في تجمع بولاية خوست الحدودية، أقصى شرقي أفغانستان، أطلق وزير الداخلية في حكومة طالبان، سراج الدين حقاني، تصريحاته التي كشفت عن خلاف داخل الصف الأول في الحركة التي تحكم أفغانستان منذ منتصف أغسطس/آب 2021 بعد الخروج الأمريكي المفاجئ والسقوط الفوري لحكومة أشرف غني المعترف بها دوليًا.

انتقد حقاني «احتكار السلطة» في الحركة، الأمر الذي أدى برأيه إلى تشويه النظام بأسره، وطالب الحكومة التي ينتمي هو نفسه إليها بالتخلي عن السياسات التي من شأنها أن تباعد بين النظام والشعب، وتسمح للبعض بأن يستغلها لتشويه الإسلام.

كان دبلوماسيون أجانب قد نقلوا عن حقاني معارضته قرار الحركة الذي صدر في ديسمبر/كانون الأول الماضي تعطيل التعليم الجامعي بحجة «تجهيز المناخ الملائم». أتى هذا القرار بعد تعطيل عملي للتعليم الثانوي للبنات منذ سيطرة طالبان على الحكم، وأعقبه بثلاثة أيام قرار آخر بحظر عمل النساء في المنظمات غير الحكومية بحجة أنهن كن ينتهكن الشريعة الإسلامية بعدم الالتزام بالحجاب.

تصريحات حقاني أثارت رد فعل غاضب من مسئولي الحركة في كابل، على رأسهم ذبيح الله مجاهد، كبير المتحدثين باسم الحركة، الذي بث التلفزيون الرسمي الذي تسيطر عليه حركة طالبان خطبة له في تجمع ديني كذلك، قال فيها إن الخلق الإسلامي يدعونا إلى عدم انتقاد الأمير أو تشويهه في العلن، بل توجيه النصيحة إليه في السر.

أما عبد الغني فايق، نائب وزير العدل في حكومة طالبان، فكان أكثر صراحة في رده على حقاني، حين حذر المسئولين من المساس بتوزيع السلطة القائم في الحركة. فايق أضاف، في حفل تخريج محامين في كابول، إن أي مسئول مهما بلغ موقعه لا يمكن التسامح معه إذا تحرك ضد الإمارة الإسلامية.

شبكة حقاني: تنظيم داخل التنظيم

يتمتع سراج الدين حقاني بحيثية خاصة في الحركة، فهو ليس فقط وزير الداخلية في حكومتها ونائب أميرها، بل هو زعيم شبكة حقاني التي تمثل عمليًا تنظيمًا داخل تنظيم طالبان، بل وسابقًا تاريخيًا على وجود الحركة.

تأسست شبكة حقاني على يد جلال الدين حقاني، والد سراج الدين، في منتصف السبعينيات في إطار معارضة نظام داود خان الإصلاحي. انحدر حقاني من عائلة من ملاك الأراضي في ولاية باكيتا قرب خوست، أقصى شرق أفغانستان، على خط ديوراند الحدودي مع باكستان، وعارض إصلاحات داود خان التي كان من شأنها إضعاف مكانة ملاك الأراضي وتهديد ملكيتهم، فضلًا عن خرق الثقافة المحافظة التي يعيشون وسطها.

تمتع حقاني بنفوذ بين القبائل البشتونية على الحدود، واعتمد على قبيلته جادران في تشكيل شبكته المقاتلة التي انخرطت في مقاومة الغزو السوفيتي، كما انضمت إلى مجموعة محمد يونس خالص التي انشقت عن الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، أكبر الأحزاب المقاتلة في أفغانستان آنذاك.

عبر الثمانينيات، تمكن حقاني من بناء علاقات قوية ومستقلة مع أطراف مختلفة، من بينهم أسامة بن لادن الذي ساعده حقاني في تأسيس تنظيم القاعدة وفق أفكار عبد الله عزام، وكانت تلك الأفكار قد تركت أثرها في حقاني نفسه. حصل حقاني كذلك خلال تلك الفترة على دعم سخي من المخابرات الأمريكية ومن الداعمين العرب في منطقة الخليج، كما بنى صلات قوية بالمخابرات الباكستانية.

تولى حقاني وزارة العدل في حكومة المجاهدين التي سيطرت على كابل بعد سقوط نظام نجيب الله عام 1992، لكنه رفض الانخراط في الصراع الذي اندلع آنذاك بين فصائل «المجاهدين» على السلطة. وعندما تمكنت حركة طالبان الناشئة حديثًا من توسيع نفوذها في أفغانستان، لم يظهر يونس خالص العداء للحركة بخلاف قادة «تحالف الشمال» الذي تشكل ضد طالبان، بل رحب بصعودها، وأعلن حقاني بيعته للحركة عام 1995 قبيل سيطرتها على كابل.

اتسمت علاقة حقاني بطالبان في السنوات التالية بشد وجذب مستمرين، فحقاني كان أجدر القادة العسكريين في جانب طالبان بعد التحاقه بها في مواجهة تحالف الشمال الذي قبع على رأسه قائد عسكري مخضرم هو أحمد شاه مسعود الملقّب بـ«أسد بنجشير»، لكن كفاءة حقاني وصلاته الواسعة ونفوذه شكلت إزعاجًا لمؤسسة الحركة، ورأى هؤلاء الذين يتحدر أغلبهم من قندهار جنوبي البلاد، في بزوغ نجم حقاني تهديدًا لنفوذها، وذلك بحسب ما يروي الصحفي المصري مصطفى حامد في كتابه «صليب في سماء قندهار».

هكذا بينما تولى حقاني صد هجوم الجنرال الأوزبكي عبد الرشيد دوستم ومع قوات مسعود على كابل مطلع 1997، صدر قرار بتعيينه وزيرًا للقبائل والحدود عوضًا عن أن يتولى وزارة الدفاع ذات الأهمية الكبيرة في ذلك الوقت، كما شن بيروقراطيو الحركة حملة تشويه ضده وضد رجاله من المقاتلين القبليين بدعوى تورطهم في أعمال سلب ونهب. وفي الهجوم التالي لتحالف الشمال، عملت وزارة الدفاع على ألا يتولى حقاني قيادة الدفاع عن كابل، ما أدى إلى هزائم كبيرة لطالبان.

بقيت شبكة حقاني مع ذلك تتمتع باستقلالية خاصة داخل طالبان، نظرًا لامتلاكها موارد مستقلة تتمثل في التجارة والتهريب عبر الحدود مع باكستان، كذلك بسبب قوتها العسكرية، حيث وصفها مراقبو الأمم المتحدة في أفغانستان عام 2021 بأنها تمثل القوة العسكرية الأكثر جهوزية في طالبان.

وفقًا لأنس حقاني الذي أصبح اليوم أحد الوجوه البارزة في طالبان، فإن الولايات المتحدة عرضت على أبيه التعاون قبيل الغزو، لكنه رفض. وبرزت شبكته كإحدى أقوى مجموعات المقاومة الأفغانية بعد ذلك، في حين اتهمتها الولايات المتحدة بأنها الذراع الحقيقية للمخابرات الباكستانية في أفغانستان، لكن حقاني وباكستان أنكر كلاهما الاتهامات.

تعرض حقاني لإصابة بالغة جراء غارة استهدفت مسجده في خوست في عام 2001، وقد بقي خلال السنوات التالية يعاني آثار تلك الإصابة إلى الإعلان عن وفاته عام 2018، بينما تولى ابنه سراج الدين حقاني قيادة الشبكة إلى جانب عمه خليل حقاني وأخيه الأصغر أنس.

حظي سراج الدين بحضور مباشر في قيادة طالبان، فتولى منصب نائب الأمير الأختر منصور الذي خلف المؤسس الملا عمر، واحتفظ بالمنصب ذاته عقب صعود الأمير الحالي الملا هبة الله أخوندزاده، كما احتفظ مع عمه خليل بعضوية مجلس شورى الحركة منذ إعادة تشكيله في كويته في باكستان، وهو الهيئة العليا بالحركة. كذلك عمل أخوه أنس ضمن الوفد المفاوض للحركة في الدوحة وأصبح أحد المتحدثين البارزين باسمها.

أعطت تلك المناصب انطباعًا بانصهار قيادة الشبكة في قيادة طالبان، إلا أن التصريحات الأخيرة تبرز بقاء مسافة مزمنة بين الفريقين بدا معها تولي سراج الدين وزارة الداخلية، في مقابل تولي الملا محمد يعقوب مجاهد، نجل المؤسس الملا محمد عمر، وزارة الدفاع، بمثابة تسوية توزع النفوذ بين أجنحة الحركة.

كان صعود الملا محمد يعقوب نفسه إلى رئاسة اللجنة العسكرية العليا، أهم لجان الحركة، عام 2020، وإحلاله محل الملا إبراهيم صدر الذي تولى قيادتها منذ 2014، أشبه بترضية لنخبة قندهار التي تمثل الحرس القديم في الحركة، ولم يكن الإحلال مدفوعًا فحسب بسخط صدر على باكستان التي حملها صدر مسئولية اغتيال الملا أختر منصور، صديق صدر المقرب، واقتراحه الاقتراب من إيران بدلًا من باكستان.

تعليم البنات: الوجه الأيديولوجي للصراع

رغم وصفها المستمر بأنها الجناح الأكثر تشددًا في طالبان، فإن شبكة حقاني تختلف مع طالبان حول منع تعليم البنات والموسيقى، وفقًا للصحفي الأمريكي ستيف كول في كتابه «الإدارة S: المخابرات المركزية وحروب أمريكا السرية في أفغانستان وباكستان» الصادر عام 2019. بل إن الشبكة سمحت لمنظمة CARE الخيرية الأمريكية المعروفة بتأسيس مدارس في مناطق نفوذها.

تمثل قضية تعليم النساء المسألة الأكثر حساسية في أفغانستان، نظرًا لكونه السبيل المأمول لإنجاز تحديث اجتماعي تدريجي ينقذ الشعب الأفغاني من معاناته في ظل الاضطراب السياسي وسيطرة حركة طالبان على البلاد.

يرى المدافعون عن طالبان (كمجموعة كتاب مجلة الصمود الرقمية) أن طالبان لا تحرم تعليم النساء، وإنما تضطر إلى منعه بسبب رفض الاختلاط والمصاعب اللوجيستية الهائلة التي تواجهها الحركة.

لكن دعوى طالبان انتظار تهيئة الظروف المناسبة لا تعني كثيرًا في ظل صعوبة تحقق ذلك، فتعليم البنات لا بد أن يعني أخيرًا السماح بقدر من الاختلاط والتحرر في الملبس لصعوبة الفصل التام في المجال العام بين الجنسين، وتوفير معلمات إناث مؤهلات في مختلف المراحل والمجالات، وتوفير مرافق وخدمات ومواصلات مستقلة للنساء.

هكذا، غرد المنظر الجهادي الشهير أبو بصير الطرطوسي (السوري عبد المنعم مصطفى حليمة) على تويتر ناصحًا طالبان بالسماح بتعليم البنات حتى إن شابته مخالفات باعتبار ذلك أخف المفسدتين.

لكن ما يبدو إلى الآن أن جناحًا قويًا في مؤسسة الحركة ما زال حريصًا على ألا تؤدي سيطرة الحركة على البلاد إلى إفلات زمامها من يديه، وتمثل مسألة تعليم البنات إثباتًا لنفوذ ذلك الجناح في التنظيم.

لا يؤثر هذا النفوذ على موقف الحركة من قضية تعليم النساء أو عملهن فحسب، بل يمتد إلى تورط الحركة في ممارسات صدامية على غرار هدم تمثالي بوذا الأثريين في وادي باميان في مارس/آذار 2001 رغم خلافات داخل الحركة حول تلك الخطوة. مؤخرا، قامت الحركة بإغلاق مزار شيعي في كابل كان يتردد عليه شيعة الهزارة الأفغان بحجة وقوع ممارسات شركية بالمزار. تؤدي قرارات من هذا النوع إلى تفتيت المجتمع الأفغاني المتعدد عرقيًا وطائفيًا، ويشعر الأقليات غير البشتونية وغير السنية بالاغتراب في ظل حكم طالبان، كما تسبب هكذا قرارات صدامات مع الداعمين المحتملين لطالبان كإيران.

هكذا تبقى قضية تعليم البنات، المسألة الاجتماعية الأكثر أهمية في أفغانستان بعد المسألة الاقتصادية، رهينة لصراعات السلطة والتنظيم في طالبان، ويتطلب حسمها حسم قيادة الحركة للخلافات بين أجنحتها.