تدهورت العديد من العملات جراء الحرب الروسية الأوكرانية، لكن المفاجأة أن الروبل قد حقق مكاسب كبيرة خلال الفترة الماضية. ارتفع الروبل مرة أخرى إلى مستوى ما قبل الحرب. هذا الارتفاع قد يعني أن روسيا قد استطاعت أن تتغلب على العقوبات الضخمة التي أحاطت بها جراء الحرب، أو قد يعني أيضًا أنه الارتفاع الذي يسبق عاصفة الانهيار المالي.

ارتفاع الروبل رافقه إجراءات روسية تظهر ثقة الدولة في عملتها مثل خفض سعر الفائدة، وإلغاء بعض الإجراءات التي تُقيّد التعامل بالدولار. رغم أنها قررت أن تدفع ديونها بالروبل لا بالدولار. يعتبر اقتصاديون أن ذلك يُعد أول تخلف عن تسديد الديون منذ الثورة البلشفية، لكن روسيا أوضحت أن قيامها بذلك ليس لنقص الدولار لكن بسبب قيود الولايات المتحدة التي تُحد من صلاحية روسيا في استخدام الدولار.

ويحتفظ الاقتصاد الروسي بتصنيف جيد حتى مع الخسارة، فالبنك الدولي يتوقع انخفاض الناتج المحلي لروسيا بنسبة 11%. لكن نفس التقرير يتوقع خسارة جيران روسيا، في أوروبا الشرقية، الذين يعاقبونها نظريًا، بنسبة 30%. ما يعني أنه حتى في حال أثرّت العقوبات على الجانب الروسي فإن تأثيرها سيكون أضعافًا على الآخرين. خصوصًا أن إيرادات روسيا من النفط  يتوقع أن تصل إلى 320 مليار دولار، أي بزيادة تعادل 33% عن عام 2021.

اقرأ أيضًا: العقوبات الغربية: هل تخضع روسيا هذه المرة؟

ورغم العقوبات فإن كافة الشحنات الروسية من النفط الخام جرى بيعها، ونفدت تمامًا من الأسواق. ما يعني أن الإمدادات الروسية من الطاقة ما زالت تجد مشترين لها لا يبالون بالعقوبات الغربية، أو على الأقل يستطيعون الالتفات حولها. رغم التحذيرات الأمريكية، كما في حالة الهند، حيث حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن الهند من الانحياز لروسيا بعد أن وصلتها شحنات من الخام الروسي.

صندوق للأزمات وتقييد الدولار

وفي قلب الأزمة أعلنت موسكو أنها ستوجه قرابة 4 مليارات دولار إضافية في صندوقها الخاص بالاستقرار الاقتصادي. وأعلنت الحكومة أن تلك الأموال سوف تُستخدم بجانب إجراءات أخرى للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في ظل العقوبات الحالية. وهى خطوة جديدة تؤكد بها روسيا امتلاكها الدولار لكنها لا تريد استخدامه في سداد الديون.

بجانب إيداع الأموال فإن السياسات الروسية الصارمة فيما يتعلق بالتعامل مع رأس المال تُعتبر أكبر سبب في الحفاظ على العملة من الانهيار. فقد منعت موسكو العديد من التجار الأجانب من الخروج باستثماراتهم، وأبقت عليها داخل البلاد. تلك السياسات هي التي مكنّتها من سداد عدد كبير من أقساطها بالدولار، ما أربك الغرب الذي توقع أن تؤدي العقوبات إلى دفع روسيا إلى التخلف عن سداد ديونها منذ اليوم الأول. بخاصة وأن الغرب المرتبك من الأصل في ما يتعلق بجدوى العقوبات على موسكو.

كذلك استطاعت روسيا التغلب على العقوبات الغربية بسبب صندوقها للأزمات الذي أنشأته منذ بداية عام 2015. لم تعلن روسيا عن قيمة رأسمال الصندوق لكنها اكتفت بالقول إنها تستخدمه لتعويض كافة الشركات التي تتضرر من العقوبات. نجحت روسيا بذلك الصندوق في تقوية شركاتها بدلًا من أن تضعف تلك الشركات أمام منافسيها. كذلك فإن الدعم الحكومي المفتوح لتلك الشركات تسبب في خسائر كبيرة للمنافسين الغربيين الذين أصبحوا ينافسون الحكومة الروسية وجهًا لوجه، لا مجرد شركة برأسمال محدود.

كما أن روسيا تلعب على وتر عدم هندسة العقوبات بشكل متناسق بين أوروبا والولايات المتحدة. فتعتمد روسيا على النفس الطويل الذي سيجعل شركاءها الأوروبيين عرضة للعقوبات عبر التعامل الاضطراري مع روسيا. خصوصًا أن روسيا باتت اختيارًا تجاريًا رئيسيًا للعديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها بروكسل.

تعاف مصطنع؟

تحاول روسيا ألا تجعل مواطنيها يشعرون بالتضخم أو بالعقوبات. فمع تقليل سعر صرف الروبل أمام الدولار الأمريكي قامت روسيا بتزويد مواطنيها بما يحتاجون إليه من سلع بخطط سداد ميسّرة، بحيث لا ترهق كاهل المواطن بالدين، وفي نفس الوقت لا يضطر المواطن لشراء العملة الصعبة ما يزيد من انهيار قيمة الروبل.

لكن تعافي الروبل الحالي قد لا يعني بالضرورة تجاوز العقوبات أو تلاشي أثرها. فخبراء الاقتصاد يقولون إن تعافي الروسي ما هو إلا نتيجة دفعة اصطناعية له. ويتوقع محللو الأسواق أن تقارير صندوق النقد الدولي التي توقعت بنمو الاقتصاد الروسي بنسبة 3% هذا العام، هى تقارير خطأ وشديدة التفاؤل، في حين يتوقعون هم أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة تترواح من 10% إلى 15%.

الدَفعة الاصطناعية التي يقصدونها هو قرارات بوتين بإجبار الدول غير الصديقة على الدفع بالروبل، بدلًا من اليورو أو الدولار. وحين لقي القرار معارضة كبيرة تراجع عنه بوتين وسمح لهم بالدفع بالدولار، لكن بعد فتح حساب في بنك جازبروبنك، التي سوف يقوم بتحويل المبالغ من دولار إلى روبل بشكل تلقائي. ما يعني أن بوتين يقوم بدعم الروبل لكن بصورة غير مباشرة.

ولدعم الروبل أيضًا قام بوتين بإعلان ربط قيمته بالذهب بشكل مباشر، 5 آلاف روبل لكل جرام ذهب. ما يعني أن الأونصة، 32 جرام ذهب، سوف تساوي 160 ألف روبل. ومع اعتبار أن روسيا لن تبيع الغاز إلا بالروبل فحسب، فإن الاختيار الثاني أمام المشترين هو الدفع بالذهب مباشرة. وبذلك يرفع بوتين من الغطاء الذهبي لدولته.

لست أول مرة

وبصفة عامة فإن تلك ليست أول هزة اقتصادية يتعرض لها الاقتصاد الروسي تحت حكم بوتين، فقد تعرض لأزمات سابقة منها ما تسبب فيها بوتين مثل غزو شبه جزيرة القرم والعقوبات المترتبة عليه، ومنها ما جاء رغمًا عنه مثل الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. وكذلك انهيار أسعار النفط عام 2014 و2016 وغيرها. لكن في تلك الأزمات لم يكن تراجع الاقتصاد الروسي ملحوظًا بقدر ما كان واضحًا في الاتحاد الأوروبي.

وإذا اعتمدنا على نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في روسيا، وهو مؤشر شائع الاستخدام وأساسي للاقتصاد، فإن نصيب الفرد ارتفع من 7 آلاف دولار عام 2000 إلى 28 ألف دولار عام 2020، يعني زيادة بنسبة 285%، وهى أكبر من الزيادة التي حدث في الاتحاد الأوروبي عن نفس الفترة وبلغت 65%. كما أن مؤشرات التوظيف تحت حكم بوتين تُظهر أداءً جيدًا، وهو أيضًا أفضل من أداء نظيراتها في الاتحاد الأوروبي. وحتى في التعافي من الأزمة الاقتصادية الحادثة جراء الجائحة الوبائية فإن الاقتصاد الروسي قد تعافى بوتيرة أسرع من باقي دول العالم.

اقرأ أيضًا: العقوبات الاقتصادية: سوط تخنق به أمريكا نفسها

ومع وجود العقوبات المباشرة نجحت روسيا في الالتفاف حولها عبر العديد من الشركاء الوهميين ووسطاء خارجيين. كما أن العولمة تخلق أسواقًا جديدة باستمرار، فمع وجود عقوبات في جهة، فإن روسيا توجه وجهها شطر سوق أخرى تحتضن منتجاتها. كما أن روسيا تعتمد على استيراد سلع ذات استخدام مزودج، مدني وعسكري، فإذا كان تزوديها بالمعدات العسكرية ممنوع، فبالتأكيد لا يمنع تزويدها بأدوات معينه لتنقية النفط واستخراج المعادن، التي تستخدم لاحقًا في صناعة الأسلحة.

كذلك فإن بوتين قد نجح في إبراز العقوبات الغربية بصورة منحازة، وأنها عقوبات غير قانونية، وأنه المكيال الغربي هو مكيال مزدوج. كما نجح بوتين في الحفاظ على تماسك نظامه، ووضوح أهدافه من الحرب الأوكرانية خصوصًا أمام الداخل الروسي. فالعقوبات تهدف بصورة جانبية إلى إثارة السخط الشغبي ضد الحاكم جراء تدهور الأوضاع المعيشية، لكن مع القبضة الحديدية، والآلة الإعلامية التي تتعب، يقتنع نسبة كبيرة من الروس بحتمية غزو أوكرانيا، وبمشروعية أهداف بوتين، وبضرورة تحمل الأوضاع المتردية من أجل الإطاحة بالولايات المتحدة من أستاذية العالم.