الكثير من الزخم، والإعجاب، والحسرة والندم، كانت تلك الانطباعات عن حفل تكريم هاني شنودة في السعودية برعاية تركي آل الشيخ. والكثير جدًّا من العيون التي تغرغرت بعد أن غنى عمرو دياب «الزمن» مع أبيه الروحي مرة أخرى، هاني شنودة، بعد أربعين سنة من أدائها معًا.

لهاني شنودة وعمرو دياب علاقة فيها من الحميمية ما يستحق أن يُروى، وفيها علاقة موازية تشكلت لدى الجماهير الذين أحبوا ذلك التصور الذي لديهم عن علاقة الرجلين وما فيها من إعجاب الابن بأبيه، ورغبتهم في أن يروهما معًا مجددًا، فذلك التعاون وما به من «هارموني» موسيقي، ورعاية إنسانية قدمها شنودة لعمرو دياب، كان ذلك هو  السر الذي دفع عمرو دياب إلى النجومية منذ ألبومه الأول «يا طريق»  في أربع أغانٍ؛ هي: «يا طريق»، «الزمن»، «نور ياليل»، «في أحضان الجبال».

يُدق الباب

المكان: بورسعيد، الزمان: أحد الليالي في مطلع عقد الثمانينيات، الذي شكل حلمًا للمصريين في إعادة البناء، وكلٌّ على طريقته. يستريح الأستاذ هاني شنودة بعد أن أدت فرقته «المصريين» أحد فقراتها في حفل في بورسعيد، إلا أن طرق الباب يزعجه ويقطع عليه خلوته.

شاب يتحدث بلهجة بورسعيدية صرفة، اقتحمني بجرأة، ولم يتردد في تقديم نفسه، قال: «إزيك يا هاني بك .. أنا اسمي عمرو ونفسي أسمعك صوتي .. أنا نفسي أبقى حاجة». كانت تلك كلمات هاني شنودة في مذكراته عن لقائه الأول بعمرو دياب، وما أحدثته كلمة عمرو دياب «نفسي أبقى حاجة» من وقع في نفسه، جعله يتأثر تأثرًا حقيقيًّا لما فيها من صدق حقيقي، وإيمان عمرو بموهبته، وحين غنى له من أغاني عبد الحليم، تجلى ذلك الإيمان في شكل برهان لمسه هاني شنودة، فذلك الفتى كانت “عُربه” الموسيقية سليمة ومنضبطة، إلا أن عائقًا، آمن شنودة بأنه بسيط، إذا تغلب عليه الفتى، سيكون قادرًا على اجتياح الساحة الغنائية، وهنا قدم له شنودة نصائحه التي صنعت عمرو دياب كما هو فيما بعد. «لا بد أن تدرس، وتعالج مخارج الألفاظ لأن لهجتك – البورسعيدية – طاغية على غنائك».

في صباح اليوم التالي، طرق آخر باب غرفة الأستاذ، وحين يفتح الباب، يفاجأ بذلك الشاب مرة أخرى، وفي يده حقيبة سفر، قبل أن يتكلم شنودة، قال عمرو: «أنا جاي معاكم!» قرر عمرو القدوم للقاهرة لصقل موهبته، لتقديم أوراقه في المعهد العالي للموسيقى، وفاتح هاني شنودة في أن هناك منتجًا بورسعيديًّا يمتلك شركة تدعى (صوت المدينة)، وهو على استعداد أن ينتج له شريطًا، ولكن بشرط أن يتولى شنودة إدارة المشروع.

كل خطوة مندفعة بـ «العشم» الكبير والجرأة الجامحة التي يمتلكها عمرو، كانت تثير إعجاب شنودة أكثر فأكثر بهذا الصوت والشخص الذي يجسده، ورأى أن تلك المبادرات والجرأة يكمن وراءهما مشروع مطرب ناجح، فلمَ لا يتوسط له في معهد الموسيقى وهذا ما حدث. وما زاد إعجاب الأستاذ بعمرو أنه لم يكن اتكاليًّا، لم يطلب من شنودة شيئًا بعيدًا عن الموسيقى، فهموم السكن والغربة في القاهرة، وأموال العيشة، كلها أمور دبرها عمرو دياب دون أن يسأل شنودة شيئًا، وهو الأمر الذي أعجب شنودة وأثنى عليه كصفة مهمة في شخصية عمرو دياب، في مذكراته.

بين مات مونرو ومحمد منير

قبلها، في نهاية السبعينيات، كان شنودة قد قدم الفتى الجنوبي «محمد منير» إلى الجمهور عام 1977م من خلال علموني عينيكي، وهو الذي اجتاحت نجوميته الآفاق في وقت قياسي. ذلك النجاح كان مغريًا لعمرو دياب، وأراد تجربة مماثلة، أسر دياب لشنودة بإعجابه الشديد بتجربة محمد منير والدور المؤثر لشنودة فيها، وبدء شنودة الذي كان قد صقل موهبة منير بالتعاون مع الشاعر عبد الرحيم منصور، بأن يبحث عن هوية لدياب يقدمه من خلالها للجمهور. فرأى شنودة أن عمرو دياب لون، ومنير لون آخر مختلف، ولا يمكن للاثنين أن يلتقيا في نوع غنائي واحد بسهولة، فعمرو يجب أن يكون في الجهة المقابلة لمشروع منير، يجب أن يكون مغني الشباب بكلمات أكثر رشاقة وخفة، بينما منير، هو مغني السياسة، والمجتمع، والفلسفة. رأى شنودة في عمرو الوجه البسيط والتجاري للأغنية الحديثة التي سعى لتقديمها، بينما كان رأيه في منير، أنه الوجه الأكثر عمقًا، المرتكز على موروث ثقافي وفني، وكأن شنودة كان يرسم لكل منهما مصيره، فهذا ما تحقق في رحلتهما الفنية فيما بعد.

كان عمرو دياب يتدرب مع شنودة على اختبارات خاصة للتخلص من المسحة البورسعيدية التي تميز لهجته من أجل أن يُقبل في اختبارات الإذاعة، والتي اجتازها بالفعل، وكانت تلك انطلاقته. وهنا رأى شنودة أن دياب أصلح لأن يكون مات مونرو المطرب البريطاني الشهير، فخامة الصوت واحدة، كما أن اللون سيكون متشابهًا، حيث يسعى شنودة لجعل عمرو دياب مطربًا رومانسيًّا.

وبالفعل، كانت أغنية «الزمن» وهي التي صنع بها الرجلان الحدث مرة أخرى بعد أربعين عامًا، اقتباسًا للشكل الموسيقي واللحن لأحد أغنيات مونرو، وحينما أدياها للمرة الأولى، طلب شنودة من عمرو أن يغنيها بنفس الإحساس والأسلوب.

ربما امتثل شنودة مرة في طلب دياب بأن يكون كمحمد منير، وهنا تبرز قصة أغنية «أمي الحبيبة» التي غناها الثنائي معًا مع شنودة في الحفل الأخير، كانت الأغنية لمحمد منير غناها في تتر مسلسل أمي الحبيبة من بطولة أمينة رزق عام 1982م، من كلمات سمير طاهر وألحان شنودة، كان منتج المسلسل قد طلب من شنودة أن يرشح له مطربًا لغناء التتر، ولم يتردد شنودة في اختيار منير، وبعد فترة، جاء عمرو دياب يطلب من شنودة متدللًا عليه، أن يغني الأغنية، ويقدمها في عيد الأم، وهو الطلب الذي رفضه شنودة في البداية، ولكن بعد إلحاح، وافق شنودة، ليقدم عمرو دياب نسخته من الأغنية، وليعود الثلاثة معًا بعد أربعين عامًا، الأب وابناه الاثنان، لأن يجتمعا بها معًا للمرة الأولى.

فراق مبكر يفرضه النجاح

كان شنودة واقعًا في عشق صوت عمرو دياب، لذلك كان من العجيب أن الاثنين لم يعملا معًا في الكثير من الأغاني والألبومات، ولكن ذلك الإيمان والحب لصوت عمرو دياب، تعكسه مواقف شخصية، لم تروَ إلا في جلسات الود والمحبة، كالتي يرويها أيمن الحكيم في كتابه «مزامير القرآن» حينما التقى شنودة ليعرف رأيه في الشيخ رفعت، قال شنودة في معرض كلامه عن الشيخ رفعت: «ليس سرًّا أن كل المطربين الذين دربتهم في بداية مشوارهم كانت تلاوات الشيخ رفعت حاضرة في تلك التدريبات .. يعني مثلًا عمرو دياب الذي ادعوا عليه في فترة أنه مؤدٍّ وليس مطربًا، أقول لهم علنًا: لو سمعتم عمرو دياب في بيتي وهو يقلد طريقة أداء الشيخ رفعت في تلاوة وتجويد القرآن لما قلتم هذا الكلام الباطل، كان يقلده بنفس الخشوع والجلال والأسلوب وطبقات الصوت، وأتحدى من يسمع عمرو دياب في قراءته للقرآن ولا تنزل دموعه من شدة التأثر .. وكذلك في أدائه للشيخ سيد النقشبندي».

ودافع هاني شنودة كثيرًا عن عمرو دياب في البرامج التي يحل فيها ضيفًا، وأثبت صفاءه تجاه فتاه في أكثر من مرة، فحتى بعد أن بلغ دياب قمة النجومية التي تكللت بتقديمه سيرته الذاتية «الحلم» في برنامج رمضاني عام 2008م، كان شنودة أحد الضيوف المتكررين دومًا في الشهادة لعمرو دياب، وحكاية سيرته، كما يراه أستاذه الكبير.

أهم الأشياء التي دافع فيها شنودة عن عمرو دياب كانت هي التي سببت فراقهما المبكر، فعمرو دياب لم يكن “ناكرًا للجميل” أو “مغرورًا” أو “قليل الأصل” كما افتُري عليه كثيرًا، ولكنه كان متلهفًا للنجاح، ولإثبات الذات وهذا ما يقول عنه شنودة: “تحدثت كثيرًا عن عمرو دياب، واستعان بشهادتي في برنامج (الحلم) وكانت لفتة طيبة منه تعكس تقديره لأساتذته الأوائل، وشركاء الرحلة، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون عن عمرو، فالإعلام نقل صورة مغايرة عنه، شكَّلها خصومه، أو شركاء لم يتفهموا هاجس الخوف من الفشل الذي يسكنه طوال الوقت ويدفعه للتخلي عن أي شخص لا يمنحه الجديد والمختلف والمميز، ولولا هذا الخوف ما أصبح عمرو دياب النجم اللامع، ولبقي الشاب الخجول القادم من بورسعيد بحثًا عن حلمه في القاهرة”.

كان شنودة، بينما يبزغ نجم عمرو دياب، نجمًا بالفعل، ولديه الكثير من المشاريع، أبرزها فرقة المصريين التي ظلت مشروعه الأهم رغم كل شيء، ولهذا كانت شغله الشاغل والأكبر، وعمرو دياب بطبيعته كان مصرًّا على تفرغ من يعملون معه بشكل كامل، وتلك العادة التي رآها شنودة سببًا لنجاحه، ولهذا السبب اعتذر شنودة عن الاستمرار في العمل مع عمرو دياب بعد ألبوم يا طريق، حتى لا يظلمه، ولا يظلم علاقتهما، واكتفى بأن يكون صديقًا، ومستشارًا وقت الضرورة.

وحينما خرج الألبوم الأول لعمرو دياب عام 1983م، لم يحقق نجاحًا كبيرًا وقتها، رغم أنه سينجح كثيرًا فيما بعد. هوجم عمرو دياب من الصحافة، وسخر الكثير من الأفلام منه، وهو برغم حداثة سنه، استطاع أن يقاوم ذلك التيار، وتدخل شنودة بدور الأب/المستشار لينصح عمرو دياب بما عليه أن يفعله لينجح إذن، وهنا تلعب أغنية «الزمن» مرة أخرى دورها.

في ستوديو محمد نوح قدم عمرو دياب الكليب الأول في مسيرته بناءً على نصح هاني شنودة، وكان الكليب لأغنية «الزمن» وطلب من أستاذه أن يظهر معه في الأغنية وهو يعزف على الأورج ليمنحه مباركته الموسيقية لصوته الجديد، ويقدمه للجمهور.

وفتحي عبد الستار، مخرج الكليب، أحب ألا يصور الكليب إلا في حضور شنودة قائلًا له: «يا هاني، أنت لو لعبت معاه بيانو في الكليب، أنا هقدر أصوره». وخرج الكليب للجمهور، بفرحة وصدق، بإيمان الأستاذ، وقلق عمرو الذي سيقوده للنجاح فيما تبقى من حياته.