسطيني، فلطالما تصدت السلطة الفلسطينية لمحاولات حماس مشاركتها في تمثيل الفلسطينيين وقضيتهم.

لكن مكاسب حماس المتوقعة من وراء التطبيع مع بشار الأسد يقابلها خسائر أدركت الحركة مسبقًا أنها ستلحق بها، فعلى الأقل ستخسر رصيدًا شعبيًا من قطاع كبير كان يقف بجوارها تلقائيًا لا يستطيع تفهم مد حركة المقاومة أياديها لنظام ولغ في دماء عربية ومسلمة بل وفلسطينية، كما يؤدي ذلك إلى تعميق حدة الانقسام في الأراضي المحتلة، وداخل الحركة نفسها التي يرفض قطاع من كوادرها لاعتبارات دينية وأخلاقية وضع أياديهم في أيدي ملطخة بالدماء ويرون أن نصرة قضيتهم لا ينبغي أن يكون على حساب القضية السورية، فيما يبدي البعض حماسًا شديدًا لهذا الأمر، بينما يرى قطاع ثالث أن حركتهم في حكم المضطر لهذا الموقف بعدما ضاقت بها السبل مصداقًا لقول الشاعر:

ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى :: عَدُوًّا لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ