(1)

– لماذا؟

– ماذا لماذا؟

– لماذا تشاهدهم؟

– حدث تاريخي، ألا تريدين أن تكوني جزءًا من التاريخ؟ أي امرأة ناكرة أنت؟ ألا ترين القادة يتصافحون ويطوون صفحة الماضي؟ قفي واثبتي وشاهدي معي.

– كنت دائمًا أشك بأنك تهوى التعذيب… وبِحُرّ اختيارك.

وقفت تنظر إلى الجهاز الموضوع على الخزانة البنيّة القديمة. ورثوا البيت بما فيه من أهل مصطفى. عاشت حنان معهم عشر سنين، سافر خلالها إخوة مصطفى الأربعة إلى خارج البلاد، الشباب للعمل، والصبايا للزواج. سافروا واحدًا تلو الآخر. فرغ البيت. أمّا مصطفى فظل يسافر إلى السجن ويعود، ست سنوات انتفاضة.

عرفته هي قبل السجن، في لقاءات الحزب، لم يتوجه إليها بحديث قط، هادئ خجل، فنّان، فهو «الرسّام». مصطفى المسئول عن الأفكار الموضوعة على حيطان المخيم وعلى الجدران في شوارع بيت لحم. هو مُصمّم المناشير ورسّام كلماتها، أصبح الجميع يعرف المنشور الخارج من تحت يديه، وكان هذا مكمن الاعتزاز ومكمن الخطر.

لم تفهم أمّه أبدًا كيف انخرط أرق أبنائها وأكثرهم هدوء في هذا الطريق. أقرب الأبناء وأكثرهم عطفًا، رضيّ الوالدين. لم يكن الابن الأصغر، مصطفى هو أحد هؤلاء المولودين في الوسط، متوسط الطول ومتوسط التحصيل، ومتوسط الصوت ومتوسط الوسامة. لكنّه فنّان بارع كما وصفته الآنسة جين:

مصطفى رسّام موهوب، لو أنه في ظروف مختلفة لكبر ليشبه بيكاسو أو مونيت. أتعرفين يا أمّ مصطفى؟ أهم صفة في مصطفى أنّه يتمرّد. لا تقولي له هذا عني، لكن أكثر ما يعجبني، أنه في آخر كل رسمة نتفق عليها، يُغيّر أو يضيف شيئًا، يفاجئني فأفرح به. هذه روح فنان حقيقي.

لم تلتق أم مصطفى الآنسة جين إلّا مرة أو مرتين، تعلّم مصطفى في مدرسة الوكالة في المخيم، إلّا أن أحد المعلمين أوصله بمعلمة الفنون من مدرسة «تيراسنطا» في بيت لحم، التي انبهرت به وتعهّدته بالرعاية مرّتين في الأسبوع طوال عشر سنين. تمرّد على جين ثم تمّرد عليها هي، أمّه، عندما انضم إلى الحزب، ومن جراره إلى السجن تارة، وإلى حنان تارة أخرى.

(2)

تنقّلت حنان بين حجرات البيت ترتّب وتنظّف. لم يفهم مصطفى ما الذي ترتّبه وتنظّفه بالضبط، لكن كما يبدو لها ثأر قديم مع الغبار. لها ثأر قديم مع الدنيا، لكنها لا تطارده. حنان، ابنة المخيم القوية والمرأة الوديعة. وهو أحب كلتيهما، ففيها منه وفيه منها، كان الرفاق يصفونهما بالإخوة لتشابه سجاياهما. سُجِنت حنان إثر اشتراكها في مظاهرة بعد اجتياح بيروت، وفي اليوم الذي خرجت فيه طلب يدها. تزوجا بعد شهرين، حتى استطاع أن يرتب غرفة لهما فوق بيت أهله في المخيم، لم يكن له خيار آخر.

– لن تكون لك أسرة معها.

بكت أمه لثنيه عن قراره:

– هذه النساء لا تصنع أسرًا.

– حنان بمائة امرأة ورجل.

– ولأنها هكذا لن تكون لك عائلة.

لعنة أم نبوءة؟ ما زال لا يعرف الإجابة وما زالت الإجابة تُقلقه. ففي عشر سنين من الزواج المتقطع، حملت حنان ثلاث مرات وأنجبت مرتين وثكلت مرتين. عائلة ثكلى، هذه كنيتهم الرسمية. وُلد ربيع بعد نصف عام من وفاة خلود. بقيت أعصابهم مشدودة طوال الشهور الأولى، يرقبون حركاته. عاد مصطفى من توقيف قصير هذه المرة، استقبلته حنان على الباب واجمة، ظن أنه فهم وحده لكنه كان محتاجًا أن تؤكد له:

– ربيع؟ أهو أيضًا؟

مرّ عام على موت ربيع في عمر سنتين، عاش أقل من خلود ببضعة شهور. لم يعرفه مصطفى تمامًا، فقد قضى في الحبس عامًا من العامين، لم يعد بحاجة أن يشي به أحد، كانوا يعرفون رسوماته المختومة بموهبته من دون اسم في ذيلها. رافق حنان في أثناء فحوصات خلود، اجتهد الدكتور خالد أيما اجتهاد لمساعدتهم، وأنكر معهم في البداية، ثم استسلم معهم أيضًا عندما تدهورت حالة خلود وشاركهم الحداد عندما ماتت.

– الضمور العضلي الشوكي SMA، مرض وراثي. وقد يتكرر…

استورد الطبيب المعلومات والتشخيص إلى عيادته في بيت لحم، نقل العيادة إلى بيته فلا يضطر إلى الخروج وفتح بابها.

سمعت حنان ومصطفى أن ابنتهم ستموت قبل موتها بسنة، وأنها ستموت كتلة لحم مخنوقة، وهذا ما حصل.

قبل خروجه من الباب أدار مصطفى رأسه نحو دكتور خالد:

– ما معنى وراثي؟ كل أولادنا سيكونون مرضى مثل خلود؟

تمهّل الطبيب في الإجابة:

– الربع، كل مرة الاحتمال هو الربع… طالما أنت وحنان معًا.

(3)

على يمين التلفاز إطاران صغيران، صورة لخلود في عيد ميلادها الأول تحملها حنان ويقف هو بجانبها، صورة خالية من الابتسامات. أمّا صورة ربيع فله وحده، في جيل بضعة أشهر تغطي رأسه قبعة بيضاء رقيقة، مثل ملامحه، عيناه مفتوحتان وفيهما فرح.

يملكون بضع صور، أحيانًا ينظر فيندم أنه لم يشتر كاميرا للبيت مع ولادة خلود، فاضطروا إلى الذهاب للمصور أو الاتكال على كرم الآخرين. أزاحت حنان الصور جانبًا لتنظف تحتهما وحواليهما، وبعد أن انتهت أعادتهما إلى مكانهما، وتباطأت وهي تبتعد عنهما.

– مصطفى…

توقفت عن الحركة ونظرت إليه، ترى نصف وجهه متخفيًا خلف لوح الرسم الكبير، ومن حيث هي، هو أيضًا يرى نصفها.

– نعم…

واصل الرسم منهمكًا بما يفعل.

– أريد أن أنجب.

مرّت أكثر من سنة على وفاة ربيع، لم يجرؤ أي منهما على فتح الموضوع ولو مرة، فلماذا اليوم؟ لماذا يا حنان؟

– اليوم؟

– لا أصدق أنك تعلّق بهذا فقط.

نفضت قطعة القماش التي بيدها وجلست ممسكة رأسها على المقعد المقابل له.

– لماذا اليوم يا حنان، لماذا تفتحين الموضوع اليوم؟

– لا أعلم، وما المهم في اليوم؟ سيأتي يوم أي يوم، ما الفرق؟ انظر حولك، انظر إلينا، إلى حالنا، وماذا بعد؟ هناك أمل أن يكون لنا طفل سليم يا مصطفى، واحد، ابن، ابنة، شيء نعيش له وبه. لم يبق ما نعيش به، لم يبق، العمر ينهش فينا، في صحتي وصحتك.

– كم عمري اليوم؟

حدّقت في لوح الرسم تستشف تعابير وجهه المحتجبة خلفه وقرّرت أن تجيبه.

– أربعون، وأنا ستة وثلاثون.

– حقًا؟ فيم ضاع العمر؟ كبرتِ يا حنان.

لم تُجبِه، هي لا تعرف إجابات لكل الأسئلة التي يلقيها، ولن تتعب رأسها بها الآن، من أجل ماذا؟

صمتا، فعلا صوت المعلق من التلفاز وكأنه يشاركهما الحديث. وارتفع انفعال المذيع فوق صوته عند لحظة التصافح والابتسامات الملوّنة، فوق العشب الأخضر في العاصمة.

– دعنا لا نضِع ما بقي منه.

توقف عن الرسم، وأرخى رأسه على صدره لدقيقة طويلة، ثم رفعه وأعاده إلى الوراء في حركة درامية لم تشاهدها حنان، واستأنف الرسم.

– هل هذا بيدنا؟ ألّا نضيع ما بقي من العمر؟ كيف تعرفين هذا؟

– قد أخذنا نصيبنا من كل شيء، من كل ألم ومن كل حرمان.

– ومن كل هزيمة.

– ومن كل نصر أيضًا.

– نصر؟

رفع رأسه من فوق اللوح من دون أن يقوم عن كرسيه العالي، اشترت حنان اللوح والكرسي بكل سخاء، هدية مقدمة له بلا مناسبة.

– نعم، نصر، أنا أحبك يا مصطفى، وها نحن معًا… هذا نصر. هذا نصر يا مصطفى فلا تهزمني أنت، يكفيني هذا البؤس.

قامت هي من مقعدها واتجهت نحو التلفاز وأطفأته. راقبها محتجًّا.

– هناك شيء مريح في كل هذا البؤس. تستسلم وتفهم أنك لن تقوم بدور البطولة أبدًا. اليوم نستغني عن أن نكون أبطالًا يا حنان، تُحال البطولة إلى التقاعد. مريح، مريح جدًا هذا الدور… لا بطل.

مدّ رأسه مرة أخرى ليرى وقع كلامه عليها، وكأنه بعثها إلى زمن آخر، ماض أو مستقبل.

– شعب بلا أبطال هو أيضًا شعب بلا ضحايا، لن يكون لنا ضحايا بعد الآن. سيتغيّرون… الضحايا، لن يكون أسرانا أسرى، ولا شهداؤنا شهداء.

– في نظر العالم؟ في نظر الغرب؟ ومتى كانوا؟

– في نظر أنفسنا… ماذا ترسم يا مصطفى؟

– أرسم نفسي.

– من الذاكرة؟ ودون مرآة؟ صعب.

اقتربت منه وأحاطت رقبته بذراعيها، ونظرت إلى اللوحة أمامهما.

– ما رأيك؟

– من هذا؟ أهذا أنت؟

– لا أعرف، هذا ما أتذكره.

نزلت دموعها على عنقه وسالت وانتشرت تحت قميصه حارّة موجعة.

– نحن لسنا الظالمين، ليس نحن، ليس أنت… لا تفعلها مرة أخرى. لا تدعهم يُشوِّهونك.

ثم سكتت، ولم يتكلم مصطفى، أمعن النظر في رسمه، وبدأ يضيف بعض الخطوط حوالي فمه وفوقه، هل سيرسم نفسه باسمًا أم بائسًا، مرتخيًا يظهر الشقوق حواليه أم مشدودًا غاضبًا، استمر يضع الخط فوق الخط بقلم رصاص مبري حاد.

– أنت لم ترسم خلود ولا ربيع من قبل، لماذا؟ ارسمهما. وارسم طفلنا القادم، سننجب أطفالًا للمخيم، وسيكونون أصحاء، وسيعيشون، وسترسمهم. أمّا أنا فسأجلس في وسطهم، وسترسمني. ولن تكتب شيئًا بعد اليوم، فقط سترسم.

– ماذا ترين يا حنان؟ أهو مبتسم أم حزين؟ انظري إلى شفاهه. ما رأيك؟

بقيت واقفة فوق رأسه، ولم تجبه.

– لا تجيبي، أنا انتهيت.

(4)

وقّع في ذيل الرسم وكتب التاريخ أسفل توقيعه: مخيّم عايدة، 13 سبتمبر/أيلول 1993.

دوّن اسم، لم يكتب اسمه. ما الداعي للأسماء، للتفاصيل؟ ألا تشبه المخيمات بعضها البعض؟ طراز معماري أصيل مستقل، مؤقت دائم. حكى لهم أبوهم أن جدهم، أباه، كان أول المتوفين في المخيم، وقبل رحيله طلب أن يُدفن في بلده، في المالحة، أصرّ أنها قريبة وأنه يشمّ رائحتها، يومها شمّ أيضًا أبو مصطفى المالحة. أين يدفن سكّان المخيّمات أمواتهم؟

نجحوا في دفن أبيهم الأربعينيّ في طرف المقبرة في بيت لحم، وفهموا أنهم ارتبطوا إلى الأبد بطرف المدينة، بطرف الموت وطرف الحياة.

لمصطفى الآن في المقبرة جدّ وجدّة، أب وأم، ابنة وابن، فكيف سيرحل المخيم عن كل هؤلاء؟ هل ستعجب «أوسلو» بمعمار المخيم فتُبقِيه؟ أم هو إلى زوال؟ دخلت أنفه رائحة المالحة، أنت حيث مقبرتك.

– حنان، شغّلي التلفاز.

شغّلته من جديد، نظرت نحوه مُشفِقة. ضرب لوح الرسم بقدمه، فأوقعه لولا وثبة حنان التي امسكت باللوح قبل أن يرتطم بالأرض، وبقيت على الأرض محتضنة اللوح تنظر إلى مصطفى، وانتبهت إلى خطوط متشابكة تنبت فوق شفتيه وفي كل الاتجاهات، وخلا وجهه أيضًا من الألوان.

– عايدة اسم بنت.

كرّرت جملتها بتمتمة واضحة يسمعها مصطفى.

– عايدة اسم بنت تعيش.

عينا مصطفى على الشاشة، فاستمرّت برفق وهي تحاول أن تقوم وترفع اللوح معها.

– عايدة اسم بنت تعيش في المخيم ولا تموت فيه.

وقفت حنان مُنتصبة وثبّتت اللوح على الأرض، فلم يعد يرى من الشاشة إلّا طرفها، ولم يعد يسمع في البيت إلّا تمتمات حنان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.